شبكة ذي قار
عـاجـل










مرة أخرى مدخل لتعريف مفهومنا للاستعمار والصهيونية:

ما يزال الجدل حول الأحداث التي تمر على ساحات الوطن العربي دائراً على قدم وساق. وهذه الأحداث ما تمَّ الاتفاق على إطلاق مصطلح ( الربيع العربي ) عليها. ونحن نستخدم هذا المصطلح ليس رفضاً لواقعيته أو قبولاً بها، وإنما لكي ندرجه في دائرة اهتمام الحركة الثورية العربية لمناقشته وتحليله واستخلاص الدروس منه. وحدث كهذا لا يمكن العبور إليه بتحليلات سريعة كحدث عابر، بل اعتباره حدثاً مفصلياً يحتاج إلى الكثير من النقاش والحوار الهادف والمسؤول على أن ينال اهتمام الباحثين والمفكرين والسياسيين الذين ينطلقون من ثوابت قومية على قاعدة أن ما يحصل في قطر ستكون له انعكاسات واسعة على الأقطار الأخرى. وإن الجدير بالاهتمام النظر إليه من زوايا كثيرة تستوعب كثرة المشاريع المشاركة فيه وكثرة الأهداف المرسومة له، أي بمعنى أنه ليس حراكاً شعبياً ذا أهداف واضحة، لأن فيه الكثير من السمين كما الكثير من الغث. وفيه الكثير من حسن النية والكثير من سوئها. لهذا، آخذين بالاعتبار خصوصيات القطر، سينصب اهتمامنا على النظر إليه، من أن الوطن العربي ما يزال يمر بـ ( المرحلة القطرية ) ، هذه المرحلة التي نعتبرها الحلقة الوسط بين حدين، وهما:

-مرحلة ما قبل القطرية، أي مرحلة التشرذم الطائفي والعشائري التي كانت تتلطى تحت عباءة الإمبراطورية الإسلامية العثمانية. وهي المرحلة التي تعمل قوى داخلية على الرجوع إليها، ويأتي على رأسها حركات الإسلام السياسي من جهة وأصحاب الأهداف القطرية من جهة أخرى، وهذه الحركات مدعومة من قوى أجنبية يهمها أن تبقى الأمة العربية في مرحلة تفتيت وشرذمة. وبهذا المقياس نعتبر أن ( المرحلة القطرية ) هي أكثر تقدماً من مرحلة ما ( قبل القطرية ) . وإذا كان الخيار محدداً بين أيهما الأفضل فخيارنا سيكون البقاء على ( المرحلة القطرية، وأما السبب فلأن القطرية تشكل كياناً موحداً لجزء من الكل القومي، أما ما قبل القطرية فهي مرحلة شرذمة للقطر الواحد ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل مرحلة العودة إلى سيادة العشائرية والقبلية والطائفية أيضاً، التي تعني استبدال المرحلة القطرية بدويلات هشَّة متنافرة ومتنازعة، وقد تصل نزاعاتها إلى حدود الدم.

-ومرحلة التوحيد القومي التي ما تزال شعاراً منشوداً في مشاريع القوى والأحزاب والتيارات القومية. وإذا كان الخيار محدداً بين أيهما الأفضل فإننا نعتبر أن المرحلة القطرية هي مدخل مرحلي تسبق مرحلة الوحدة الكاملة.

فأين تقع تلك المراحل الثلاث في مشاريع الخارج، خاصة منها المشاريع الاستعمارية والصهيونية أولاً، والمشاريع الإقليمية كتركيا وإيران ثانياً؟

من الثابت أن الاستعمار عندما أسقط الإمبراطورية التركية هو الذي أسس ( المرحلة القطرية ) على طريق منع قيام وحدة قومية عربية بين تلك الأقطار. ولما أصبحت المرحلة القطرية، بفعل الفكر القومي العربي، حلقة من حلقات بناء الوحدة العربية، كان لا بدَّ للاستعمار من تحطيم هذه الحلقة بوسائل أخرى راح يبنيها من مخزون استراتيجياته التآمرية. كما أن القوتين الإقليميتين، تركيا وإيران، راح يحدوهما الأمل باستعادة تأثيرهما التاريخي على أقطار الوطن العربي، سواءٌ أكان من خلال المرحلة القطرية، وإلاَّ فليكن بإعادة هذه الأقطار إلى مرحلة ما قبلها، حيث تلعب الطائفية دوراً مؤثراً لكل منهما وذلك بإحياء الصراع ( السني – الشيعي ) ، وهو الصراع التاريخي بينهما الذي استمر لقرون طويلة.

ومن المفيد أيضاً، كمدخل لقراءة أسباب ونتائج أحداث ( الربيع العربي ) ، أن نُلمَّ بمدى تأثير القوى الدولية على واقع أنظمة المرحلة القطرية. بحيث نستند إلى الأهداف الثابتة للقوى الاستعمارية، وهي التي تتمثل بثلاث: أمن النفط، وأمن إسرائيل، وأمن التجارة. وعلى أساس هذه الأهداف، يمكننا إلى حد ما أن نُصنِّف مدى تأثير تلك القوى على تلك الأنظمة، فنجد أنها تنقسم إلى عدة محاور تبعاً لبعدها أو قربها من الاستجابة والإذعان لأهداف الاستعمار والصهيونية في المحافظة على الأمن الاستراتيجي لكل منهما:

-محور أنظومة الدول العربية الملتزمة بأمن النفط: وهي الأنظمة القطرية التي استسلمت كلياً للشركات البترولية الكبرى، وهي دول الخليج العربي بشكل خاص. وبقي العراق وحيداً خارج هذه الأنظومة بعد أن أخرجت ثورة 14 تموز 1958 من منظومة حلف بغداد، وجاءت ثورة 17 – 30 تموز 1968 لتغيِّر الاتجاهات العقيدية للنظام العراقي ووضعته على سكة الاستقلال السياسي والاقتصادي مستندة إلى قرار تأميم النفط في العام 1972 حيث تمَّ توظيف الثروة النفطية لوضعها في خدمة أهداف الوحدة العربية. وأما بعض الدول الأخرى، فقد احتفظت بخصوصية جزئية لاستقلالية قرارها النفطي.

- محور أنظومة الطوق العربي ذات العلاقة بأمن ( إسرائيل ) : وهي أنظمة الطوق العربي المحيط بفلسطين المحتلة، مضافاً إليها العراق الذي وضع ثقله المادي والبشري إلى جانب الأنظمة والقوى الرافضة لعقد اتفاقيات استسلام مع العدو الصهيوني. وخرجت عن جادة الرفض كل من مصر بـ ( اتفاقيات كامب ديفيد ) ، والأردن بـ ( اتفاقية وادي عربة ) . وظلَّ لبنان وسورية خارج نادي الاتفاقيات مع العدو الصهيوني. وأما بعض الفلسطينيين فقد عقدوا ( اتفاقية أوسلو ) ، ووقف البعض الآخر ضدها. وظلَّ حبل الضغط الإمبريالي – الصهيوني يضيق على رقاب الآخرين، ومن لم يوقِّع منهم بالحسنى فعليه أن يوقِّع بغيرها.

-أمن التجارة: لم يبق خارج هذه الأنظومة نظام عربي واحد. وإذا كان الالتحاق بهذه الأنظومة ليس بمستوى الخطورة التي تمثلها أنظومة ( أمن النفط ) و ( أمن إسرائيل ) فلأن العلاقات التجارية لها أسسها وأصولها وقوانينها الدولية. والشيء الوحيد الذي يشكل خطاً أحمراً للمصالح الاستعمارية هو اعتماد عملة أخرى غير الدولار.

إن التذكير بهذه العناوين إنما كان ضرورياً لتوضيح دور القوى الخارجية في شؤون أقطار الوطن العربي، لنخلص منها إلى أن هذا الدور يندرج تحت استراتيجية ( الضغط الاستعماري – الصهيوني الدائم ) على الرافضين كلياً أو جزئياً، والهدف دائماً الحفاظ على أمن المصالح الاستعمارية. وهنا، من المفيد أن نصنِّف واقع الأنظمة استناداً لمدى استجابتها للإملاءات الغربية والصهيونية، وبناء عليه ترتفع الضغوط عن نوع من الأنظمة، وتنخفض بالدرجة عن أخرى، وتزداد على إلى حدها الأقصى على الرافضة منها.

-الاستعمار يرفع الضغوط عن الأنظمة التي قبلت بسياسة الاحتواء واستجابت لها، فحضيت بنعمته بالحفاظ على أمنها، سواءٌ منها من استجابت لاستراتيجية المحافظة على ( أمن النفط ) أم تلك التي استجابت للمحافظة على ( أمن إسرائيل ) . وهذه الأنظمة حظيت بحماية كلية من الاستعمار لأنه يعتبرهم حصته الكاملة، يحافظ على أمنها طالما تشكل ضمانة لمنع الإخلال بأمنيْه الرئيسين الاستراتيجيين، وإذا وجد خللاً ما في أدائها يقوم بتغييرها من دون تردد، ويملأ الفراغ باحتياطه من العائلات المالكة في الأنظمة الملكية، أو من الأحزاب الحاكمة في الأنظمة الجمهورية. وينطبق هذا الأمر على دول الخليج وإماراته من جهة، وعلى النظامين المصري والأردني من جهة أخرى.

استناداً إلى مفهومنا لاستراتيجية الاستعمار والصهيونية، يمكننا القول بأن الاستعمار جاهز دائماً لاستخدام أسلوب المؤامرة من أجل إحكام الهيمنة على قرار حلفائه من الأنظمة العربية، وإخضاع من لم يخضع منها بشكل جزئي أو كلي لإملاءاتهما، بحيث تُعتبر الولايات المتحدة الأميركية، منذ أكثر من نصف قرن رأس الحربة للاستعمار الرأسمالي. وهنا لا بدَّ من صياغة لما تُسمَّى ( نظرية المؤامرة ) بحيث يمكن القول إن الأنظمة العربية المستجيبة للأهداف الاستعمارية خاضعة لـ ( نظرية المؤامرة ) كلياً منذ بعد الحرب العالمية الثانية، وهي المرحلة التي ورثت فيها الولايات المتحدة الأميركية إرث الاستعمار القديم في وطننا العربي. أما الأنظمة العربية الأخرى، غير المدمجة كلياً أو جزئياً بالمشروع الاستعماري – الصهيوني، فهي معرَّضة دائماً لـ ( نظرية المؤامرة ) . وأما الدليل الأكثر سطوعاً ووضوحاً، فهي الحالة العراقية، التي لم يكن من السهل إسقاط نظامها الوطني لولا وجود ( نظرية المؤامرة ) . ولم تكن المقاومة الفلسطينية لتسقط لولا ذلك التأثير.

ومن هنا، تحصيناً لمواقف من يرى في مسيرة ( الربيع العربي ) سلبيات ومخاطر من جهة، ويرى أن لعامل ( المؤامرة ) تأثير واسع على تلك المسيرة من جهة أخرى، ودرءاً لوقوعهم تحت مرمى افتراءات من أصحاب الموقف الآخر، ندعو إلى الاعتراف بوجود ( نظرية المؤامرة ) حيثما هي موجودة فعلاً، والكشف عن زيف ادعاءات من يدافعون عن الأنظمة تعصباً. وأما أن يكون الرد موحداً على كل من يضع عامل ( نظرية المؤامرة ) في موقعها الصحيح لأنها ( مؤامرة بالفعل ) وليست مجرد ذريعة للتبرير، ومن يضعها في موقعها الزائف دفاعاً عن الأنظمة، لهو كلام إنشائي وتعبوي. وفي هذا الإطار نذكر ما حصل في العراق، وما كان يحصل ضد المقاومة الفلسطينية. فهل احتلال العراق كان نتيجة ( مؤامرة ) كاملة الشروط والأوصاف، أم كانت غير ذلك؟ وهل إيصال المقاومة الفلسطينية إلى ( اتفاق أوسلو ) إلاَّ مؤامرة متكاملة الأركان؟

مما سبق نستنتج أن تعميم تبرير مواجهة ( الربيع العربي ) بـ ( نظرية المؤامرة ) تعميم بعيد جداً عن المنطق، كما أن تعميم رفض النظرية بعيد عن الواقع الذي تعيشه حركات الربيع العربي. وهنا يدخل عامل خصوصية كل حراك في كل قطر عربي تهب فيه نسيمات ذلك الربيع. وبناء عليه سندخل في تحليل المشهد العربي الراهن على ضوء مفاهيم البعث ومؤسسه ميشيل عفلق للاستعمار وللجماهير وللديموقراطية.

بداية، قد يتساءل البعض لماذا جاء هذا البحث عن ( الربيع العربي ) مترافقاً مع البحث عن مفاهيم الحزب وميشيل عفلق للمسائل التي يدور الحوار حولها حينما نُخضع الحراك العربي للحوار والنقاش؟

وأما السبب فيعود إلى أن بعض الرفاق البعثيين يستندون في تحليلهم لهذا الحراك إلى ما جاء في التراث الفكري لميشيل عفلق. ولأننا بدورنا اكتشفنا أن هناك قراءات ناقصة فيما جاء في تحليل هؤلاء، وجدنا مناسباً أن نقرأ معهم تلك النصوص، وأملاً منا بسد ثغرة في تلك القراءات أن نقدم في ورشة الحوار الدائر قراءتنا الخاصة لها. ولهذا سنقدمها تحت سلسلة من الأسئلة، وهي التالية:

-كيف ينظر البعث ومؤسسه لدور الجماهير؟
عن الجماهير جاء في المادة ( 5 ) من دستور الحزب: «حزب ( البعث العربي الاشتراكي ) شعبي يؤمن بأن السيادة هي ملك الشعب وأنه وحده مصدر كل سلطة وقيادة، وأن قيمة الدولة ناجمة عن انبثاقها عن إرادة الجماهير، كما أن قدسيتها متوقفة على مدى حريتهم في اختيارها. لذلك يعتمد الحزب في أداء رسالته على الشعب ويسعى للاتصال به اتصالاً وثيقاً ويعمل على رفع مستواه العقلي والأخلاقي والاقتصادي والصحي لكي يستطيع الشعور بشخصيته وممارسة حقوقه في الحياة الفردية والقومية».

وفي إحدى مقالاته التي يعود تاريخها إلى مرحلة الستينيات، اعتبر ميشيل عفلق أن ( الجماهير هي المرجع الأخير ) ، حينذاك كانت أحزاب وقوى وتيارات حركة التحرر العربي ناشطة وفي عز فتوتها، ووصل بعضها إلى الحكم، ومنها حزب البعث. وربما أثَّر الوصول إلى السلطة في الابتعاد عن جماهير الشعب وأُهمل دورها وتم تجاهل مصالحها، فجاءت صرخة ميشيل عفلق لتحذِّر أحزاب حركة التحرر العربي، ومنها الأحزاب الحاكمة من سوء سلوكها عندما أهملت جماهيرها. لم يكن يقصد حينذاك أن الجماهير يجب أن تكون بديلاً عن الأحزاب المنظمة، بل كان يقصد أن الجماهير هي التي أوصلت أحزابها إلى السلطة لأنها كانت تعبِّر عن مصالحها، فعلى تلك الأحزاب أن لا تنسى شعاراتها وأهدافها التي هي شعارات الجماهير وأهدافها أيضاً. وبندائه هذا كان يريد إعادة تصويب العلاقة بين الأحزاب وشعاراتها والجماهير الشعبية، وهذا الثلاثي ( الحزب والأهداف والجماهير ) كلٌّ متكامل إذا أهمل ركن من أركانه يؤدي إلى فشل العملية الثورية. ولكن للأسف اختصر بعض الذين انخرطوا في ورشة تحليل ما يحصل من فصول ( الربيع العربي ) بركن واحد من أركان الثلاثية الثورية، واعتبروا أن حركة الجماهير هي حركة طليعية ثورية متناسين أن ما اعتبروه ( ثورة كاملة ) هي ثورة مهتزَّة الأركان عندما اقتصروا على عامل واحد، وهي بالفعل كذلك لأنها تفتقد إلى عامليْ الأهداف والقيادة الثورية. وأغرق بعض الذين انبروا للتنظير لمقدرة الجماهير، حتى بغياب الأهداف والقيادة، على إنجاز ثورة كاملة باتهام من يعتبر أن الجماهير بمفردها قاصرة عن بلوغ تلك الأهداف أنه يستخف بوعيها.

ونحن إذ نؤكد أن الجماهير قاصرة بغياب القيادة والأهداف الثورية، سنناقش هذه المسألة من واقع الحراك الشعبي نفسه:

لم تغيِّب الذاكرة حتى الآن الحشود المليونية في لبنان، تظاهرات مليونية قادها تحالف 14 آذار، تواجهها حشود مليونية قادها تحالف 8 آذار. ملايين الجماهير هذه تحركَّت تحت شعارات متناقضة، ألا تثير التساؤل من هي على حق؟ وألا يثير التساؤل هزال التجمعات الشعبية التي كانت تدعو إليها أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية، أي هزال تلك التجمعات قياساً لتجمعات 8 و14 آذار؟

تلك تجمعات مليونية، وهذه تجمعات بالكاد تبلغ عدة آلاف، وكل من تلك التجمعات تُعتبر حشوداً شعبية نزلت إلى الشارع ترفع شعارات وتعمل من أجل أهداف، فهل تلك الجماهير المليونية، بمجرد نزولها إلى الشارع، قادرة على قيادة التغيير؟ وأي تغيير تستطيع أن تنجزه طالما هي ترفع شعارات 14 و8 آذار. إنها جماهير منفعلة، وليست هي الجماهير الفاعلة. وماذا تستطيع أن تنجز من برامج التغيير طالما أن برامجها صيغت في مطابخ الأحزاب الآنية التي يتم توجيهها من خارج لبنان، ويتم تحريكها لأهداف ليست بأهداف وطنية، حتى ولا أهداف مطلبية وإصلاحية. وبالتالي نتساءل: هل تلك التجمعات تندرج تحت شعار ( الجماهير هي المرجع الأخير ) ؟

والآن، ما يجري في مصر، حشود شعبية متقابلة: جماهير الإخوان المسلمين من جهة، وجماهير المعارضة من جهة أخرى. وبعد إعلان المجلس العسكري عزل الإخوان المسلمين من السلطة تبادل الطرفان مواقع السلطة ومواقع المعارضة، وكل حشد منهما لا يقل عن عشرات الملايين، وكل حشد منهما يمثل جزءاً من جماهير مصر، ألا يطرح هذا التساؤل: أي من هذه الجماهير نعتبره ( المرجع الأخير ) ؟

وما هو حاصل في لبنان ومصر يحصل في تونس وفي ليبيا وفي فلسطين وفي سورية ..

نستنتج من كل ذلك أن تعميم شعار ( الجماهير هي المرجع الأخير ) يحمل الكثير من المغالطات ومن الالتباسات والإشكاليات. ولذلك نستنج أيضاً أن نصَّ ميشيل عفلق جاء في زمانه ومكانه الخاصين. وندعو إلى قرائته في ظل الظروف الخاصة التي أطلق فيها. ولذلك نؤكد، بدورنا على ملاحظتين مهمتين عندما نقرأ نصاً له، وهي:

أولاً: وجوب قراءة نصوص ميشيل عفلق على ضوء زمان كتابتها ومكانها، لأن زمان النص ومكان كتابته يحصِّن قارئه من الانزلاق نحو التعميم، والتعميم بقراءة نص ظرفي يؤدي إلى أخطاء في الاستنتاجات.

وثانياً: إن استخدام مفهوم في حالة وإغفاله في حالة أخرى يؤدي إلى ازدواجية في المعايير التي إذا هيمنت على تحليل ما فإنها تقود إلى التناقض، وسينزلق مستخدمها إلى إشكاليات والتباسات في منهج المعالجة، كما سيؤدي إلى نتائج ملتبسة هذا إذا لم تكن مضلِّلَة.

-كيف ينظر ميشيل عفلق للديموقراطية؟
يقول ميشيل عفلق في مقال، في العام 1946، تحت عنوان ( لماذا نحرص على الحرية – معركة الحرية معركة حياة أو موت ) : «كانت عقيدتنا دوماً أن الحرية .. أساس هذه الحياة وجوهرها ومعناها. والحرية لا تتجزأ فلا يمكن أن نثور على الاستعمار الأجنبي ثم نسكت عن الاستبداد الوطني .. ونحن مقتنعون بأن الاستعمار هو خطر ماثل دوماً، ممكن الوقوع أبداً، فإذا عوّد الشعب على الاستهانة بالحرية والرضا بالخنوع، كان معرضاً في كل دقيقة لعودة الاستعمار الأجنبي من جديد .. ». وفي مقاله هذا اعتبر ميشيل عفلق أن سورية قد نالت استقلالها السياسي في العام 1941، ولم يبق الاستعمار هاجساً، بل كانت الديموقراطية مطلوبة في ظل نظام مستقل عن إرادة الأجنبي. واعتبر أن غياب الديموقراطية حينذاك يؤدي إلى عودة الاستعمار.

وفي خطابه، في العام 1989، بعنوان ( الديمقراطية والوحدة عنوان المرحلة الجديدة ) يقول: «إن عنوان المرحلة التاريخية التي تبدأ الآن هو: الديمقراطية والوحدة، واعتبار الديمقراطية عملية إنقاذ للأمة كما هي الوحدة. فالديمقراطية .. هي حاجة إنقاذ أمام ما أصاب هذه الأمة في العقود الأخيرة من تداع وترد وهبوط وانقسام وضياع، أوصلها إلى نوع من الشلل. .. إنها فترة قاسية من حياة الأمة، وكاشفة لما خلفه غياب الديمقراطية من آثار مدمرة في بنيان العمل القومي».

عندما كتب ميشيل عفلق عن الديموقراطية، فقد ربطها مع طبيعة البيئة السياسية التي كانت سائدة حينذاك. ففي نصه الأول كان هاجسه من أن يؤدي غياب الديموقراطية إلى عودة الاستعمار، لأنه يعتبر وجود الاستعمار يتناقض مع وجود الديموقراطية، كما أن غيابها يفتح الطريق لعودته.

وفي نصه الثاني فلا شيء يدل على إعطائها أولوية على محاربة الاستعمار لأن الاستعمار لم يكن قد تمكن كلياً، في أواخر الثمانينيات من القرن العشرين، من احتواء كل أقطار الأمة العربية إذ كانت لا تزال بعض الأنظمة تقف في صف الرفض، وبعضها الآخر، وإن استكان أمام بعض إملاءاته إلاَّ أنه كانت له استقلالية في قراره في جوانب أخرى. وإذ وجَّه ميشيل عفلق نداءه، في العام 1989، فقد كان يريد تحذير من لم يرهن إرادته كلياً للاستعمار بأن تلك الإرادة لن تكون عصية على الاحتواء إذا ما استفحل تغييب الديموقراطية عن الحياة السياسية الداخلية لتلك الأنظمة. فكانت دعوته لتعميق جذور الديموقراطية تحصيناً لتلك الأنظمة من الوقوع في براثن الاستعمار مرة أخرى.

-وكيف ينظر البعث للاستعمار؟
جاء في دستور الحزب أن: «الاستعمار وكل ما يمت إليه عمل إجرامي يكافحه العرب بجميع الوسائل الممكنة، وهم يسعون ضمن إمكانياتهم المادية والمعنوية إلى مساعدة جميع الشعوب المناضلة في سبيل حريتها». ولذلك دعا «إلى النضال ضد الاستعمار الأجنبي لتحرير الوطن العربي تحريراً مطلقاً كاملاً».

كما أكَّد صدام حسين على أولوية طرد الاحتلال، في رسالته المؤرخة في 28 نيسان 2003، قائلاً للشعب العراقي وأبناء الأمة العربية والإسلامية: «انسوا كل شيء، وقاوموا الاحتلال، فالخطيئة تبدأ عندما تكون هناك أولويات غير المحتل وطرده .. ».

وفي رسالته الخطة الثانية إلى شعب العراق والمقاومين العراقيين، في 7 أيار من العام 2003، معطياً الأولوية لمقاومة الاستعمار، خاطب العراقيين، فقال: . «وإن رأيتم العدو يريد النيل من سورية أو الأردن أو السعودية أو إيران، فساعدوا في مقاومته، فهم ورغم الأنظمة إخوتكم في الدين أو العروبة. وساعدوا الكويت وبقية دول الخليج العربي ومصر والأردن وتركيا ليتخلصوا من العدو الأمريكي».

وشدَّدت القيادة القومية أيضاً في 15/ 5/ 2013: «على إدانة التدخل الأجنبي والرجعي في سوريا بكافة أشكاله وصوره واعتباره امتدادا للتدخل في العراق».

كما أكد الرفيق عزة ابراهيم على وقوف الحزب إلى جانب الانتفاضات الجماهيرية، في خطابه بمناسبة الذكرى 91 لتأسيس الجيش العراقي، قائلاً: «نحن معكم .. حتى التحرير والتحرر والانعتاق من تسلط الأنظمة الدكتاتورية». لكنه أكد في المقابل في حديثه لجريدة الجمهورية القاهرية في 23/ 5/ 2013، قائلاً: ( إننا نحذر إخواننا وأشقاءنا ورفاقنا في الانتفاضة العربية أن لا يمدوا يداً للقوى الاستعمارية .. مهما جار عليها الجائرون من حكام خونة وعملاء كما يحصل اليوم في سوريا الشقيقة من قتل وتدمير وتخريب وتهجير وتشريد ) .

-كيف ينظر البعث، إذن، للعلاقة بين معركة التحرر الوطني ومعارك الإصلاح السياسي ومنها المسألة الديموقراطية؟

بعد نقل بعض الشواهد من أقوال من يعبِّرون عن ثوابت الفكر البعثي، نتساءل: كيف يجب أن نقرأ ثنائية العلاقة بين معركة التحرر الوطني والقضايا المطلبية الأخرى، ومنها المسألة الديموقراطية؟

استناداً إلى علاقة الاستراتيجي بالمرحلي، نعتبر أن المرحلي يعالج تفصيلات القضايا على ضوء الرؤية الاستراتيجية، وهذه بدورها تعتمد الثوابت المبدئية مقياساً لصحة منطلقاتها أو خطأ تلك المنطلقات. وإذا كانت محاربة الاستعمار بكل الوسائل المتاحة لها الأولوية على كل القضايا الأخرى، فتكون لمحاربة الاستعمار أولوية على الديموقراطية. وهنا يمكننا التساؤل: وهل تكون مهمة الحركة الثورية العربية أولوية المطالبة بالديموقراطية في دول الخليج على المطالبة بتحرير تلك الدول من الهيمنة الاستعمارية؟

لكن وحتى لا يفهم البعض أن على المواطن الخليجي أن يؤجل معركته الإصلاحية حتى تنضج ظروف تحرير بلاده من الهيمنة الاستعمارية، نعتبر أن مهمات التحرر الوطني مترابطة مع مهمات الإصلاح الداخلي، ولكن نعتبر أيضاً أن مهمات الإصلاح الداخلي ستبقى مُنتقَصَة طالما بقيت الهيمنة الاستعمارية مستمرة. وقراءة سريعة لتلك العلاقة يتأكد لنا أن الاستعمار يستطيع أن يتدارك أي حراك محتمل في تلك الدول باعتماد قشور من الإصلاحات لا تمس جوهر حقوق الشعب. وأما الدليل، فهو أن بعض دول الخليج قد استبقت أي حراك خليجي، تأثراً بالحراك التونسي والمصري، بتقديم بعض الامتيازات المالية لبعض الشرائح الشعبية. فجاءت تلك الامتيازات على شكل نوع من الصدقات التي لا تمس جوهر التنمية الاقتصادية، أي عبارة عن زيادة في الرواتب وتسكين آلام البطالة التي تعاني منها الشرائح الشبابية.

ولما تحوَّل الحراك الشعبي في بعض الأقطار العربية إلى حراك مسلَّح تحوَّل بدوره إلى تدمير واسع لمرافق الدولة، على هزال إمكانياتها ودورها. وهنا يستحضرنا التساؤل: وهل الحراك المطلبي الذي يرفع شعارات الديموقراطية والعدالة الاجتماعية يمكن تحقيقها فيما لو انتصر المتحركون من الشعب؟ وماذا يبقى للشعب في ظل القتل والتدمير؟ هل يبقى شيء ما يبرر القول إن الانتصار قد حقق الديموقراطية؟ وهل يبقى للشعب من الإمكانيات المادية ما يمكن القول بأنها ستحقق العدالة الاجتماعية؟

وأما القول بأن الثورات التي تسقط الأنظمة لا تستطيع أن تنجز مهماتها الثورية دفعة واحدة، بل لا بدَّ من هزات ارتدادية ستعقبها، فهذا تحليل يتنافى مع واقع الحال، لأن التداخلات الأجنبية ( الاستعمارية ) التي ساعدت على تسليح ( الثورات ) وتمويلها، وإسنادها بجحافل طويلة من وسائل الإعلام، و .. ، حتى أسقطت الأنظمة، فهي لن تكون عاجزة عن تحويل الهزات الارتدادية لمصالحها.

ما يطفو على سطح الحراك وجوهره استبدال الديكتاتوريات القطرية بديكتاتوريات انفصالية:

ومن استعراض سريع لأهداف الحراكات، باستثناء تونس ومصر في مرحلتيهما الراهنة، نجد أنها خالية من شعار الدعوة للوحدة العربية، أو مساندة المقاومة العربية، أو التخلص من الاستعمار والصهيونية، أو الكشف عن العلاقة مع الإقليم الإيراني والتركي على الرغم من خطورة أهدافهما على الوطن العربي، بل ما نسمعه من أهداف ذات أبعاد قومية هو القليل القليل خاصة من قوى وأحزاب وحركات ليست ذات تأثير واسع.

واستدلالاً على ذلك، ولفتاً للنظر إلى دور أميركا في ( الربيع العربي ) بشكل خاص، والأطلسي بشكل عام، وبالنظر إلى ما يجري في ليبيا بعد ( الربيع الأطلسي ) ، وإلى حد كبير في تونس ومصر، لقد سقطت ديكتاتورية القذافي وبن علي وحسني مبارك، وحلَّت مكانها ديكتاتورية ( النهضة ) و ( الإخوان المسلمين ) و ( قبائل ليبيا وعشائرها وميليشياتها ) .. هذا إذا لم نتطرق إلى نتائج تطبيق ( الديكتاتورية الأميركية ) في العراق التي ثبتَّت ديكتاتورية الميليشيات ( المذهبية والطائفية ) ..

وخلاصة القول إن الربيع العربي، لكي يكون ربيعاً عربياً، يجب أن يكون متكاملاً بين حدود ثلاث، وهي: الأهداف والوسائل والنتائج. على أنه لو جاءت هذه الحدود بصيغة التعميم إلاَّ أن تحليل كل حراك قطري له خصوصياته واستثناءاته، ومن الأكثر موضوعية للتحليل نرى أن يتم تقييم كل حراك بمفرده، وبالتالي وضع خلاصات عامة لتلك العلاقات بمنظار قومي عربي.

وإذا كان لنا عودة أخرى لنقاش علاقات هذه الحدود بين بعضها البعض، نلفت النظر إلى مسألتين:

-الأولى: إن أهداف الحراك الشعبي العربي، باستثناء الثورة داخل الثورة التي تحصل في كل من تونس ومصر بشكل جزئي، هي أهداف قطرية بامتياز، ووسائله لا تلحق بها الشبهة فحسب بل يلحق بها الكثير من الاتهامات، وأما نتائجها فكارثية بمقدار كبير، إذ لو نظرنا إلى ما حصل حتى الآن من كوارث نتيجة ( الربيع العربي ) فحدِّث ولا حرج.

-وأما الثانية: فهي أنه لا يجوز مقارنة الثورة العراقية بغيرها من الحراك الشعبي العربي. وكذلك لا يجوز التشكيك بثورة الشعب الفلسطيني التي انطلقت منذ العام 1965، أي ما قبل مرحلة ( اتفاق أوسلو ) .





الخميس ١٩ شعبــان ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٦ / أيــار / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حسن خليل غريب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة