شبكة ذي قار
عـاجـل










قبل ثمانية وستين عاماً، أعلنت الحركة الصهيونية رسمياً، إقامة كيانها على مساحة من أرض فلسطين. وقد جاء هذا الإعلان في سياق إنفاذ خطة رسمت معالمها الأولى مع دعوة نابليون لإقامة وطني قومي لليهود، ثم ما لبثت أن أصبحت المحور الأساسي لبروتوكلات حكماء صهيون منتصف القرن التاسع عشر. وقبل أن يطوي ذلك القرن سنواته الأخيرة، كانت الحركة الصهيونية تعقد مؤتمرها الأول في بازل – سويسرا، لتؤشر على فلسطين كموطن لليهود في الشتات وحيث ما كان لهذه الدعوة أن تشق طريقها إلى التنفيذ العملاني لولا الاحتضان الاستعماري لها، والذي وضعت لبناته الأساسية عام /1907 في توصيات المؤتمر الذي دعا إليه رئيس وزراء بريطانيا آنذاك باترمان، والتي جاء فيها أن مصالح الدول الاستعمارية تقتضي زرع جسم غريب في قلب المنطقة العربية، يكون صديقاً لهذه الدول وعدواً لسكان المنطقة وعلى الجسر البري الذي يربط آسيا بافريقيا وعلى مقربة من قناة السويس.

هذه التوصية هي ما بني عليه لاحقاً، من خلال تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، وإصرار بريطانيا على انتدابها لفلسطين ومن ثم وعد بلفور.

على مدى ثلاثة عقود من الزمن كانت فلسطين أرض مواجهة مستمرة بين شعب فلسطين والذين استقدموا محمولين على رافعات الحماية الدولية وخاصة البريطانية منها، إلى أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وما أفرزته من نظام دولي جديد، كانت أولى تداعياته المباشرة على العرب هو الاعتراف الدولي بالكيان الجديد، ومنح هذا الكيان "شرعية" دولية عبر اعتبار هذه الدولة عضواً في الأمم المتحدة والعديد من الهيئات الدولية الأخرى ذات الصلة.

إن الاعتراف الدولي بالكيان الصهيوني، لم يمنحه "شرعية" تطبيع سياسي مع المحيط العربي، وكان الرفض يقوم على نصابي الرفض الرسمي والرفض الشعبي، إلى أن حصلت متغيرات في معطى الواقع المادي والسياسي الذي أفرزته نتائج المواجهات العسكرية وخاصة في حرب 1967 والتي درج التعامل الإعلامي معها على إدراجها تحت عنوان النكسة.

بعد حرب 1967، بدأ الاتجاه الراجح في النظام الرسمي العربي يفصح عن مضمر لديه، يتلخص بإسقاط الرفض الرسمي للكيان الصهيوني وقد ترتب على ذلك تدرج وصل حد الاعتراف به عبر اتفاقيات ثنائية، ومن ثم طرح موضوع الاعتراف الشامل استناداً إلى ما أندرج تحت مبادرات التسوية سواء تلك التي طرحتها مرجعيات دولية، ثنائية الطرف ،أو متعددة الأطراف، أو تلك التي طرحتها مرجعيات رسمية عربية.

وحتى هذه اللحظة، فإن أي من المبادرات الشاملة المشار إليها، لم تشق طريقها إلى النفاذ، حسب لكونها تواجه فقط برفض ، يحتل مساحة في الموقف السياسي والشعبي الفلسطيني كما يحتل مساحة واسعة جداً من الموقف الشعبي العربي، بل أيضاً لأن العدو الصهيوني يرفض الاعتراف أصلاً بوجود شعب عربي على أرض فلسطين ،لأن هذه الأرض موعودة لليهود بحسب الأساطير التي أسقطت على النص الديني ودخلت في صلبه كنص مقدس.

وهذا ما جعل هذه المقاييس والمعايير تنقلب رأساً على عقب عبر تحول الموقف من رفض فلسطيني أولاً وعربي ثانياً لإضفاء أية شرعية على الاغتصاب لفلسطين إلى رفض صهيوني لأي حق للفلسطينيين في أرضهم عيشاً وإدارة سياسياً. وهذا ديدن الحركة الصهيونية ومنذ بدأ الأعداد للسيطرة على فلسطين والتي كانت عينها على كل فلسطين وليس على بعضها فقط . وأن هذه الاستراتيجية كانت تنفذ على مراحل وعلى قاعدة القضم والهضم وهي استفادت من جملة عوامل: منها وحدة المرجعية السياسية والعسكرية التي تدير الصراع مع العرب، والاحتضان الدولي وخاصة من المواقع المقررة في النظام الدولي وأن تبدلت مواقعه، وقوة تأثير الحركة الصهيونية في وسائط الإعلام والرأي العام، وامتلاكها للعديد من مفاتيح التأثير في السوق الاقتصادية، وإذا ما أخذت بعين الاعتبار هذه العوامل في وقت لم يتعامل النظام الرسمي العربي استناداً إلى مركزية موحدة في إدارة الصراع بكافة جوانبه، ولم يضعه في إطار بعده القومي الشامل، بل أكثر من ذلك أن بعضاً من مفاصله هي أسيرة الاملاءات الدولية وخاصة تلك التي توفر الحماية الدولية للكيان الصهيوني لتبين أن ميزان القوى هو دائماً مختل لمصلحة العدو، وهذا الاختلال يترجم بتقدم في الخطوات التنفيذية للمشروع الصهيوني وتراجع في المشروع المقابل وبما أوصل الوضع إلى حد "الاستجداء" للحصول على بعض من الحقوق المدنية في إطار منظومة الترتيبات السياسية والأمنية في الأرض المحتلة.

من هنا، فإن الحدث الكبير الذي أطلق عليه اسم النكبة لثمانية وستين عاماً، وهو أن لم يكن مدركاً جيداً آنذاك بحقيقة أبعاده ،بات اليوم مدرك جداً، من خلال المحاولات المحمومة الرامية لإعادة إنتاج نظام إقليمي يدخل هذا الكيان ضمن صلب منظومته، وهذا الإدخال للكيان الصهيوني لا يمكن أن يشق طريقه للنفاذ إلا إذا انتزع شرعية اعتراف فلسطيني به أولاً، وشرعية اعتراف عربي به ثانياً. وعلى هذا الأساس، يتم توظيف معطيات موازين القوى المادية والسياسية الحالية لانتزاع هذين الاعترافين، وهما وأن كانا لم ينجزا حتى الآن فبسبب الرفض الشعبي في الداخل الفلسطيني من ناحية، والرفض الشعبي العربي والذي وأن أغرق حراكه باشكال مختلفة من الاختراقات المعادية بأبعادها الاجتماعية والوطنية والقومية، إلا أنه ما يزال على درجة عالية من التحصن النفسي والتعبوي والشعبي والسياسي ضد التطبيع مع العدو والاعتراف وبشرعية الاغتصاب.

ومن هنا يبدأ التأسيس لإنتاج واقع جديد في فلسطين وفي كل ساحة عربية تعرضت للاحتلال خدمة لاستراتيجية التحالف الصهيو-استعماري المفتوح على علاقاته تحالفية مع دول الإقليم وتمارس الاحتلال والتخريب والتدخل الموصوف والمكشوف لإضعاف الموقع العربي وجعله في حالة تلقي لما يراد فرضه عليه في إطار مستلزمات إقامة النظام الإقليمي الجديد والذي يراد له أن يستند إلى ثلاث متكئات إقليمية غير عربية هي "إسرائيل" وإيران وتركيا .وإذا ما قيض لهذا النظام الإقليمي أن يقوم، فإن إقامته ستكون على حساب الحق التاريخي للعرب في فلسطين وعلى حساب الحق الطبيعي للعرب في النهوض والتقدم والتوحد وعندئذ ستكون قد ارتسمت كل معالم النكبة التي يقال عنها فلسطينية فيما الحقيقة أنها قومية.

في هذه المناسبة التي أدرجت في القاموس السياسي تحت مسمى النكبة، يجب عدم الوقوف على إطلالها بكاء، بل الوقوف عند دلالاتها وابعادها وعبر وضع الخطط لإسقاط نتائجها وبالتالي كل تأثيراتها السلبية وتداعياتها. ولا سبيل إلى ذلك إلا بإعادة الاعتبار للموقف النضالي الذي يعتبر المقاومة الشعبية هي السبيل الوحيد لأبطال مفاعيل موازين القوى المادية القائمة، وبالتالي وضع هذه المقاومة في إطار بعدها القومي الشامل، واعتبار كل فعل نضالي مقاوم للعدو ولكل حلفائه والمتحالفين معه فوق الطاولة وتحتها، انما يصب في خدمة المشروع القومي التحرري والذي تبرز مشهدياته الواضحة أولاً على المسرح الفسطيني. فاليوم يراد أن يظهر التراجع في الوضع العربي على ساحة فلسطين، والعكس صحيح أيضاً. إذ أن النهوض العربي إنما يظهر مباشرة على ساحة فلسطين وهذا ما يجب أن يعمل لأجله. وعندئذ لن تعود ذكرى النكبة، تستحضر كمحطة زمنية يبكى على إطلالها بل تستحضر كمحطة يجب التوقف عندها للانطلاق في مسيرة جديدة وصولاً إلى محطة أخرى ستكون نكبة لأعداء الأمة وهذا ليس مستحيلاً الوصول إليه، إذا ما أدركت الأمة أنها تملك إمكانات تمكنها من الاستنهاض وحمل لواء المشروع التحرري ضد كل من يناصبها العداء سواء كان متربصاً بها من على مداخلها، أو مستوطناً في داخلها. ولو لم تكن الأمة تملك إمكانيات النهوض والتقدم، لما تضافرت عليها القوى المعادية وائتلفت في حلف غير مقدس ضدها. والمهم أن يعي العرب حقيقة ذاتهم ويواجهون بوحدة الموقف والرؤى على قاعدة برنامج تحكمه الرؤية الاستراتيجية لتحرير الأرض من الاحتلال أياً كانت أطرافه وإطلاق مشروع التوحد القومي على قواعد الديموقراطية والحرية والتعددية السياسية.





الاربعاء ١١ شعبــان ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٨ / أيــار / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب كلمة المحرر الأسبوعي لموقع طليعة لبنان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة