شبكة ذي قار
عـاجـل










قلنا في الجزء الحادي عشر من مقالاتنا المسلسلة : لقد فشلت الدولة القطرية ذات الأساس الديني في احتواء أجزاء كبيرة من مساحة أرض الأمة العربية ، ولم تستطع توحيدها لغرض ميلاد الدولة القومية للأسباب التي ذكرناها سابقا ، فلماذا لم تنجح الدولة القطرية ذات الهرم القومي في تحقيق وحدة عربية تكون مصدرا لقوة الأمة ومرتكزا لجميع أقطارها ؟ إن هذا التساؤل يقودنا إلى التعرف على التجارب الوحدوية للقوى القومية التي ظهرت في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي ، وأصبح لها تأثير كبيرا في الشارع العربي ، ونقصد بذلك البعث في سوريا ونظام عبد الناصر في مصر ، ومن ثم الإجابة عن أسباب عدم نجاح الدولة القطرية ذات الأهداف القومية في تحقيق وحدة أوسع وصولا إلى الوحدة العربية بدولتها القومية الكبرى ، بعد أن تحققت أول وحدة بين قطرين عربيين هما سورية ومصر أراد لهما الاستعمار أن لا يلتقيان ، وذلك في الثالث والعشرين من شباط عام 1958 .

إن من الحقائق التي لا تغيب عن ذهن أي كاتب أو متصدي للكتابة عن الوحدة العربية ، هو أن الأمة العربية حققت وحدتها في انتصار الدعوة الإسلامية ، وكانت هناك دولة قومية توسعت إلى بناء دولة مترامية الأطراف بجانبها الإنساني بعد أن أصبحت حدودها على مشارف الصين وضمت بلاد ما وراء النهر، إلا أن هذه الدولة تفككت وسقط كيانها السياسي ، وأصبحت الأمة مجزاة تحت حكم الغزاة الأجانب ، بسبب الضعف الذي دب في عقول قادتها والابتعاد والافتراق عن المبادئ التي كانت سببا في وجودها وانتصارها ، إلا أن شعورها القومي وأواصر الروابط بين أبنائها ظلت قائمة في عقولهم وفي أفئدتهم ، ولم يشعر العربي في أي يوم من الأيام انه لا يرتبط بأمة حباها الله وانتسب إليها رسوله العظيم محمد صلى الله عليه وسلم ، فالعربي في أي مكان من أرض الأمة يدرك انه جزء من أمة حدودها من المحيط الأطلسي حتى الخليج العربي ، ويقرأ أن أجداده وآباءه كانوا لا يعرفون التوقف عند عتبة أي من المدن العربية في مشرق الوطن أو في مغربه ، وهذا الإحساس الباقي والدائم سيدفعه في كل وقت وخاصة عندما تضعف قوى الأمة ويطمع بها الأجنبي من أجل السيطرة عليها الى العودة إلى بناء تلك الوحدة مهما غلى الثمن وازدادت التضحيات ، لأنها وسيلته في البقاء ووسيلته في البناء والتطور ووسيلته لأن يحتل موقعا في عالم الإنسانية للمساهمة في رفاه وأمن العالم ، ومن هذه المقدمة نستطيع أن نفهم كيف قامت وحدة 1958 بين سوريا ومصر ، وكيف أرادها شعبا البلدين والمخلصون من السياسيين لهذه الوحدة أن تكون نواة للوحدة العربية الكبرى والشاملة . في سوريا كان المد القومي قد تجاوز معوقاته وأصبح فيها حزبا قوميا معبرا عن آمال الأمة في الوصول إلى وحدتها ، ألا وهو حزب البعث العربي الاشتراكي الذي لم تكن ولادته ولادة طارئة في حياة الأمة ، وإنما جاء نتيجة مخاض كبير للعروبة والفكر القومي الذي آمن به شعب سورية بكافة أطيافه ، فالبعث أعطى للوحدة أرجحية على الهدفين الأخريين الحرية والاشتراكية ، لماذا ؟ لأن الوحدة هي الضمانة الأكيدة لنجاح أي عمل على طريق الحرية والاشتراكية ، فما فائدة الحرية أو الاشتراكية عندما يتحرر قطر من أقطار الأمة ويبقى الشعب العربي في الأقطار الأخرى مكبلا مضطهدا وجائعا ، فالقطر الذي يتحرر عليه أن يكون مركز الانطلاق إلى أقطار الأمة الأخرى ، وبهذا الفهم يكون قد وضع الوحدة في أولوياته رغم أنه تحرر قبل غيره ، لأنه مؤمن بأنه جزء من أمة ، وكذلك الحال للقطر الذي يحقق طفرة كبيرة في رفاهية شعبه وزيادة الدخل القومي لبلده ويكون لديه تراكم مادي كبير ، فعليه أن يفكر بشعوب أقطار الأمة الأخرى الذين يشكلون مجموع الشعب العربي ، وبالكيفية التي يتساوون فيها مع أشقائهم في ذلك القطر الذي استطاع أن ينجز هدفا من أهداف الأمة على طريق تحررها وتقدمها ، لكن في إطار الوحدة ، فالوحدة حاضنة لكل الطاقات ولكل الإمكانيات فبها تمتلك الأمة إرادتها وتمتلك قدرها وقرارها القومي المستقل ، كي تأخذ طريقها بين أمم العالم ، التي تكالب فيها الكبار للاستحواذ على مقدرات الآخر قهرا وزورا وبهتانا . وقولا على بدء فان ثورة تموز / يوليو عام 1952 في مصر كانت فاتحة لعهد جديد في اللقاء بين القطرين سواء على مستوى الجماهير أم على مستوى النخبة ، خصوصا بعد بروز الوجه العربي للثورة فكرا وسلوكا ، ومنذ ذلك الوقت أصبح التفاعل القومي بين القطرين عنصرا فاعلا في ساحتيهما السياسية ، مما يعني أن الإرادة السياسية لصنّاع القرار في القطرين المدعومة شعبيا هي التي أقامت الوحدة ، فحين حصلت سوريا على استقلالها الكامل تطلعت إلى مصر، وحين حصلت مصر على استقلالها الكامل تطلعت إلى سوريا ، وحتى العراق بعد نجاح ثورته في القضاء على الاستعمار والتبعية البريطانية في 14 تموز / 1958 تصاعد صوت الشعب وقواه القومية بالوحدة ، ولقد كان التقارب بل التوافق والتماثل كاملاً بين مصر وسورية حتى قبل أن يوقع ميثاق جامعة الدول العربية ، وحتى بعد أن تم توقيعه وأرادت له بعض القوى أن يبقى حبراً على ورق. لقد أثبتت تجارب الدول القطرية أن لا أمنا قوميا يتحقق ، ولا تنمية اقتصادية تقوم، ولا ديمقراطية حقيقية تسود ، ولا عدالة اجتماعية تترسخ ، من دون كيان عربي أكبر حاضن للكيانات الوطنية القائمة ، ومحترم لكل خصوصياتها، ولهذا لم تكن الوحدة عفوية وغير مدروسة ، إذ جاءت تتويجا للتفاعلات التي تواصلت بين سورية ومصر منذ التقى صنّاع قرارهما على رفض حلف بغداد في ربيع 1955. وفي عام 1957 سارع عبد الناصر بإرسال قوات عسكرية مصرية إلى سورية كي تشارك في ردع عدوان تركي محتمل عليها، في سابقة هي الأولى من نوعها منذ أن بدأت الدول العربية مسيرتها نحو التحرر من الاستعمار الأوروبي.

إن التجزئة العربية أفرزت العديد من الإشكاليات الخطيرة المنهكة لأمة العرب والمضعفة لقدرتها على المقاومة والصمود ، في وجه المخططات الامبريالية والصهيونية والدول الإقليمية كتركيا وإيران للسيطرة عليها وإخضاعها ، فلاقى هذا الطرح الصحيح تثمينا عاليا في سوريا، عزز لدى شعبها وأحزابها الوحدوية والتقدمية آنذاك السعي من أجل توحيد القطرين الشقيقين سوريا ومصر. ولهذا فقد أعقب الوحدة مناخاً ثورياً ساعد على إنضاج الظروف الموضوعية في العراق وذلك بانبثاق ثورة 14تموز من عام 1958 ، والذي أحدثت صدى ثورياً عميقاً في المنطقة أرعب القوى الاستعمارية وحلفائها ، حيث سارعت القوى الاستعمارية إلى نجدة الأنظمة العميلة في المنطقة خشيه سقوطها جراء المد الثوري الشعبي الذي صاحب نجاح الثورة في العراق ، وكما حصل في لبنان بقيام الأسطول السادس الأمريكي باحتلال بيروت ونجدة نظام كميل شمعون ، في الوقت الذي سارعت فيه القوات البريطانية بالنزول في عمان، لقد نجت الوحدة واستبشر الشعب العربي وبالأخص في القطرين العربيين سوريا ومصر خيرا في وقوعها ، إلا إن المؤلم في هذه التجربة الفتية هي وقوع الانفصال في الثامن والعشرين من أيلول عام 1961 ، بسبب قيام الانقلاب العسكري في القطر السوري وإعلان الانفصاليين بعودة سوريا إلى وضعها ما قبل قيام الوحدة باسم الجمهورية العربية السورية ، وهنا سوف نحاول أن نلقي نظرة شاملة على عوامل الانفصال كما حللها دارسوها وأن نحاول بعد ذلك تطوير نظرة نقدية لها .

إن عوامل الانفصال تندرج في مجموعتين أساسيتين : الأولى تنبع من نظام الوحدة ذاته ، والثانية من بيئته الخارجية ، فنظام الوحدة كان بصيغته الاندماجية والذي رافقه ضعف مؤسسي وغياب للديمقراطية في دولتها ، فكان هناك صدام بين قوى الوحدة القومية ( البعث وعبد الناصر ) ، وهناك اختلال في التوازن بين القطرين لمصلحة القطر المصري ، وهناك إجراءات اتخذت لتحقيق العدالة الاجتماعية في دولة الوحدة ، فالصيغة الاندماجية لم تكن مناسبة في رأي البعض لأسباب منها واقع التمايز بين القطرين سواء في التجربة السياسية ، أو التنظيم الاقتصادي ، أو البنية الاجتماعية ، أو عدد السكان ، أو في عمق الفكرة القومية لديهم ، لكن الأسباب الأكثر إثارة للأسى في الانفصال هو الصدام بين القوى القومية في دولة الوحدة ، أي الصدام بين عبد الناصر والبعث ، ومبعث هذا الأسى انه لم يكن خلافا أيديولوجيا برز في هذا الصدام ، وإنما كان الأمر بالأساس يدور حول الصيغة التي تجمع بين هذه القوى ودورها في قيادة دولة الوحدة ، وان هذا الصدام على ما يبدو كان صداما بين تجربتين مختلفتين ، قيادة عبد الناصر المؤمنة بالقومية العربية والتي حققت انجازات كبيرة في هذا المجال لكنها اعتمدت أولا على التنظيم العسكري الضيق ، وحزب البعث القومي العقائدي الملتزم الذي حقق انجازات سياسية ملموسة في القطر العربي السوري ، وعلى الرغم من أن البعث حل تنظيماته بناء على طلب عبد الناصر كشرط لقيام الوحدة ، وذلك لإيمانه بقيام خطوة على طريق الوحدة تكون بداية لخطوات وحدوية قادمة ، وهي مبعث الأمل في قيام الوحدة العربية المنشودة ، إلا أن البعث كان يرى نفسه مؤهلا لان يكون الشريك في حكم دولة الوحدة ، بينما كان عبد الناصر يرى أن البعث يجب أن يبقى مجرد شريك لأنه ليس الفصيل القومي الوحيد في القطر العربي السوري ، وكانت هناك عوامل أخرى قد فاقمت هذا الخلاف فسارت العلاقة بين الطرفين إلى صدام عبر الشكاوى من تسريح أو نقل ضباط بعثيين ، ومن الدور الهامشي في الحكم والاعتراض على طريقة بناء التنظيم السياسي باعتبار أنها لن تفضي إلى بناء التنظيم القومي القوي القادر على حماية دولة الوحدة ، وعندما قدم المسؤولون البعثيون استقالاتهم الجماعية في نهاية عام 1959 كان هذا إيذانا بأن الصدام قد وصل الذروة ، وان دولة الوحدة قد فقدت أحد العناصر القومية لقوتها ، أما في مجال الحديث عن قضية التسلط المصري على دولة الوحدة ، والتي كان منها تولي عسكريين مصريين لمناصب قيادية في الجيش الأول السوري ، بينما لم يحدث العكس بالنسبة للعسكريين السوريين الذين نقلوا إلى مصر، والشيء نفسه بالنسبة إلى المدنيين ، وهناك من ينسب إلى إجراءات تحقيق العدالة الاجتماعية في دولة الوحدة دورا في الانفصال المشؤوم ، وان هذه الإجراءات المتمثلة أساسا في الإصلاح الزراعي والقرارات الاشتراكية ، قد أدت إلى استبعاد كبار الملاكين الزراعيين والرأسماليين السوريين من القاعدة الاجتماعية لدولة الوحدة ، وان معارضة صدور القرارات الاشتراكية من المسؤولين السوريين كانت لأسباب اقتصادية وان المعارضة ليس على أساس المضمون الاشتراكي وإنما على توقيتها باعتبار أن البعث يؤمن بالاشتراكية ويتقدم بهذا الإيمان على كثير من الأحزاب القومية الأخرى . وللموضوع صلة في الجزء القادم .






الخميس ٢٥ رجــب ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٤ / أيــار / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أبو مجاهد السلمي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة