شبكة ذي قار
عـاجـل










تلقى المفكرون وكل المنصفين في الأمة العربية نبأ رحيل المفكر الكبير والمناضل القومي الأصيل والأنسان الرائع الرفيق الدكتور ألياس فرح بألم شديد وغصة في الحلق، وتسليم بأمر الله تعالى.


لقد كان رحمه الله كل هذا وأكثر، ولي معه ذكريات شخصية لم أكن أجرؤ على نشرها أحتراماً لتواضعه وطيبته، ولكنني أجد نفسي مجبراً على النشر الآن وقد رحل الرجل الى دار البقاء، ولم يبق لنا إلا أن نعزي أنفسنا بوفاته، ونستذكر مآثره ومواقفه.


ألتقيت الرفيق الدكتور ألياس فرح أول مرة في واشنطن عام 1982 أو 1983 عندما حضر ممثلاً للقيادة القومية لحزب البعث العربي الأشتراكي في مؤتمر منظمة الطلبة العرب الذي عقد هناك. وبصفتي رئيساً لفرع المنظمة في العاصمة واشنطن حينها، فقد تم تكليفي بمرافقة الرفيق فرح طيلة فترة اقامته هناك، مع رفيق آخر أردني لا يحضرني سوى اسمه الأول وهو ( ديب ) . وبقي الدكتور برفقتنا مدة أسبوع، وكنت اقله من الفندق بسيارتي الى مقر المؤتمر أو السفارة العراقية أو في جولات سياحية وحسب أختياري.


وهنا تعرفت على الأنسان الرقيق الذي كان ينضح وداً وأدبا. فقد كان رحمه الله أستاذاً في الخلق الرفيع والتواضع الجم. كان يرفض أن انزل من السيارة لأستقباله أو أن أفتح له الباب، وكان يحرجنا ببساطته وطيبته، وتعامله الرفاقي النموذجي، وكان يرجونا بأن نناديه ( رفيق ) بدلاً من دكتور أو استاذ وكان يخاطبنا بنفس الكلمة. ولا اذكر طيلة الأسبوع الذي قضاه معنا أنه رفض لنا مقترحاً أو أجبرنا على شيء إلا طلب واحد وهو أن أخذه الى مطعم يقدم الأكل الفرنسي!


ولكوني لست خبيراً لا بالمطاعم الراقية ولا بالأكل الفرنسي فأنا طالب بموارد مادية محدودة فقد أخذته الى مطعم يحمل أسماً فرنسياً يقع في جورج تاون، فطلب رحمه الله الشوربة الفرنسية المغطاة بالجبنة، وأكلة فرنسية لم اسمع بأسمها من قبل. لكنه بعد الغداء أخبرني أن المطعم لا علاقة له بالفرنسيين إلا اسمه. ولمّا أحسَّ أنه ربما آلمني بكلامه بأعتباري أنا الذي أختار المطعم عاد وأعتذر بكل أدب وتواضع قائلاً أنه ربما نسي طعم الأكل الفرنسي بسبب أنقطاعه عنه لفترة طويلة.


وتجولت معه في واشنطن فذهب الى مركز كندي للفنون وحضرنا معاً جلسة مفتوحة للكونغرس الأمريكي ( وهي مفتوحة لكل الجمهور ) وللمصادفة فقد كانوا يناقشون موضوعاً له علاقة بالعراق وكنت أقوم بدور المترجم له كونه يجيد الفرنسية ولا يجيد الأنكليزية. وبالطبع فقد زار مكتبة الكونغرس الشهيرة ومتحف السميثونين.


غير أن أكثر ما أعجب الدكتور في واشنطن هو نصب المستيقظ ( The Awakening ) . وهو نصب مكون من خمس قطع غير متصلة مدفونة في الأرض تشكل في مجملها تمثالاً لشخص يحاول النهوض من الأرض ( أنظر الصور المرفقة، لطفاً ) . وكان الأطفال يلعبون على القطعة التي تمثل الرأس ويملئون الفم بالتراب، فقال رحمه الله: هذا يذكرني بحال الأمة! هي تريد أن تنهض وهم يتآمرون عليها ويهيلون التراب عليها. ولقد شكرني كثيراً لأنني أخترت له هذا المكان وأستغرب من قلة زائريه ( النصب أنشأ عام 1980، ولم يكن معروفاً كثيراً وقتها، كما يبدو أن موضوعه لا يستهوي الكثير من الزوار ) . وحينها قال لي إنه لم يكن قد زار في واشنطن شيئاً إلا هذا النصب فهذا يكفيه! فقد وقف أمامه متأملاً ومفكراً ولفترة ليست بالقصيرة.


لقد كان رحمه الله ينظر الى كل الأمور بنظرة شمولية تليق به كواحد من كبار مفكري ومنظري حزب البعث العربي الأشتراكي، الحزب الذي أنجب قادة ومفكرين ورجالاً لهم بصمتهم الواضحة على مسيرة النضال في أمتنا العربية المجيدة.


ألتقيت بالرفيق المرحوم ثانية في بغداد عندما زرته في مكتبه في القيادة القومية في نهاية الثمانينيات وكان بصحبتي المرحوم شاكر الخفاجي الذي استشهد على أيدي المحتل واعوانه عام 2003. وقد رحب بنا الدكتور أجمل ترحيب واستذكر معنا الحرب العراقية الإيرانية والنصر العراقي وتأثيراته على الأمة التي كانت حاضرة في ذهنه وتفكيره على الدوام. ثم زرته مرتين أو ثلاثة خلال التسعينيات تجاذبنا خلالها أحاديث متفرقة لم تغب الأمة العربية عن مجملها.


وكانت آخر مرة التقيته بها عندما عقدت جامعة صدام مؤتمرها الأول برعاية الرفيق طارق عزيز ( أعانه الله وفرّج كربه ) عندما خرج الرفيق المرحوم ألياس فرح من بين كبار الضيوف ليسلم عليَّ ويصافحني وأنا لم أكن اتوقع منه أكثر من أن يومئ لي برأسه، مما تركني في خجل وحرج، وزهو.


لقد كان رحمه الله أنساناً بعثياً يحمل كل هموم الأمة كما هو حال رفاقه المناضلين، يتنفس معاناتها ويجري حبها في عروقه، كما كان مفكراً يناضل بقلمه وفكره...

 





الاحد٥ صفر ١٤٣٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٨ / كانون الاول / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أمير عباس أمير نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة