شبكة ذي قار
عـاجـل










منذ تأسيسه الرسمي في نيسان/أبريل 1947 وحتى قبل ذلك وحزب البعث العربي الأشتراكي يناضل من أجل تحقيق أهدافه المتمثلة بالوحدة والحرية والاشتراكية. وهي أهداف لا يسعى لتحقيقها الحزب لذاتها وإنما لأرتباطها إرتباطاً وثيقاً بمصلحة الجماهير ومستقبل الأمة.


ومنذ تأسيسه وهذا الحزب العظيم يقدم قوافل من الشهداء الأبرار ومن ضمنهم كثير من كادره المتقدم وقادته. ومنذ تأسيسه وهو يرفع شعار "البعثي أول من يضحي وآخر من يستفيد"، وهو لا يرفع الشعارات ليزايد بها ولكن ليطبقها على أرض الواقع وليكون مناضلوه الحقيقيون مشاريع استشهاد دائمة تنير طريق المباديء دون انتظار المكافأة إلا مكافأة النصر وتحقيق الأهداف.


غير أن تجربة استلام الحزب للسلطة في قطرين عربيين هما العراق وسوريا تقتضي التوقف عندهما وتقييم الذي حصل على ضوء المعطيات المطروحة آنفاً. فقد أفرزت هاتان التجربتان نماذج من الحزبيين كانوا "أول من يستفيد وآخر من يضحي"! بل لم يكن بعضهم مستعدين للتضحية بأي شيء أساساً، ولكي نضع الأمور في نصابها الحقيقي والطبيعي فأن "بعث" حافظ الأسد لم يكن سوى مسمىً للبعث ولم يحمل من القيم النضالية والمبدئية التي تاسس عليها البعث الحقيقي سوى الأسم وقد أساء لتجربة ونضال وقيادات وجماهير البعث كثيراً ولم يجلب على الحزب الأم غير المصائب والبلايا، لذا فأن العدل يقتضي عندما نتحدث عن التجربة النضالية الحقيقية لحزب البعث العربي الأشتراكي والسلطة فأننا يجب التحدث عنها في العراق حصراً، وهذا ما سنفعله في هذا المقال.


حين تاتي السلطة فأنها تجلب معها كل مغريات الحياة الدنيا من قوة وسطوة ومال وجاه،وهذا هو ما كان يحذر منه الرسول الكريم محمد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين قال لصحابته أني أخاف عليكم الدنيا إن اقبلت عليكم. لذ فأن مغريات الحياة الدنيا لم ينجوا منها الا الصفوة من صحابة الرسول الكريم وهم الرعيل الأول من الذين آمنوا وضحوا وجاهدوا في سبيل اعلاء كلمة الله ولاشئ غير ذلك. ومهما كان موقفنا من الأحداث التي رافقت الصراع بين الخليفة الرابع الأمام علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) ومعاوية بن ابي سفيان فأن النظرة المنصفة والمتوازنة تقتضي أن ننظر لتلك الحقبة الزمنية القصيرة والمهمة والتي تركت شرخاً كبيراً في أمة المسلمين مازالت آثاره قائمة الى اليوم، كصراع بين قيم الآخرة متمثلة بعلي وحب الدنيا متمثلاً بمعاوية. وبنفس النظرة كان يجب النظر الى مرحلة الردة التي واجهها الخليفة الأول أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه ) . فأحداث الردة كانت ارتداداً عن مبادئ الآخرة الى مغريات الحياة الدنيا، وهي وإن كانت تعبيراً عن ضعف الإيمان في قلوب الأعراب والمرتدين، إلا إنها كانت في النهاية تعبيراً عن الرغبة في شهوة النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب الفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ‌ الْمُقَنطَرَ‌ةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْ‌ثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّـهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ- آل عمران 10 ) .


غير أن الردة ومارافقها من تداعيات لم تكن بنفس التاثير الذي أحدثه الصراع الظاهري على السلطة بين علي ومعاوية والذي أحدث انقساماً في الأمة مازالت القوى المناهضة لها تغذيه وتزيد في توسعه وأنتشاره.


وكذلك كان الصراع داخل قيادات حزب يستلم السلطة، والصراع ضد القوى المناهضة للحزب وثورته في قطر غني متعدد الموارد والثروات، ويغطي شعبه كل ألوان الطيف بين حديه الأقصيين كالعراق. وكان سقوط تجربة الحزب الأولى في العراق عام 1963 والتي أمتدت لتسعة شهور ( وهي في الواقع فترة قصيرة لا تسمح بالخروج بأستنتاج منصف وعقلاني ) وأنتكاسته في سوريا والتي حدثت بعد ذلك بأقل من ثلاث سنوات تعبيراً واضحاً عن خطورة سيطرة الدنيا بشهواتها على من يستلم دفة الحكم مهما كان انتماؤه وأهدافه. فقد سيطرت لغة القوة والسطوة والأحساس بالقوة على معظم القيادات الشابة التي لم تكن تجربتها القيادية قد نضجت بعد، وهي تجربة كانت في أحسن حالاتها تجربة نضال سري تملأ ساعات يومه ولياليه المداهمات والتخطيط للهرب من عيون السلطة وأجهزتها الأمنية والأحساس المتواصل بالظلم وحب الأنتقام. وكان ما كان وسقطت التجربتان مخضبتين بدم الثوار والأبرياء وغير الأبرياء على حد سواء.


وجاءت ثورة السابع عشر-الثلاثين من تموز 1968 ثورة بيضاء حاولت قيادتها أن تغسل عنها كل آثار الماضي وأن تبدأ صفحة جديدة في العلاقة بين القيادة والشعب وبين القيادة والأحزاب الحليفة. وكان إعلان النية في إقامة الجبهة الوطنية والقومية التقدمية إعلاناً مخلصاً لتصفية القلوب وطي حسابات الماضي المؤلم، ومد اليد البيضاء بين خصوم الأمس ليساهم الجميع في بناء العراق الجديد، عراق ما بعد ثورة تموز 1968. وبرز حينها تعبير الحزب القائد بأعتباره قائداً للمسيرة وأميناً على مبادئها، كونه الحزب-أي حزب البعث- هو الذي فجّر الثورة وأمّن كل وسائل انجاحها وأستمرار ديمومتها وضحى بكل مستقبله المنظور في سبيل ذلك.


ولم يكن إقامة الجبهة عملاً تكتيكياً ولا هدفاً آنياً، فقد أدركت قيادة الثورة متمثلة بحزب البعث العربي الأشتراكي أن بناء الوطن يتطلب تضافرالجهود كل الجهود وتوجيهها نحو الهدف الأسمى، فقد كانت الهوة بين العراق ودول العالم المتقدم عميقة وواسعة، وكان السعي لردمها وتضييقها يتطلب خطوات غير تقليدية وبنحو هندسي متسارع يبث الأمل في نفوس شعبه، ويجعل العراق أقرب مايكون لمغادرة خانة الدول المتخلفة وبأسرع وقت ممكن. ولكن الرياح لم تجر كما يشتهي السَفَنْ. وتحطمت الجبهة العتيدة على صخرة مغامرات وطموحات وأخطاء ومؤامرات بعض الأطراف المساهمة فيها ولأسباب وبأشكال لا مجل لذكرها في هذا المقال ولكنها تندرج جميعها تحت العنوان الأبرز وهو حب الكرسي وشهوة الدنيا.


وقبل أن تنقضي الأعوام العشرة الأولى من عمر الثورة، وجد حزب البعث العربي الأشتراكي نفسه وحيداً في السلطة ولم يعد للجبهة وجود حقيقي الا بمسميات صغيرة وغيرذات وزن سياسي أو شعبي مؤثر. فقد أنشق الحزب الشيوعي عنها، وغادرها القوميون وحمل حزب البرزاني السلاح ضدها وتحصنت كوادره في جبال كردستان العراق تقاتل الحكومة المركزية وتطالب بأنفصال الشمال هي وكوادر حزب جلال الطالباني الذي أرتمى في أحضان إيران.


ولم تثن هذه المعارك الجانبية قيادة الحزب التي كانت قد استوعبت درس 1963 جيداً ومازجت بين خبرة الشيوخ في القيادة وبين الدماء الجديدة فيها والتي كان الشهيد صدّام حسين على رأسها ( كان عمره 33 عاماً حين اصبح نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة ) عن المضي قدماً وبوتائر متسارعة في عملية البناء الداخلي وعلى الأصعدة والمستويات. وكانت تصرفات الحزبيين من الكادر المتقدم تخضع لرقابة صارمة خوفاً من الشطط، ومن الممارسات التي قد تعيد الى الأذهان شريط ذكريات 63 المؤلم. وسارت سفينة الثورة بنجاح باهر وسط محيط متلاطم من المؤامرات الداخلية والأقليمية وبأقل الخسائر الممكنة، وتعاملت مع الظروف المختلفة التي رافقت مسيرتها بأعلى درجات الحزم والحسم والمسؤولية من جهة، وبأوسع درجات الرحمة والتسامح من جهة أخرى. كما كانت كل قطاعات الحياة الأخرى من أعمار وتعليم وصحة وضمان أجتماعي وبنى تحتية تشهد قفزات نوعية لم يسبق لها مثيل.


وبدأ البناء يرتفع شامخاً، وبدأت مؤشرات التطور في قطاعات التعليم والضمان الصحي والأجتماعي وادارة الدولة وبناء القوات المسلحة وقوى الأمن الداخلي تقفز كل الحواجز بفضل التوجيه السديد والمتابعة المستمرة من قبل أعلى القيادات في الدولة والحزب وبتدخل مباشر وميداني من مهندس العملية وقائدها الشهيد صدام حسين. وكان لابد لكل هذا أن يدق ناقوس الخطر لدى دوائر المخابرات في دول معينة يهمها أن تبقى دول المنطقة ضمن حدود الدول المتخلفة كي تكون السيادة المطلقة لـ "أسرائيل" ودون منازع.


إن بناءً من هذا النوع ماكان لينجز لولا الشعور العالي بالمسؤولية والأستعداد لنكران الذات وتحمل أعباء النضال والجهاد، ومن هذا المنظور فأن قيادة حزب البعث لتجربة البناء هذه لم تكن حباً في الأنفراد بكرسي السلطة ولا إستثماراً لمغريات ترافق التفرد في القيادة. ومن نافلة القول أن تجربة بهذا الحجم والسعة لابد أن ترافقها أخطاء فردية وممارسات غير مسؤولة ومحاولات اثراء غير مشروع من قبل بعض النفوس الضعيفة وعلى أختلاف مستويات مسؤولياتها، لكن ذلك كان يواجه بأجراءات انضباطية اينما ومتى ما تم أكتشافه، ولم يكن يمثل الوجه الحقيقي للحزب القائد.

 

 





الثلاثاء ١٢ ذو القعــدة ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٧ / أيلول / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أمير البياتي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة