شبكة ذي قار
عـاجـل










فجر اليوم، كنت والصديق خالد التكريتي نتمشى في الحي الأول في فينا وشاهدنا مقابل كنيسة ستيفان بلاس الفخمة شباباً من الجنسين نصبوا شاشة تلفزيونية كبيرة جداً تعرض أفلاماً عن سوء معاملة الحيوانات وتعذيبها قبل الذبح بضربها بعصي غليظة على مقدمة رأسها، أو سلخ جلودها وهي حية، وانهمكوا يشرحون للمارة وحشية الإنسان في معاملة هذه الحيوانات، ويوزعون المنشورات التي تدين مثل هذه الأعمال، وحددوا منتجات معامل اللحوم المعلبة التي تتبع مثل هذه الأساليب الوحشية مع الحيوانات داعين الناس إلى مقاطعتها.


كان الشباب من إحدى جمعيات الرفق بالحيوان المنتشرة في سائر أوربا، والتي ينشط أعضاؤها بالاستماتة في الدعوة إلى حسن معاملة البهائم وكأن هذه البهائم ولدتهم.


طبعاً أنا أؤيد مثل هذه الجمعيات فديننا الإسلامي يدعو أيضاً إلى الرفق بالحيوان وعدم تعذيبه عند الذبح، ولكني قلت: آه لو تشاهدون كيف يقتل العراقي من دون جريرة يومياً تحت تعذيب أبشع وأكثر وحشية مما تعامل به الحيوانات التي تدافعون عنها، وكيف استخدمت الدريلات في ثقب رأسه وسائر جسمه وكيف يضرب حتى الموت أحياناً.


ولكن هؤلاء الشباب ما أبهوا لقولي فمهمتهم الدفاع عن الحيوان لا عن العراقي، وسرحت أفكر في جنون أوربا التي تسهم في قتل إنساننا بالقوة نفسها التي تدافع عن حيواناتها، وما فكرت يوماً بتأسيس جمعيات للرفق بالإنسان.


لو قرأت "موسوعة العذاب" الذي حققه المحامي العراقي عبود الشالجي، لتحققت أن المحتل ووكلاءه مارسوا ضد العراقيين ألواناً من العذاب يقشعر البدن عند تصورها، ويحتبس اللسان عند ذكرها، ويرتعش القلم عند إثباتها وتدوينها، من غير الألوان التي يذكرها هذا الكتاب، وكلها تدل على مقدار ما في بعض الناس من وحشية لا يتدنى إليها حيوان الغاب.


وفي الكتاب، الذي حققه الشالجي، قصص من التاريخ القديم والحديث تروي ما لاقاه بعض الناس من العذاب والتنكيل، وفيه شرح لبعض المصطلحات القديمة المستعملة في التعذيب.. ذلك كله ساقه الباحث بأسلوب قصصي سهل مبسط يعتمد على الروايات التاريخية القديمة المتناقلة عبر الألسن.


فالناس ابتلوا في مختلف أدوار التاريخ بأشخاص قساة ظالمين ظلموا، وعذبوا، ونكلوا، واستأصلوا، وأبادوا أمماً من الناس، فكانت عاقبة هؤلاء الظالمين البوار، وتردت أسماؤهم بأودية العار والشنار، ولم يكن العذاب ممارساً في صدر الإسلام، فإن الإسلام جاء بالسلام، والمودة والعطف والرحمة، وشعاره أن لا إكراه في الدين.


واختصر نبي الإسلام عليه السلام جميع ما قام به، في كلمة واحدة، قال: بعثت لأتمم الأخلاق. وكانت وصيته لكل سرية يبعث بها إلى الحرب، لا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا امرأة ولا وليداً. وخلفه أبو بكر الصديق، فكانت وصيته لأمراء جيشه: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوه، وسوف تمرون بقوم قد فرغوا أنفسهم في الصوامع (يريد الرهبان) فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له.


وكان الخليفة عمر الفاروق يقول لعماله: إني إنما استعملتكم على الناس لتقضوا بينهم بالحق، وتقسموا بالعدل، ولم استعملكم لتضربوا أبشارهم أو لتأخذوا أموالهم.


لكن لما تسلط الأمويون على الحكم تغير الأمر عما كان عليه في عهد الخلفاء الراشدين، فظلم بعضهم الناس، وسلّطوا عليهم عمّالاً من الظالمين، وأول من سلط على الناس من هؤلاء الظالمين زياد بن أبيه فعذب الناس ودفنهم وهم أحياء، وبنى عليهم الحيطان، وقطع أطراف النساء.


وأما الحجاج بن يوسف الثقفي، فقد عم شؤمه جميع أهل بيته وأفراد عائلته، فإنه لما هلك، واستخلف سليمان بن عبد الملك، أمر بجميع الرجال من آل أبي عقيل، عائلة الحجاج، فاعتقلوا بواسط، وعذبوا، حتى ماتوا أجمعهم تحت العذاب.


ولما استولى العباسيون على الحكم، أعلنوا أنهم حاربوا الأمويين لسوء سيرتهم وخرقهم بالناس وإذلالهم واستئثارهم بالفيء والمغانم، وكانوا يكررون أنهم غضبوا لما كان الأمويون يصنعون بالناس، من قتل للرجال، وسبي للنساء، وأسر للأطفال، وصلب على جذوع النخل وإحراق بالنيران، ونفي في البلدان.


ولكن بعض هؤلاء العباسيين، تعدى ظلمهم ظلم من سبقهم، فإن المنصور مارس نحو الرعية جميع ألوان العذاب، فدق الأوتاد في العيون، وسمّر المعذبين في الحيطان، ودفن بعضهم أحياء، وبنى على بعضهم الحيطان، وهدم على الآخرين البيوت.


وأثبت ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ فصلاً في مظالم البريديين، ثم قال: إنه ذكر هذا الفصل ليعلم الظلمة أن أخبارهم تنقل وتبقى على وجه الدهر، فربما تركوا الظلم لهذا السبب، إن لم يتركوه لله سبحانه وتعالى.


وذكر الجاحظ، في أحد كتبه، نفراً ممن اشتهروا بالظلم، فبعث الله عليهم المحق، ولم يجعل من نسلهم عقباً مذكوراً، ولا ذكراً نبيهاً وذرية طيبة، مثل الحجاج بن يوسف، وأبي مسلم الخراساني، ويزيد بن أبي مسلم ( خليفة الحجاج على العراق ) فإن هؤلاء مع كثرة الطروقة، وظهور القدرة، ومع كثرة الأنسال، قد قبح الله أمرهم، وأخمل أولادهم، فهم بين من لم يعقب، أو بين من هو في معنى من لم يعقب.


إن هؤلاء الظالمين، الذين ضربوا أسوأ الأمثال، في الظلم والقسوة، والبغي، سود التاريخ صفحاتهم، ولاقوا ببغيهم سوء المصير، وتحقق فيهم قول النبي صلوات الله عليه: من خاف على عقبة وعقب عقبه فليتق الله، وهم لم يفعلوا عشر معشار ما فعله بالعراقيين وكلاء المحتل العملاء، فماذا سيفعل الله بهم وبعقبهم بعد هذا القتل اليومي والنهب المبرمج لثروات البلاد والظلم المستمر والمتصاعد للعباد، واستهدافهم المتعمد لدور العبادة والمصلين، وكأنهم يريدون أن يقولوا للناس لا تعبدوا أحداً من دوننا.


لكن شعبنا الواعي لأساليبهم الخبيثة البشعة المستنكرة والمستقذرة لن يسكت عليهم أطول مما سكت، فصبر الحليم ينفد، وما عاقبة الذين ظلموا وخانوا وقتلوا ونهبوا ببعيدة أبداً

 

 





الاحد ١٢ رمضــان ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢١ / تمــوز / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب سلام الشماع نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة