شبكة ذي قار
عـاجـل










ما كان الوضع يحتاج إلى مجزرة الحويجة، ومحاصرة ساحات الاعتصام في الموصل وسامراء والرمادي والفلوجة وميادين أخرى، حتى يرتفع منسوب التوتر السياسي إلى مستوى غير مسبوق في العراق.

 

إن الوضع السياسي هو على درجة عالية من الاحتقان، وبداياته، لم تكن بنت ساعتها، ولا بدأت نهاية العام المنصرم، بل تعود في تكوين مناخاتها إلى اللحظة التي بدأ فيها غزو العراق، وأسفر العدوان عن احتلاله وبما أدى إلى فرز سياسي تمحور حول نهجين: نهج مقاومة الاحتلال، ونهج التعامل معه. وكان لكل من هذين النهجين قواه السياسية. فمن انخرط في المشروع المقاوم تأطر ضمن ائتلاف سياسي عريض، ومن التحق بالاحتلال أنيطت به إدارة سياسية واجهية تحت إشراف وتوجيهات المحتل الأميركي، وقد أطلق على هذه الآلية التي أنيطت بها الإدارة السياسية ما سمي بالعملية السياسية.

 

هذه العملية السياسية استندت إلى ما عرف "بقانون بريمر"، والذي في ضوء مضمونه، وضعت أحكام دستور، حاكى مصالح المحتل ومصالح المتقاطعين مع الاحتلال لجهة ما ترتب على العدوان والاحتلال من نتائج، وتجلببت مصالح المحتل والمتقاطعين معه، بجلبات سياسي داخلي، قدم نفسه أنه نتاج عملية ديموقراطية، فيما الحقيقة أنه كان نتاج الاحتلال.

 

بعدما استطاع النهج المقاوم، أن يفرض نفسه حقيقة وطنية فاعلة، عبر الأداء المقاوم الذي أدى إلى جعل الدولة المحتلة، تحدث تعديلاً جوهرياً في استراتيجيتها، وتبدأ تنفيذ استراتيجية الانسحاب، بعدما تبين أن كلفة البقاء ستكون باهظة الثمن، وأن ما أرادت تحقيقه كمقدمات لاستراتيجيتها العامة قد تحقق، لجهة إسقاط النظام الوطني، وتفكيك بنية الدولة وتنصيب إدارة سياسية هي بطبيعة تكوينها، طائفية الخطاب السياسي، نهمة للنهب الاقتصادي، لا تستقيم الحياة لها في ظل توحد وطني على الأسس الديموقراطية.

 

هذه الإدارة السياسية التي أطلق على آليات عملها ما سمي "بالعملية السياسية"، شكلت امتداداً لسياسة الاحتلال، وبما جعلها تتصدر واجهة التصدي للنهج المقاوم بقواه السياسية وحاضنته الشعبية، ظناً منها، ان حالة التشظي الوطني التي نتجت عن تفكيك بنية الدولة، يمكنها من الإمساك بناصية الأمور وإعادة تركيب بنية الدولة، بما يخدم مصالح المحتل والمتقاطعين معه، وكل الذين انتفعوا وجنوا المغانم من تسهيلاته.

 

ولما كانت الأداة السياسية التي سلمها الاحتلال إدارة البلاد بعد انسحابه، أعجز من تحمل لواء المشروع الذي أرسى ركائزه المحتل، كان لا بد من رافعة، تستند إليها لتستمر، في أدائها، وتنفيذ الأجندة السياسية للاحتلال وحتى تستمر تلك العملية السياسية وفق المضمون الذي حدد عناوينه المحتل كان لا بد من أن تكون الرافعة السياسية، والحاضنة الجديدة للمشروع السياسي الذي أفرزه الاحتلال، متماهية مع ذلك المضمون، ولها مصلحة أكيدة في إكمال ما بدأه الاحتلال لجهة إعادة التركيب السياسي للعراق.

 

وإذا كان الاحتلال، هدف إلى إسقاط النظام الوطني وتفكيك بنية الدولة، وتطييف الحياة السياسية فإن هذه الأهداف كانت تتقاطع مع أهداف الرافعة السياسية الجديدة، والتي لم تكن تنتظر استدعاء لها من قبل قوى سياسية داخلية، بل هي في حالة جهوزية تامة للتدخل، لأنها بالأصل، هي صاحبة مشروع خاص حيال العراق. قوام ركائزه، جعل العراق يدور في فلكها السياسي، وأن تكون لها اليد الطولي في تحديد خياراته السياسية في إدارة الشأنين الداخلي والخارجي، وهذا لا يتم إلا في ظل نظام سياسي، يعمل تحت سقف توجهات هذه الرافعة وبمعنى آخر، وضع العراق تحت وصاية جديدة، وهذه الوصاية هي الوصاية الإيرانية، التي اعتبرت أن احتلال العراق وضرب مقومات الدولية، هي الجائزة الكبرى التي تريد كسبها، من جراء تواطئها مع الاحتلال والاستفادة من خدماته وتقديم التسهيلات له. وهذه الجائزة التي حصلت عليها إيران تريد أن توظف معطياتها في تعزيز مواقع نفوذها في أربعة دوائر.

 

الدائرة السياسية، وذلك بأن تكون مواقفها هي البوصلة التي توجه الأداء السياسي العراقي.

الدائرة الأمنية، أن تكون العين الإيرانية حاضرة في المفاصل الأمنية العراقية.

 

الدائرة الاقتصادية، أن يكون العراق في خدمة الاقتصاد الإيراني المحاصر، إن عبر الاستفادة من التسهيلات الاقتصادية، أو عبر امتصاص النفط العراقي، لتعديل الفاتورة النفطية الإيرانية، وإن عبر جعل العراق، ساحة تسهيلات لدور إيراني في العمق العربي.

 

الدائرة الدينية: وهي أن تكون مرجعية النجف بما تمثله من مشروعية دينية ملحقة بمرجعية قم، وبمعنى آخر، إخضاع حوزة النجف للتأثير السياسي الإيراني، وبعدما تبين أن المرجعية الدينية في العراق هي على خط فقهي نقيض من المرجعية الإيرانية.

 

هذه الدوائر الأربع، هي المجالات الحيوية التي يريد النظام الإيراني، التأثير فيها. وهذا بطبيعة الحال لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل عراق ضعيف، مقسم واقعياً، ومطَّبع في حياته السياسية، وعلى هذا الأساس، يكون الدور الإيراني، الذي كان في حالة جهوزية للتدخل السريع، استمراراً لنهج الاحتلال وأن الأداة السياسية التي أفرزها هي الأداة التي يمكن من خلالها توفير التغطية الداخلية للوصي الجديد الذي يرى في استمرار العملية السياسية التي أنتجها الاحتلال الأميركي، الضمانة لدوره المتعدد الأوجه.

 

من هنا، فإن قوى المقاومة الوطنية العراقية بمروحة القوى السياسية العريضة التي شكلت إطارها الجبهوي، كانت تعي ومنذ ان وضعت أسس استراتيجيتها للتحرير، بأن الهدف ليس دحر الاحتلال بشخوصاته العسكرية وحسب، بل أيضاً بإعادة بناء العراق على الأسس الوطنية والديموقراطية، وأن زوال الاحتلال يجب أن يفضي بالنتيجة إلى زوال إفرازاته وكل ما أنتجه على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولهذا لم يكن مستغرباً، أن تؤكد المقاومة الوطنية العراقية، بأن دحر الاحتلال قد طوى صفحة، وأن الصفحة الثانية التي يجب أن تطوى هي إسقاط الإفرازات السياسية لهذا الاحتلال.

 

هذا المنطق السياسي، هو المنطق الطبيعي لسياقات الأمور، لأن الاحتلال عندما يسقط، فإنما تسقط معه كل نتاجاته، وعندما تنتصر المقاومة، فهذا يعني أن مشروعها قد انتصر ببعديه التحريري والتوحيدي، ولهذا فإن هذا المشروع يجب أن يأخذ طريقة إلى النفاذ والتحقق فيما لو كانت الأمور تيسر بشكل طبيعي. لكن معطى المواجهة مع إفرازات المحتل، اصطدم بمعوقين: المعوق الأول معطى الوضع العراقي الداخلي، الذي أفرز تعقيدات سياسية على مدى عشر سنوات من الاحتلال.

 

المعوق الثاني: هو الدور الإيراني الذي اندفع بسرعة ليملأ الفراغ الذي خلفه الاحتلال للإمساك بالمفاصل السياسية والأمنية وتوفير مظلة الحماية للإفرازات السياسية التي أنتجها الاحتلال حتى لا تسقط تحت الضغط الشعبي.

عند هذا المعطى بدأت المرحلة الجديدة من المواجهة في العراق، وإذا كانت المقاومة وقواها الشعبية اعتمدت أسلوب الكفاح المسلح مع المحتل الأميركي وحلفائه، فإنها في خطتها لإسقاط الإفرازات السياسية، اعتمدت أسلوب التعبير الشعبي الديموقراطي، عبر حراك شعبي قل نظيره، لجهة شموليته ومضمون خطابه السياسي.

 

هذا الأسلوب في التعبير الديموقراطي، لم يرح أطراف ما يسمى بالعملية السياسية في الداخل، ولم يرح أيضاً، النظام الإيراني، الذي رأى في اتساع دائرة الرفض الشعبي للقوى المرتبطة به، تطويقاً لدوره ومحاصرة لنفوذه وتهديماً لكل ما بناه تحت مظلة الاحتلال، وإقفالاً لمنافذ اختراقاته وبالتالي العودة بالعراق إلى مرحلة ما قبل الاحتلال. وهذا ما لا يمكن أن تحمله وهو الذي منَّ النفس بوصاية جديدة على العراق بعد المساعدات والتسهيلات التي قدمها للمحتل الأميركي.

 

على هذا الأساس، انطلق النظام الإيراني في تعامله مع العراق، من النقطة التي انتهى عندها الاحتلال، وأنه كي يضمن مصالحه ويضمن استمرار العملية السياسية التي أفرزها الاحتلال، وما وفرته له من امتيازات يجب أن يحل محل الاحتلال الأميركي في الإدارة السياسية والإدارة العسكرية والأمنية.

 

ففي الجانب السياسي، وفر المظلة السياسية لحكومة المالكي كي تستمر رغم المقاطعة الشعبية والسياسية لها، كما ضغط على العديد من القوى السياسية، كي لا تنفتح على المعطى الجديد بعد الأثر الإيجابي الذي تركه الخطاب السياسي للمقاومة الوطنية العراقية. وفي الجانب الأمني والعسكري، نفخت الرؤوس الحامية في أطراف العملية السياسية، كي يواجهوا التعبير الشعبي الديموقراطي، بالقمع والاغتيالات والتفجيرات والاعتقالات وأخيراً باجتياح ساحات الاعتصام والتي كان نذيرها بداية في الفلوجة، ومن ثم كان نموذجها الواضح في الحويجة.

 

لقد بينت الطريقة التي تعاملت بها حكومة المالكي مع المعتصمين، أنها تنفذ أجندة سياسية إيرانية. وبما يذكر بتنفيذها الأجندة الأميركية، قبل الانسحاب. وهذا الدور الذي يضطلع به النظام الإيراني حالياً، لا يترك أدنى مجال للالتباس، بأن العراق اليوم هو تحت الاحتلال الإيراني، وأن كل ما ينفذ بحق شعب العراق، إنما هو ينفذ وفق الإملاءات الإيرانية، ولهذا، فإن جماهير العراق، عندما ترفع شعار مواجهة الدور الإيراني في العراق، فإنما تضع هذه المواجهة ضمن نصابها السياسي الطبيعي وأن كل كلام سياسي عن الصراع الدائر حالياً في العراق بعيداً عن توجيهه نحو مركزية الدور الإيراني المفتوح على تقاطعات إقليمية ودولية، هو كلام خارج عن مقاربة، موضوعية لحقيقة ما يجري في العراق.

 

وعندما تقف جماهير العراق، لتعلن بأنها أحرقت لائحة المطالب، فلأنها تدرك جيداً، بأن عنوان معركتها، إنما هو عنوان وطني شامل، يهدف أولاً وأخيراً إلى حماية المقومات الوطنية الأساسية التي تجسدها وحدة الأرض والشعب والمؤسسات. هذه الوحدة الوطنية، التي تربك دعاة التحريض الطائفي والمذهبي في السلطة وخارجها، وتضعف منطق دعاة الخطاب التقسيمي، هي التي تشكل المقتل المشروع الإيراني، أي الأبعاد التقسيمية والتفتيتية.

 

في السابق، طُرحت الثقة بالمالكي، وكان ذلك استفتاء على النفوذ الإيراني، واستطاع هذا النفوذ أن يحول وإسقاطه من خلال المؤسسات، أما اليوم، فإن المطروح هو إسقاط المالكي، لأنه السياق الطبيعي للنتائج السياسية المتولدة عن دحر الاحتلال وهذه المرة ليس من خلال المؤسسات بل، من خلال الشارع فالجماهير التي رابطت في الميادين، والتي حيل دون اعتصامها، أو دون وصولها إلى ساحات الاعتصام، هي التي تطالب بإسقاط المالكي، وقد اختبرت عملياً، أنه كان مجرد أداة تنفيذية في يد قوات الاحتلال، وها هو اليوم ينفذ ما يمليه عليه النظام الإيراني، والدليل على ذلك، أنه في تعامله مع الجماهير الشعبية ومطالبها يتعامل معها ليس بصفته رئيساً لحكومة، بل مسؤولاً عن ميليشيا لا تقيم اعتباراً للأنظمة والقوانين، ولا تحكمها ضوابط أخلاقية وإنسانية.

 

هذا القادم الجديد إلى العراق، وإن لم يكن جديداً بدوافع مشروعه وأهدافه، إلا أنه يحجم الدور الذي يلعبه الآن، بات يشكل مصدر الخطر الفعلي على وحدة العراق وعروبته، وهو يريد أن يوظف معطيات لم تكن متوفرة للمحتل الأميركي، هي تماسه الجغرافي والمشاططة المائية، والتداخل المجتمعي والانشداد النفسي والديني إلى مرجعية الحوزات ومراقد الأئمة، وعليه فإن توجيه الأنظار إلى الدور الإيراني في العراق، إنما هو التصويب الصحيح للصراع السياسي في بعده الحالي.

 

إن العدوان الأميركي، بدأ بالقصف والتدمير وقتل البشر والغزو الإيراني، الذي ظن أنه بواسطة القنوات الناعمة التي عبرها أثناء الاحتلال، يعود اليوم بأدوات القتل والتفجير والتدمير مستحضراً أسلوبه الذي ينسجم مع طبيعته.

 

تلك هي معركة العراق في صفحتها الحالية، وإن بدت جماهير العراق شديدة الحرص على ديموقراطية حراكها، فلأنها تريد تفويت الفرصة على من يريد أن يحرف الحراك عن عناوينه الأساسية، لأنها تريد أن يبقى تحركها في إطار التعبيرات الشعبية الديموقراطية.

 

إن الكلام السياسي في انتفاضة العراق، انها انتفاضة وطنية شاملة بأبعادها وخطابها، وهي لن تستكين إلا بعد أن تحقق كامل أهدافها.

 

وإذا كان المالكي الذي يتصرف مع الحراك الشعبي بالأسلوب الميليشيوي، مهدداً باقتحام ساحات الاعتصام، وإرهاب الجماهير المحتشدة، فهذا أسلوب اختبر عقمه مع جماهير ثائرة، فالفلوجة شكلت سابقاً سوء طالع للمحتل الأميركي، والحويجة تجسد اليوم سوء الطالع للمالكي ومن يشد أزره.

 

قد يكون الكلام التعبوي مهماً في شحذ همم الجماهير، لكن الكلام السياسي يبقى هو الأهم لأنه يحدد البوصلة السياسية لأطراف الصراع والأهداف السياسية لكل منها.

 

إن انتفاضة العراق، هي انتفاضة ضد النفوذ والدور الإيرانيين، وإذا ظن النظام الإيراني، أن المرحلة الحالية، هي مرحلة بزوغ فجره بعد أفول شمس الاحتلال الأميركي، فالتاريخ عبر تجاربه ودروسه، يثبت أن الشعوب هي المنتصرة دائماً مع محتليها.

 

على النظام الإيراني أن يتجنب تجرع كأس السم ثانية. ومصلحة إيران في علاقات طبيعية مع العرب ومدخل ذلك العراق، وإلا لن تستطيع توظيف لحظة طارئة في حياة العراق والأمة لثبيت نهائية سياسية هي على نقيض مع المسار التاريخي.

 

 

 





الاثنين ٢٥ جمادي الثانية ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٦ / أيــار / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المحامي حسن بيان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة