شبكة ذي قار
عـاجـل










أعزائي القراء! مما لا شك فيه هو ان الوحدة الوطنية مطلب من المطالب الأساسية لكل مواطن، سواء كان من السياسيين او من المفكرين والكتاب او من ابناء الشعب الاعتيادي، البسطاء منهم وغير البسطاء. ولطالما قرأنا وسمعنا اناسا يشكون من نقص في الوحدة الوطنية عندنا في العراق، ولاسيما بعد ان جاء المحتل وقوض اسس تحقيق هذه الوحدة الوطنية وعوامل تثبيتها وإدامتها، سواء كانت هذه الشكوى صادقة ام تأتي من باب التضليل المتعمد او من باب السذاجة في مثل هذه المسائل.  

 

الكلام عن الوحدة الوطنية: عندما نتكلم عن الوحدة الوطنية علينا ان لا تغيب عن بالنا بعض الأمور المهمة، منها ان الوحدة الوطنية عبارة واحدة تتكون من صفة وموصوف، وأننا لا نفهم معنى هذه العبارة إلا من خلال وحدة مفردتيها، وأيضا من خلال تحليل عميق لكل مفردة من مفردتي هذه العبارة، على حدا، الأمر الذي يقينا مخاطر الالتباس والضلال. اما ضرورة هذا الاجراء التحليلي فناتجة عن كون مفردتي الوحدة والوطنية، مفردتان انثروبولوجيتان ذهنيتان، هما اصعب على الفهم كثيرا من الأشياء المادية الموضوعية البسيطة والتي تقع تحت التجربة الحسية المباشرة، مثل الشجرة والبيت والكرسي، في حين لا تفهم المفردات الذهنية إلا بعد تحليل ذهني عميق لأبعادها.

 

صعوبة فهم عبارة الوحدة الوطنية: اما صعوبة فهم عبارة " الوحدة الوطنية ، فناتجة خاصة عن كثرة معاني وأبعاد كلتا مفردتي الوحدة الوطنية، كل منهما على حدا، اذ هناك عشرات المعاني لمفردة الوحدة، وأقل من ذلك لمفردة الوطنية، مما يعقد امور كل مفردة على حدا، ويجعل فهم العبارة كاملة اصعب. هذا، ولكي يفهم القارئ ما اقوله بوضوح اكبر يمكننا ان نلجأ الى العملية الحسابية التالية: فلنفرض ان لمفردة الوحدة خمسين معنى تماثليا، وأن لمفردة الوطنية عشرة معاني تماثلية فقط، حينئذ لن يكون للمفردتين المضافتين الى بعضهما، كصفة وموصوف، ستون معنى، بل خمسمائة معنى يجب التمييز بينها وتقييمها واختيار احسنها، ليس بالصدفة المنظمة طبعا، كما يحدث في قانون الاحتمالات، ولكن عن طريق استخدام العقل المنطقي والحدس الوجداني، مما يتطلب منطقا سليما وصارما ووجدانا Conscience  لم تفسده الأهواء.

 

مسببات الالتباس والضلال: ويقينا ان نجاة كثير من الناس من التضليل والخطأ يتطلب عقولا خاصة ونيرة يمكنها القاء الضوء على معاني الأشياء والتمييز بين الغث والسمين، وذلك لإنقاذ البشرية من مغبة  التباس العبارات الذهنية البسيطة والمركبة، ولاسيما اذا كانت بعض المفردات المركبة الذهنية من النوع الوجداني الذي لا تصح معرفته إلا عن طريق المشاعر الانسانية العميقة. كما ان هذه الحقيقة تفهمنا لماذا يسهل تضليل الغوغاء وسوقها الى اهداف غالبا ما لا تعود عليها بالخير، كما حصل للعراقيين منذ الاحتلال والى حد هذا اليوم، وكما حدث ويحدث في البلدان العربية منذ ظهور عبارة الربيع العربي التضليلية.

 

المعنى العام للوحدة: عندما نقول ان للوحدة معنى عام، نعني ما تعنيه البنيوية من وجود منظومات موحدة تحوي ابعادا كثيرة وأوجها متعددة، كما تعني ان هذه الأبعاد والأوجه منسقة مع بعضها ومع الكل تنسيقا يحدد طبيعة كل منظومة وطبيعة وظيفتها، ككل موحد. وعموما يمكننا تقسيم المنظومات البنيوية الى منظومات طبيعية ( الكون الكبير والكون الصغير وما بينهما )، والى منظومات يمكننا اعتبارها من صنع الانسان، مثل المنظومات الاجتماعية ومنظومات المؤسسات التابعة لها، هذه المنظومات التي يبنيها الانسان وفق القواعد الأنثروبولوجية والاجتماعية المرحلية المعروفة.

 

منظومات خيرة ومنظومات سيئة: مما هو معروف ان كل الوحدات، او المنظومات الطبيعية، ومنها منظومة الانسان، منظومات جيدة تتصف بالتقويم الحسن، وتؤدي وظيفتها العامة في الطبيعة، في حين تعطي الكتب المقدسة وصفا خاصا للإنسان وتقول بأنه خلق بأحسن تقويم وبأوصاف اخرى كثيرة ومماثلة. غير ان كثيرا من الوحدات او المنظومات التي يعملها، او ينوي ان يعملها الانسان، وحدات ومنظومات مبنية على الشر والعدوان، مثل المنظومات التي يؤسسها الانسان لكي يسيء بها الى أخيه الانسان، وعلى رأس هذه المنظومات نذكر المنظومات العسكرية ومنظومات الاحتلال والهيمنة بأشكالها، وذلك بشهادة التاريخ، القديم منه والبعيد، والقريب والمعاصر، حيث يحاول الأقوياء ان يوحدوا العالم وسلوكيته لصالحهم. فهكذا فعلت الامبراطوريات القديمة، وهكذا فعلت الامبريالية الحديثة والمعاصرة، وهكذا فعلت الرأسمالية المدعومة بالقوة المسلحة، وهكذا فعلت الشيوعية، وهكذا ارادت ان تفعل النازية الهتلرية، وهكذا يحاول ان يفعل اليمين المتطرف الأمريكي وغير الأمريكي مع عالم الضعفاء وعالم الأقوياء على حد سواء، كما حدث في العراق، وهكذا تحاول ان تفعل بعض الأيديولوجيات الدينية والعنصرية الشوفينية  والطائفية في زمننا، علما بأن كل ما تمخض عن افعال الهيمنة تلك، انما جاء من خلال قوة غاشمة متوحشة لم تراعي حقوق الانسان. 

 

معنى صفة الوطنية: كما للوحدة معانيها الكثيرة فان للوطنية معانيها الكثيرة المختلفة والمتناقضة احيانا كثيرة ايضا. فالوطن كان قديما العشيرة ثم القبيلة ثم الأمة الدينية، سواء تحولت الى امبراطورية عظيمة ام بقيت امة بسيطة ومتواضعة وضعيفة. اما اليوم فان غالبية اوطان الشعوب ناتجة عن تفتت اممهم الدينية الكبيرة، حيث صارت هذه الأوطان السياسية بديلا للأمة الدينية، ملبية حاجات الانسان المعاصر بشكل اكثر تقدما.

 

ويقينا ان الوطن لم يعد مجرد قطعة ارض وشعب يسكن هذه القطعة من الارض، وشيئا من نظام ومن وحدة واستقلالية يتمتع بها هذا الشعب ورئيسه، فضلا عن بعض القيم المتوارثة ابا عن جد، يملكها هذا الشعب ويعتز بها. فالوطنية بعمقها هي حالة تتجاوز هذا التعريف البسيط كثيرا. ان الوطنية هي " الأنا " الذي يسكن ارضا معينة نعم، ولكن هي ايضا " الأنا " التي تعطي للوطن كل ما لديها من امكانيات لكي تستطيع ان تأخذ من هذا الوطن كل ما تصبو اليه من حقوق، بكل ابعادها. ففي الحقيقة هناك توحيد نفسي انثروبولوجي بين " الأنا " والوطن، بحيث يستطيع كل مواطن ان يقول: انا الوطن والوطن أنا. على مثال الملك لويس الرابع عشر الذي كان يقول: " انا الدولة والدولة انا ".  علما بأن " الأنا " يمكن ان تكون انا الانسان المواطن الفرد او تكون انا الجماعة: نحن الوطن والوطن نحن.

 

الوحدة الوطنية على ضوء الاحتلال: في الفقرة السابقة عرفنا معنى الوطن والآن سوف نعرف، على ضوء مثل واحد، هو مثل احتلال العراق، ما معنى الوطنية الحقيقي وما معنى الوطنية المزيفة. اما الوطنية المسحوقة والمدمرة فلا نتكلم عنها، لكون الكثيرين تكلموا عنها بإسهاب. فنحن هنا لا نتكلم عن الأمور الواضحة المعروفة، لكننا نتكلم فقط عن الأمور التي تتحمل الالتباس والتضليل والكذب والضحك على الذقون. وعليه فلنبدأ الكلام، على ضوء مقولة " انا الوطن والوطن انا " عن الوطنية الحقيقية التي لا تقبل الجدل ولا التأويل ولا المراوغة ولا التضليل، لكي نتمكن فيما بعد ان نكتشف كل الوطنيات المزيفة والمضللة والكاذبة والمريبة.

 

الوطن في نظر الشرفاء: اما الوطن في عيون الشرفاء فيعني شيئا محددا وواضحا، وليس مجرد عواطف تذروها الرياح. ففي نظر شرفاء العراق الوطن يساوي الأنا، كما سبق ان قلنا، حيث يستطيع كل عراقي شريف ان يقول:انا الوطن والوطن انا. فما يصيب الوطن من خير يصيبني وما يصيب الوطن من شر يصيبني انا ايضا. فإذا كان هناك من يفكر ويعمل عكس هذه البديهية فانه انما يعمل ضد نفسه وضد كيانه وضد شرفه. ومن يتجاهل هذه الحقيقية لا يمكن إلا ان يكون واحدا من اثنين: فإما ان يكون خائفا ومغفلا ومخدرا ومريضا بمرض انساني عضال، وإما ان يكون خائنا لوطنه من اجل مصلحة  ضيقة، مع العلم ان الخائن لا ينتمي الى الوطن إلا بالجنسية.

 

الوطن ثوابت اولا: اما الثوابت التي نريد ان نتكلم عنها فكثيرة، لكننا نختصرها هنا بعدة ثوابت انسانية وطنية واضحة. لا بل نلخصها بثابت واحد يصير جذرا عميقا لكل الثوابت الأخرى، مثل ثابت الغيرة وثابت قبول التضحية وثابت الشرف الوطني وغيرها. اما هذا الثابت الواحد فيقع بين ما هو انثروبولوجي عند الانسان وبين ما هو اجتماعي وسياسي، ولذلك يصير ثابتا لا يجوز المساس به. اما هذا الثابت فنسميه السيادة الوطنية، هذه السيادة التي تمثل جوهر سيادة الانسان على ذاته وعلى تاريخه. اما اذا تكلمنا بشكل اكثر عمليا فنقول ان السيادة الوطنية تعني السيادة السياسية والسيادة العسكرية والسيادة الاجتماعية والسيادة المالية، هذه السيادة التي تترجم بالسيادة على الثروات الوطنية وعلى رأسها الثروة النفطية بكل تأكيد. اما في وضعنا العراقي المحتل الحالي فنكاد نجزم بأن سيادتنا على ثرواتنا النفطية تأتي على رأس السيادات الأخرى كلها، وان اية خسارة او تهاون في هذا المجال يعني انتصار الاحتلال، لا سمح الله.

 

اختلاف المواطنين الشرفاء: نحن نقول بدءا بأن الاختلاف في حالتنا العراقية الراهنة حول مفهوم الوحدة الوطنية المتمثل بالسيادة، أمر مؤسف حقا. ولكن بما ان الاختلاف سنة الحياة الطبيعية فلا بأس ان يكون بين الشرفاء كثير او قليل من التعددية، ولكن ليس حول سيادة العراق على سياسته التي يجب ان تكون سياسة ذاتية بالمطلق، وليس على قوته العسكرية ولا على قوته المالية ولا على ثرواته الوطنية الأساسية. ان وحدة ثوابتنا هذه، يجب ان تكون اساسا لأي دستور عراقي ولأي نظام داخلي سياسي ولأية مصالحة وطنية ولأية جبهة قامت او ستقوم مستقبلا بين العراقيين. لا بل نحن نعتقد بأن من لا يؤمن بهذه السيادة لا يحق ان يشارك العراقيين حياتهم السياسية بالمطلق، وانه دخيل على الوطن العراقي ومشارك في عملية ذبحه وتدميره.  

 

هل من وحدة وطنية تحت الاحتلال: جوابنا الفوري يقول: كلا، وذلك لوجود تناقض وتنافر اساسي وجذري بين المحتل ومصالحه من جهة وبين من يقع عليهم فعل الاحتلال ويحرمهم من اعز ما لديهم: ألا وهو حق السيادة الوطنية، من جهة أخرى. وبما ان الأمريكان كانوا يعرفون هذه الحقيقة جيدا، فإنهم عمدوا الى الكذب والتضليل منذ ان قرروا احتلال العراق واستباحة حقوقه الأساسية المادية منها والمعنوية. ولذلك فإننا اليوم، نواجه نوعا من الاحتلال لوطننا مبنيا على الكذب والدجل والمراوغة، قريبا لما حدث للحمل مع الذئب، في الحكاية الرمزية المعروفة. فالأمريكان الكذابون المعتدون قالوا بأنهم لم يغزوا العراق من اجل مصالحهم غير المشروعة الكثيرة إلا لتحريره وإعطائه الديمقراطية. طبعا نحن نلعن هذه الديمقراطية التي جاء بها لنا الأمريكان والغرب، ونلعن من قرر اعطاءنا هذه الديمقراطية المجرمة، لكننا بالمقابل نتألم ونتأسف عندما نرى ان احباءنا وشركاءنا في الوطن لم يجدوا غير الكذب والتضليل واللعب على الكلمات ليبرروا جريمة الاحتلال وجريمة تعاونهم مع المحتل، ولاسيما وان طعنات الاخوة اكثر ايلاما من طعنات الغريب، على الرغم من وحشيته. وهكذا، وبعد ان دمر الأمريكان بلدنا على كافة المستويات والأبعاد، وبعدما اخذوا من ازلامهم اشباه العراقيين كل ما كانوا يريدونه وما توصلت اليه ايديهم القذرة الملطخة بدماء شعبنا، نراهم اليوم غير نادمين على ما فعلوا، لكنهم يريدون ان يضيفوا الى كذبة تحرير العراق كذبة اخرى هي كذبة تحقيق السلام والاستقرار والبناء في العراق. علما بأن هذه الكذبة هي كذبة امريكية وأوربية في اساسها، لكن ازلام المحتل المنتفعين من الاحتلال ومن دماء شعبه يتبرعون اليوم بترويج هذه الكذبة ايضا، لأنها كذبة يظنون انها ستسمح لهم بالاستمرار في الحفاظ على المكاسب غير الشرعية التي حصلوا عليها، وهي مكاسب معروفة للقاصي والداني. فضلا عن ذلك كله هم لا يكتفون بالكلام المضلل ولكنهم يلجئون الى السلاح وقتل المواطنين، حفاظا على العملية السياسية غير المشروعة ودستورها اللئيم. 

 

كلمة أخيرة ورجاء: بعد ان كشفنا حقيقة عبارة الوحدة الوطنية وحقيقة ما يكتنفها من التباس، املي ان يستطيع كل منا ان يحكم الحكم الصحيح على هذه العملية الشريرة وعلى ملابساتها، لكي لا يساعد احد منا في انجاح هذه الكذبة الجديدة التي تسمى الوحدة الوطنية، ويساعد بالتالي الكذابين على توطيد حكم الاحتلال في العراق، والذي لا زال حكما مهلهلا كما يعرف الجميع، حتى يستحيل عمل شيء لإنقاذه، سواء بالقوة العسكرية او بالتكتيك والمراوغات. وعليه فان هذا القس الكبير بالعمر والصغير من حيث رتبته القسسية، لا طلب له غير ان يأتي العمل المقاوم بأقل ما يمكن من الخسائر، وبأقل ما يمكن من الحقد ومن روح الانتقام. ولاسيما وقد تعلمنا من التاريخ ان المقاومين يتحملون، عبء مقاومتهم أكثر من اعدائهم الذين يقتلونهم.

 

كما ان هذا القس يناشد جميع كبار رجال الدين بتواضع، ومنهم غبطة بطريرك كنيسة المشرق الكاثوليكية الملقبة بالكنيسة الكلدانية، بأن يضعوا في حسبانهم بأن اية مصالحة بين المحتلين وبين من وقع عليهم فعل الاحتلال، وأية مطالبة بوحدة وطنية، غير معقولة وغير مرغوب فيها، ما دامت العملية السياسية الأمريكية وما تمخض عنها قائمة، وما دام هناك من يدافع عنها ويحميها بشراسة ووحشية دموية. اما المصالحة بين سكان المنطقة الخضراء فهي نكتة تافهة تبكي ولا تضحك، طالما نعرف بأن التصالح بين عصابة المحتلين لن توفر لهم المشروعية مهما طغوا وبغوا وتجبروا. 

 

fr_luciendjamil@yahoo.com

 

 

 





الثلاثاء ١٩ جمادي الثانية ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٣٠ / نيســان / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب القس لوسيان جميل نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة