شبكة ذي قار
عـاجـل










الحرية .. كلمة


في الفلوجة جربت أميركا جميع أنواع الأسلحة : غاز الأعصاب ، غاز الخردل ، الجمرة الخبيثة ، ثاني اوكسيد الكربون ، الأسلحة التقليدية ، الأسلحة الجرثومية ، الأسلحة الكيمياوية ، أسلحة الدمار الشامل ، الفسفور الأبيض ، القنابل الباليستية ، القنابل العنقودية ، العامل البرتقاليّ ، الإشعاعات النووية ، أشعة الليزر ، الألغام الأرضية ، الدلافين الملغومة ، قذائف التوما هوك ، القصف المدفعيّ ، أقمار التجسس ، المروحيات ، طائرات الاستطلاع ، الذبذبات الكهربائية ، حرب الأجنّة ، لكنها بقيت الفلوجة .


وعندما حاصرها الاحتلال الأميركي بالدبابات والعربات المصفحة ، وعزل أحياءها ، وقطع حبل مشيمتها ، ومنعها من التجوال داخل نفسها ، وأقسم الرئيس بوش الصغير أنه سيشطب على أطفالها قبل مواليدهم ، وسيغرقها في بحر من الدم ، وأنه سيسجّل الرقم القياسي في عدد الجنازات والنعوش حتى لن يبقى في تاريخها يوم واحد للسلامة ، ويجرّد الشعراء من حماستهم ، والخطباء من حناجرهم .. وأقسم أن لا يخرج أحد من المدينة سالماً ، فاضطر أهلها إلى دفن شهدائهم في الملعب الرياضي الذي تحول إلى مقبرة . يومها كان العالم يرى المجزرة ، وكانت هناك مشكلة في توفير أكفان للموتى ، وكانت هناك مأساة الجثث التي لم يتم التعرف على هوية أصحابها ، جثتان وثلاث وأربع جثث تدفن في قبر واحد ، لم يضع أحد فوقها سبع سنابل خضر أو يابسات .. سقط الاحتلال ولم تسقط الخريطة .. سقط الشهداء ولم تسقط الفلوجة .


إنها الفلوجة الشاهدة والشهادة والشهيدة .. تنكسر السهام والسيوف والرماح على أطرافها ولا تنكسر .


تستيقظ إذا انبلج الفجر على صوت الآذان لا يعلو فيها صوت على صوت الله اكبر . وتحافظ على الصلوات الخمس في مواقيتها ، وتتلو ما تيّسر من القرآن الكريم . مدينة المساجد والمآذن ، من حقها أن تتباهى إن فيها مئات المساجد ، فلو تسلقتم منارة أعلى مئذنة من مساجدها سترون العراق كله .


إنها الفلوجة خففوا الوطء فما أرى إلا تحت كل بقعة من أديمها ينام شهيد . خفّف الوطء ستسمع صوت الشاهدة . وتحسّس رأسك .. هنا شفة ، هنا ساق ، هنا إصبع ، هنا ظفر ، هنا قدم تصطدم بقدم . تزاحمت عليهما الشماتة كلها في الموت لكأنها حمّالة القبور .. ينسى مرضاها مواجعهم ولا ينسون شهداءهم . ينسى جياعها شكل الرغيف ولا ينسون عيون شهدائهم .


إنها الفلوجة ، الهيولى الأولى ، حبل السرّة الذي يربطنا بميتافيزياء الكون . لها جميع الأسماء الحبيبة والعناوين ، لها الأزمنة والأمكنة ، من حي الجولان إلى حي الشهداء ، ومن حي نزال إلى حي جبيل ، إلى الحي العسكري .. نعرفها بيتاً بيتاً ، وشارعاً شارعاً ، ومفرقاً وراء مفرق ، ظواهرها وبطاحها ، ونعرف قبابها وقبورها وأصحابها واحداً واحداً ، ونعرف أن جميع الطرق في هذه المدينة تعبّر عن الصمود في وجه العدوّ الغازي .


إنها الفلوجة بنت العراق وأخت البصرة والناصرية والعمارة والنجف والديوانية وسامراء وكركوك والموصل ، وباقي المدن التي دافعت جميعها عن الشرف الذي لم يسلم من الأذى حتى نزفنا على جوانبه دم عزيز وغال من شرايّين قلوبنا ، يوم كان ملمّعي أحذية المارينز يسمّون احتلال بلادهم ضيافة ، ويبولون فرط الخوف على أنفسهم .. إنها ماء العيون .. إنها الفلوجة .


aljafarrabah@yahoo.com

 

 





الثلاثاء ١٧ ربيع الاول ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٩ / كانون الثاني / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب رباح آل جعفر نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة