شبكة ذي قار
عـاجـل










بسم الله الرحمن الرحيم

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ) النساء 71

صدق الله العظيم

 

تمهيد :

بعد انقطاع دام عدة أشهر ولأسباب خاصة نعود وبفضل من الله جلا في علاه إلى مواصلة دراستنا هذه والمتمحورة حول معرفة ما الذي يحرك الإنسان بهذا الاتجاه أو ذاك في هذه الفترة أو تلك، وبالتالي لنتعرف على الكيفية التي نجح بها العدو في توجيه ملايين من أبناء امتنا حسبما شاء، أو ما نسميه بالخرق الفكري. والذي هو الأخر – أي الخرق الفكري - لن يفهم ولن يتم استيعاب معناه بشكل مناسب ما لم تتم دراسة ومعرفة الفكر نفسه ومعرفة أهم العوامل المؤثرة فيه. ولذلك فقد تناولنا في الجزء الثاني دور وأهمية الفكر والعقيدة في حياة الفرد والأمة، ثم انتقلنا لتوضيح أهم المؤثرات التي تتحكم في حياة الإنسان وفي سلوكه وقراراته وخياراته. كل هذا من اجل توفير الاجابة الواقعية والدقيقة والمجردة عن أية انفعالات او عواطف او حسابات سياسية انية او شخصية عن عنوان دراستنا وهو :

وهل نجحت المخابرات الأمريكية في تجنيد الشعب العربي برمته؟!

 

فبعد أن أسعفتنا مجريات الأمور ووقائعها والموثقة بالصوت والصورة وسهلت علينا وعلى كل باحث أكاديمي عن الحقيقة لا عن المجاملات والحسابات السياسية، نقول بعد أن سهلت ويسرت علينا الوصول إلى كبد الحقيقة المجردة، فقد تمكنا من توفير الإجابة المنطقية والعقلانية عن مالذي حدث ويحدث في أقطار امتنا، فالذي يحدث ما وهو سوى صفقة أمريكية تركية إيرانية بأشراف ورعاية الصهيونية العالمية وبتمويل وغطاء سياسي وأعلامي خليجي أصبحت قطر الجزيرة الصغيرة فيه مملكة عظمى وعضو الارتباط مع أحزاب وحركات تتبرقع ببرقع الدين وتدعي زورا وبهتانا حمل لواء الإسلام والحرص على تطبيق تعاليمه ومبادئه العظيمة وهي ابعد ما تكون عن جوهر وروح الإسلام العظيم وستؤكد السنوات القليلة القادمة مدى صحة استنتاجنا هذا.

 

أن حجم المؤامرة الخطيرة التي يمر بها وجود الأمة نفسه وليس وجود بضعة أنظمة قد نتفق أو نختلف حول ايجابياتها وسلبياتها، نقول قد حتمت علينا أن نخوض في دراسة موسعة ومكثفة في آن واحد لنجيب عن سبب وكيفية حصول كل هذه التطورات الخطرة في حياة امتنا المجيدة. ولهذا فقد تناولنا في الأجزاء السابقة دراسة مالذي يحرك ويسير الفرد والأمة. حيث اتضح لنا أن ما يحكم ويتحكم ويسير ويوجه الفرد والأفراد والمجتمع والأمة هو الفكر أو بمعنى أوضح وأدق فهو التكوين الفكري والعقائدي للفرد وللأمة. أما العامل المادي أو الديني أو الوراثي أو الثقافي فهي ليست سوى عوامل مشاركة في صياغة التكوين الفكري وعوامل مؤثرة فيه بان واحد، وليست عناصر تتحكم في توجيه حياة الفرد وإلا لما تميز الإنسان عن الحيوان بعقله ووعيه وإدراكه، فالعقل هو من يوجه الفرد وهو من يتولى تحديد خياراته المادية والمعنوية.

 

فالعامل المادي مثلا أي الواقع الاقتصادي للفرد يشارك في صياغة التكوين الفكري والعقائدي للفرد فمن خلال القدرة المالية التي يتمتع بها الأفراد ومثلما تختلف القدرة الشرائية لهم ستختلف القدرة الفكرية حتما. فالميسور الحال مثلا سيكون قادر على مواصلة التعلم وكسب العلم والمعرفة والثقافة الحقيقة وليس السطحية. أما الفقير فسيكون بأمس الحاجة أولا لسد رمقه وإعالة أهله وأسرته قبل أن يتوجه للدراسة لاسيما أن كانت الدراسة غير مجانية، وإذا لم يكن بمقدور الفقير مواصلة دراسته فان بعض الأثرياء سيمتنعون عن الدراسة طبعا ليس بسبب انشغالهم في سد رمقهم وإعالة عائلاتهم وأسرهم أنما لشعورهم بالقوة وقدرتهم على تلبية مختلف حاجاتهم المادية والمعنوية سيجعلهم ينظرون إلى الدراسة والتعلم وكسب العلم والمعرفة والثقافة الحية كعناصر ثانوية وغير مجدية في الحياة.

 

وهكذا فان العامل المادي قد لعب دور المشارك في صياغة التكوين الفكري والعقائدي للفرد الميسور الحال بينما لعب دور المؤثر في حياة اغلب الفقراء وبعض الأثرياء. بل أن عدم قناعة بعض الأثرياء بجدوى الدراسة والتعلم هو بحد ذاته قد شارك في صياغة التكوين الفكري والعقائدي للفرد بحيث جعله بمستوى الأمي وهو ما سيترتب عليه العديد من التداعيات والنتائج السلبية. فالجهل والتخلف من أهم أسباب دمار الأمم والشعوب أن لم يكن أهمها على الإطلاق. ومثلما لعب العامل المادي دور المشارك في صياغة التكوين الفكري والعقائدي للفرد فان العامل الديني سيلعب نفس الأدوار وبإمكان القارئ الكريم العودة إلى الجزء السابق للاطلاع على دور الواعز الديني في صياغة التكوين الفكري والعقائدي للفرد وفي التأثير عليه. أما دور العامل الثقافي في صياغة التكوين الفكري والعقائدي للفرد فهو ما سنتناوله في هذا الجزء بالبحث والتفصيل.

 

تعريف الثقافة :

لابد لنا نتحدث عن ماهية الثقافة اولا وقبل الخوض في تأثير العامل الثقافي في صياغة التكوين الفكري والعقائدي للفرد والأمة، ذلك التأثير والذي يلعب في الحقيقة دور مهم على حياة الفرد بحد ذاتها وليس فقط في صياغة فكره وعقيدته.

 

فقد تنوع واختلف تعريف الثقافة من عالم الى اخر ولم ينحصر تعريفها في ميدان معين انما قدم علماء الاجتماع والنفس والسياسة والدين والمنطق واللغة وحتى بعض علماء الطبيعيات تعريف لها كل حسب ميدانه وحسب توجهه. حيث عرفها العالم الأمريكي كلباترك W.H.K.ilpatrick على أنها "كل ما صنعته يد الإنسان وعقله من مظاهر البيئة الاجتماعية"1. وعرفها الفيلسوف التجريبي والمفكر السياسي جون لوك بأنها "تهذيب العقل أو تهذيب الإنسان"2. وعرفها إدوارد بيرنت تايلور بأنها "ذلك الكل المعقد الذي ينطوي على المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعرف والعادات وغير ذلك من القدرات التي حصل عليها الفرد بوصفه عضواً في مجتمع"3. بينما يعرفها أستاذ علم الاجتماع هنري لاوست "بأنها مجموعة الأفكار والعادات الموروثة التي يتكون فيها مبدأ خلقي لأمة ما، ويؤمن أصحابها بصحتها وتنشأ منها عقلية خاصة بتلك الأمة تمتاز عن سواها". وعرفها بعض التربويين بأنها "مجموعة الأفكار والمثل والمعتقدات والعادات والتقاليد والمهارات وطرق التفكير ووسائل الاتصال والانتقال وطبيعة المؤسسات الاجتماعية في المجتمع الواحد" 4. وعرفها علماء الإنسان بأنها "أسلوب الحياة في مجتمع ما بما يشمله هذا الأسلوب من تفصيلات لا تحصى من السلوك الإنساني"5. وعرفها بعض المفكرين المسلمين بأنها "التراث الحضاري والفكري في جميع جوانبه النظرية والعملية الذي تمتاز به الأمة وينسب إليها، ويتلقاه الفرد منذ ميلاده وحتى وفاته" 6.

 

ونستنتج من التعاريف السابقة ان الثقافة تتميز بما يلي :

1- الثقافة عبارة عن مزيج، فالمعرفة والعقائد والفنون والأخلاقيات والقانون والعادات والقيم والتقاليد والأفكار والرموز والمواقف كلها تمتزج بعضها ببعض لتشكل لنا الثقافة.


2- الثقافة سلوك مكتسب، أي ان الفرد لا يورثها وإنما يتعلمها عن طريق العيش في مجتمع معين. فالطفل مثلا ينمو في مجتمع له ثقافته الخاصة، وتتكون الثقافة لدى ذلك الطفل من خلال ما يتعلمه، وما يمر به من خبرات ومعرف وتجارب في حياته، ومن خلال عمليات الاتصال بالمجموعات التي ينتمي اليها. والثقافة اذا تنتقل من جيل الى جيل من طرف المجتمع.


3- مكونات الثقافة تؤثر على الطريقة التي يستجيب بها الفرد لمواقف معينة، فمعتقدات الفرد وقيمه ومعتقداته وعاداته وتقاليده تلعب دور مهم وفاعل في طريقة تفكير وتصرف كل فرد وطريقة تقبله وردة فعله ومشاعره وأحاسيسه وتصوراته.

 

مكونات الثقافة، تتكون الثقافة من :

1- افكار : وهي النتائج المتحصل عليها من خلال معالجة العقل للبيانات المتحصل عليها من البيئة المحيطة.

2- عادات : وهي الطرق المعتادة التي يؤدي بها أبناء مجتمع معين الأشياء المختلفة.

3- أعراف : وهي عبارة عن أشياء تعارف عليها الإنسان، حتى أصبحت ملزمة للأفراد داخل المجتمع.

4- قانون : يمثل القانون قيمة التنظيم الاجتماعي للسلوك الإنساني، حيث يحدد ما يجب على الفرد عمله، وما يجب الامتناع عنه.

5- لغة : هي عبارة عن مجموعة من الرموز الكلامية المتفق عليها، والتي يستخدمه الأفراد لغرض التفاعل مع بعضهم.

 

كيف تنشئ ثقافة المجتمع والامة :

لو امعنا النظر في كيفية نشوء الثقافة وتشكلها لدى الفرد والمجتمع لوجدناها تعتمد على عنصر مهم، فحتى يكتمل البناء الثقافي لمجتمع ما فلابد لهذا المجتمع ان يتمتع بأساس مادي، وهو ما يشكل لنا مفهوم الحضارة. أي وبمعنى اوضح فان وجود الحضارة سينتج عنه وجود ثقافة فلا حضارة بدون ثقافة ولا ثقافة من غير حضارة، فالثقافة مترابطة ومتداخلة والى حد كبير بالحضارة حتى يصعب احيانا على المرء التفرقة بين مفهوم الحضارة والمتحضر وبين مفهوم الثقافة والمثقف. أي ان الاساس او الوجه المادي للثقافة هي الحضارة والأساس او الوجه المعنوي للحضارة هو الثقافة. فالحضارة العراقية مثلا انتجت لنا ثقافة عراقية خاصة والحضارة المصرية والصينية واليونانية والإسلامية انتجت هي الاخرى ثقافات خاصة بها.

 

فعبر الالاف السنين من التفاعل المشترك بين الحضارة والثقافة السومرية والاكدية والبابلية والأشورية والتي تناقلت عبر اللغة والتدوين والأعراف والتقاليد والعلوم والفنون من جيل لأخر ومن مدينة لأخرى، فقد امتزجت فيما بينها في بوتقة واحدة ثم اثرت والى حد ما في صياغة وتشكل الثقافة العراقية بعد الفتح الاسلامي للعراق والى وقتنا الحاضر. وهكذا فان الثقافة العراقية اليوم هي نتاج تفاعل وامتزاج كل هذه الحضارات والثقافات وما فيها من علوم وفنون وأعراف وتقاليد وطرق وأسلوب البناء والزراعة وحتى الاكلات المتوارثة. ولهذا نرى ان للمجتمع العراقي ثقافة تختلف عن ثقافة المجتمع السوري او المصري او الخليجي او الايراني رغم تشارك جميع هذه المجتمع بالعديد من الوشائج والصلات والتي منها الدينية واللغوية والجغرافية والاجتماعية.

 

ولمعرفة مدى التأثير المتبادل بين البناء المادي "الحضارة" والمعنوي "الثقافة " لأهل العراق كمثال، فقد عرف عن العراقيين انهم اصحاب خبرة ومهارة في الحروب وسيدنا عمر رضي الله عنه كان دائما ما ينادي بعراقي في حال وجود مشكلة عصيبة في معركة ما(أتوني بعراقي). ففي الحقيقة ان خبرة هذا العراقي ما كانت لتتكون وتتشكل لولا وجود البناء العظيم للحضارة العراقية، فطالما توفرت الثروات الطبيعية والمادية لأهل العراق لطالما اصبح بمقدورهم توفير شتى انواع الالات والمعدات الحربية لجيوشهم، ومع مرور الآلاف السنين وقيام مئات الحروب والمعارك والغزوات، ومع ما شهده تاريخ العراق من ظروف وأحوال مختلفة ومتباينة فقد اكتسبت الالاف الاجيال المتعاقبة من العراقيين ثقافتها الحربية الخاصة.

 

فقد القت الجغرافية والموارد بظلها على تشكل ثقافة المجتمع العراقي وحال هذا العراقي حال ثقافة اهل البصرة والتي تمتزج بثقافة ركوب البحار ونفس الشئ ينطبق على ثقافة الكرم التي يتحلى بها جل العراقيين. وحينما يشيع بين اهل مصر المثل القائل "ما تتبغددش عليّ" أي لا تكون معي بغدادي، فما كان بالمصريون ان يضربوا هذا المثل لولا ثراء وقدرة اهل بغداد ووجاهتهم.

 

وهنا نلفت انتباه القارئ الكريم الى ضرورة وعي وأدراك حقيقة طبيعة تأثير البنى التحتية (المادة) بالبنى الفوقية (القيم والأخلاق والأفكار والإبداع) التي تحدث عنها "الصهيوني المتخفي" كارل ماركس، فحتى لا يقعوا في فخ الماركسية، نقول وبالرغم من أن الأساس المادي يلقي بضلاله وتأثيراته على الاساس المعنوي في حياة الفرد والأمة، إلا انه وبنفس الوقت فلن يكون أبدا هو الموجه المحوري والأساسي والحاسم والوحيد للفرد في انجازاته الحضارية والثقافية. فثقافة الفرد والمجتمع ورغم تأثرها بالأساس المادي تبقى محكومة بطبيعة التوجه الفكري والعقائدي لذلك الفرد ولذلك المجتمع. وبمعنى اوضح فان ثقافة المجتمع العراقي مثلا لم تأتي وليدة الظروف المادية المجردة التي تتوفر في العراق فحسب، بل فقد شارك العامل الديني والاختلاط ببقية الامم والشعوب والجينات الوراثية في ولادتها ايضا. فليس بالضرورة ان يكون كل بلد غني ماديا غني فكريا وثقافيا وحضاريا.

 

هل تتنوع الثقافة :

اما بالنسبة لتنوع الثقافة فهنالك من العلماء والباحثين من يقسمها الى عشرات او ربما مئات الأنواع والأصناف، كالثقافة السياسية و الدينية والصحية و الفنية او الثقافة الذكورية والأنثوية وثقافة الاطفال.. الخ. ويستدل هؤلاء العلماء والباحثين في تقسيمهم لأنواع الثقافة على ان ما يفعله الناس، وما يعتقدونه وما يقدسوه وما يتقنونه وما يتفننون به يختلف من فرد ومجتمع إلى أخر فقد اختلفت الثقافة الشرقية عن الغربية والأسيوية عن الأفريقية. فما يعتقده فرد ما، وما يفعله وأسلوب استجابته للمتغيرات في بيئة ما يتوقف على الثقافة التي ينشئ فيها هذا الفرد.

 

ولكن ومع احترامنا وتقديرنا لجهود عشرات العلماء والباحثين في الميدان الثقافي، ورغم ما سيثيره حديثنا هذا من جدال ونقاش بين اواسط المعنيين فأننا لا نقر بوجود التنوع والتعدد للثقافة. فالثقافة حسبما نرى هي ثقافة واحدة...!!! نعم ثقافة واحدة غير قابلة للقسمة ابدا.

 

أي وحتى يفهم حديثنا بوضوح أكثر نقول، انه من الطبيعي والبديهي وكأمر مسلم به لا يتيح مجالا لخلاف اثنين حوله، هو أن لكل انسان على قيد الحياة، حياة خاصة به.. له مسكنه وعمله الخاص وأسرته وعائلته وعلاقاته الخاصة وله مستوى فكري وعقائدي والتزام أخلاقي وديني خاص به، ولكن هل يعقل او يجدي نفعا ان نضع دراسة لتقسيم انواع حياة الناس فنقول ان لهذا العامل حياة عمالية ولذلك الفلاح حياة ريفية.. هل نحتاج ان نفسر الماء بالماء كما يقال..!! فهكذا هي نظرتنا للثقافة. لا توجد ثقافة سياسية فقط او دينية فقط مثلما لا يوجد مثقف سياسي وأخر ديني انما المثقف واحد فلكل امرئ ثقافة جمعية خاصة به. نعم قد يكون لدينا خبير سياسي أو طبيب أسنان أو رجل دين أو ضابط مدفعية، ولكن لن يكون لدينا مثقف سياسي او ديني او طبي فحسب لان المثقف الحقيقي وبحكم الواقع هو من تشتمل ثقافته على معلومات دينية واقتصادية وفنية وعلمية وطبية..الخ.

 

ولهذا فنحن لا نقر بوجود تنوع للثقافة عمليا ولا نقر بوجود تنوع للمثقفين عمليا ولا بوجود من هو مثقف ومن هو غير مثقف عمليا فنظرتنا ان كل انسان هو مثقف والاختلاف هنا ليس بامتلاك الثقافة ام لا انما بطبيعتها. فبحكم طبيعة حياتنا هذه الأيام، بحكم سهول النقل والاتصال والاختلاط، فان ابن المدينة هو مثقف بما اكتسبه من محيطه مثلما ان ابن الريف هو الاخر مثقف بما اكتسبه من محيطه.

 

أي وبمعنى أوضح فان الثقافة اليوم ليست دليل على وجود الحضارة انما هي دليل على وجود الحياة بحد ذاتها وبغض النظر عن طبيعتها وطبيعة ما تحويه. ومتى ما صح توجيه سؤال الى فلاح ما هل هو على قيد الحياة سيصح ان نوجه هل سؤال هل هو مثقف..؟!!! ولو عاد القارئ الكريم الى تعاريف الثقافة اعلاه لوجد الدليل على صحة ما نقول وبالأخص تعريف علماء الإنسان لها بأنها "أسلوب الحياة في مجتمع ما، بما يشمله هذا الأسلوب من تفصيلات لا تحصى من السلوك الإنساني". فالثقافة هي الحياة والحياة هي الثقافة وبما أن الحياة لا يمكن أن تنحصر في ميدان معين كالدين أو السياسة فقط فان الثقافة هي الأخرى لا يمكن ولا يصح لها أن تنحصر في ميدان معين ومثلما يقول رينيه ديكارت "أنا أفكر أذن أنا موجود" فانا حي أذن أنا مثقف.

 

نستخلص من كل ما تقدم بان الثقافة تلعب دوراً هاماً للغاية في حياة الفرد والأمة، وبالتالي فلا يمكن تفسير سلوك فرد أو جماعة او مجتمع دون الرجوع إلى الثقافة السائدة في ذلك المجتمع. ولأهمية فهم الثقافة لفهم الفرد والجماعة والمجتمع فقد نشأ وتطور علم خاص بهذا الميدان وهو علم الإنسان الثقافي، فما هو..؟

 

علم الإنسان الثقافي :

ان علم الإنسان الثقافي (Cultural.anthropology) وحسبما جاء تعريفه في موقع الويكيبيديا فهو يهتم بدراسة الثقافة من جوانبها المختلفة حيث يركز على دراسة بناء الثقافات البشرية وأدائها لوظائفها في كل زمان ومكان. ويهتم باحثوا هذا الميدان بجميع الثقافات لأنه يسهم في الكشف عن استجابات الناس نحو مشكلات الحياة والعمل.

 

وتعتبر اللغة من أهم عناصر الثقافة، حيث تمثل دور الوسيلة التي تتم بها نقل وتوريث الثقافة من جيل لأخر ومن منطقة لأخرى. ويرجع الفضل إلى العالم إدوارد تايلور في نشأة هذا الفرع وتطوره وتنظيم موضوعاته في إطار واحد ينتظم حول الثقافة، ولعل التعريف الذي قدمه تايلور لا يزال سائداً حتى يومنا هذا على الرغم من ظهوره عام 1878 حيث عرف الثقافة على أنها "ذلك الكل المركب الذي يضم المعرفة والعادات والمعتقدات والأخلاق والفن والقانون، وأية قدرات أخرى يكتسبها الإنسان باعتباره عضواً في المجتمع وفي ضوء هذا التنوع والكثرة التي تشتمل عليها الثقافة فإن علم الانسان الثقافي يضم الفروع التالية : علم الأعراق، وعلم الآثار و علم اللغويات، ومن اجل الإلمام بأهم جوانب موضوع دراستنا هذه فسنعرف القارئ الكريم بتعاريف هذه العلوم ليتسنى له فهم وإدراك أهمية الثقافة في حياة الفرد والأمة فضلا عن أهميتها في دراسة افعال وتوجهات الافراد والمجتمع برمته.

 

علم الأعراق (Ethnology) :

هو علم الثقافات المقارن، وهو علم يعنى بخصائص وإنجازات الشعوب وأحوالهم الحضارية والثقافية ومعتقداتهم. من أهدافه إعادة صياغة تاريخ الإنسان ومعرفة التغيرات الثقافية الطارئة على سطح الأرض مع تغير الأجيال.

 

علم الآثار:

دراسة علمية لمخلّفات الحضارة الإنسانية الماضية. تدرس فيه حياة الشعوب القديمة، وذلك بدراسة مخلفاتها. وتشمل تلك المخلفات أشياء مثل: المباني والعمائر، والقطع الفنية، والأدوات والفخار والعظام.

 

علم اللغويات :

هو العلم الذي يهتم بدراسة اللغات الإنسانية ودراسة خصائصها وتراكيبها ودرجات التشابه والتباين فيما بينها، ظهرت في القرن التاسع عشر وهي متعلقة بدراسة اللغة. تعنى اللسانيات بدراسة جميع لغات البشر بما فيها اللغات المعاصرة، ويتركز اهتمام دارس اللسانيات على اللغة نفسها أساسا، فيهتم بأصولها وتطورها وبنائها، وبالتالي يستطيع عالم اللسانيات أن يعيد رسم صورة تاريخ اللغات والأسر اللغوية، ويقارن بينها لتحديد السمات المشتركة وفهم العمليات التي تظهر من خلالها اللغات إلى الوجود وتتنوع كما نراها اليوم والواقع أن دراسة اللسانيات تعتمد على منهج علمي وتعتبر أحد فروع علم الإنسان الثقافي، لأن اللغة هي أحد أهم عناصر الثقافة إن لم تكن أهمها على الإطلاق.

 

مصادر اكتساب الفرد لثقافته :

يلعب العامل الثقافي دور وتأثير كبيرين في صياغة التكوين الفكري والعقائدي للفرد والجماعة والأمة. فأي فرد من أفراد المجتمع – أي مجتمع – وبغض النظر عن باقي العوامل المؤثرة في حياته يكتسب يوميا وبشكل مستمر وبعدة طرق العديد من جزيئات القيم والمبادئ والعادات والتقاليد والأعراف والمعلومات والفنون والعلوم والمهارات. والحكمة الشائعة على ان من يكبر بيوم افهم منك بسنة، تتجسد فعليا في اطار تأثير العامل الثقافي على الفرد.

 

فالثقافة اولا وقبل كل شئ هي اكتساب، والاكتساب يتم من عدة مصادر فهنالك اكتساب ثقافي مصدره الاسرة وآخر مصدره المدرسة وثالث مصدره رجل الدين ورابع مصدره وسائل الاعلام وخامسا وأخيرا اكتساب ثقافي مصدره رموز المجتمع ومشاهيره، وفيما يلي توضيح هذه المصادر:

 

1 – التنشئة الأسرية : تمارس العائلة تأثيرا كبيرا على حياة الفرد وتوجهاته وخياراته وقراراته وبالتالي على تكوينه الفكري والعقائدي. بحيث يقوم الوالدان او حتى الأخ الأكبر أو أحيانا بعض الأقارب لاسيما ممن يمتلكون وشائج وصلات طيبة بتلك الأسرة بنقل المعلومات لأعضاء العائلة الأصغر والتي ستساهم فيما بعد وعند النضج اذا ما قدر لولي الامر الاستمرار على نفس اسلوب التربية والتنشئة نقول والتي ستساهم في طبع حياة الاولاد والبنات او الافراد الاصغر سنا بطابع معين يشابه والى حد كبير ما هو عليه حال ولي الامر ذاته. فيتم تربية افراد الاسرة على قيمها ومبادئها وأعرافها وتقاليدها والتي هي في الحقيقة جزء من قيم ومبادئ وتقاليد وأعراف المجتمع والوسط الاجتماعي الذي تتفاعل وتنتقل فيه تلك الأسرة، كالحي والمدينة ومكان العمل. وهكذا ومثلما اختلفت ثقافة الدول والمجتمعات ستختلف ثقافة الأسر والعوائل ومن ثم ثقافة الافراد. فالأسرة المترفة ماديا ثقافة تختلف عن ثقافة الأسر الفقيرة، بل هناك أحيانا اسر لها طابعها الثقافي الخاص والمتعلق بتوجه الاسرة نحو العلم او السياسة او الرياضة او الدين. وهكذا توجد هنالك اسر يعرف عن افرادهم تفوقهم العلمي أو اشتغالهم بالسياسة والأحزاب أو بالتعلم الديني او بالفنون او بالرياضة.

 

2 – التربية المدرسية : مثلما تمارس العائلة دورها الفعال في حياة ابنائها وأفرادها وفي صياغة ثقافاتهم وتوجهاتهم وخياراتهم وقراراتهم فالمدرسة هي الاخرى تمارس نفس الدور بل وأحيانا قد يكون لها الدور الابرز او على اقل تقدير الدور التكميلي للتنشئة الأسرية أو هكذا يفترض. فالبيت والمدرسة عنصران مهمان يكمل احدهما الاخر في اكتساب الثقافة وخاصة للأطفال ممن سجلوا في الدراسة الابتدائية. وهنا تبرز الحاجة إلى ضرورة غرس الثقافة السليمة في عقول وضمائر الأطفال، كالثقافة الوطنية وحب العلم والتعلم والمواظبة والالتزام بقيم ومبادئ الدين وبالقانون والأعراف الاجتماعي وحب الآخرين واحترام الكبير والمعلم وحسن استخدام أثاث المدرسة والكتب والمحافظة على النظافة ونبذ كل ما هو مخالف لذلك. كما تساهم بقية المؤسسات التعليمية (المدرسة الثانوية، المعهد، الجامعة) في تشكل ثقافة أفرادها.

 

3 – تأثير رجال الدين : فطالما كان علماء ورجال الدين هم القائمين بالفكر الديني وهم من يحاولون فهم الدين – أي دين – وتفسيره وتوضيحه لأتباعهم، فان تأثير الواعز الديني في صياغة التكوين الفكري والعقائدي للفرد سيكون انعكاسا لأراء هذا العالم أو ذاك أكثر مما يكون انعكاسا للدين نفسه. فليس من الممكن أن يكون كل فرد عالما ملما بشؤون دينه ومعتقده قادرا على فهمه مباشرة، حتى تنتفي الحاجة لهذا الوسيط والمتمثل بعلماء أو رجال الدين، لاسيما وان الدين نفسه لا يحتمل الخطأ والفهم الكيفي بل يتعلق بالجنة أو النار. وهذا هو ما يجعل الفرد يسلم عملية فهم دينه للعلماء المختصين بهذا المجال واضعا ثقته بهم، حاله حال المريض الذي يسلم أمره وحياته للطبيب وواضعا ثقته في العلاج الذي يوصي به ذلك الطبيب.7

 

4 – تأثير وسائل الأعلام : مثل الإعلام في تاريخ الإنسانية ومنذ القدم إحدى أهم وسائل البشر للتواصل فيما بينهم. فاستخدمه المجتمع والسلطة بان واحد وعبر مختلف العصور والظروف وعلى مختلف الأساليب والأنواع كوسيلة لنقل المعلومات ووجهات النظر والآراء والتوجيهات. فقبل مئات والآلاف السنين مثل الشعر والقصص والأساطير والمنحوتات والتماثيل ورسائل وخطب الملوك والأمراء والقادة كوسائل إعلام تلك العصور. اما في ايامنا هذه فقد اصبحت الصحف والمجلات والسينما والمسرح والإذاعة والتلفزيون والفضائيات وشبكة الاتصال العالمي "الإنترنت" والموبايل والملصقات من أهم وسائل الاعلام الحديث. ولكن مع هذا فلأعلام اليوم اكبر واهم من مجرد صحيفة او مجلة او اذاعة او تلفزيون.

 

وهنا ان ننبه على ان وسائل الاعلام كمصدر اساسي ومهم لاكتساب الثقافة تتبع الظرف او المناخ السياسي الذي يلقي بضلاله على المجتمع ككل فيدفع بالأفراد نحو اكتساب ثقافي معين قد يكون اكتساب مشوه، كما حدث خلال سنوات الغزو الامريكي للعراق مثلا بحيث ساهمت وسائل اعلام العدو وعملاءه في تشويه صورة الجهاد والمجاهدين فأضحت مقاومة العدو المحتل ارهاب حاله حال القتل على الهوية والإجرام وانتهاك الحرمات. مثلما نجحت وسائل اعلام الصهيونية العالمية وحلفاءها الى زرع ثقافة مشوه عن المانيا النازية سعت وما تزال وبشكل مستمر يكاد يكون يومي الى تغذيته بمئات الاكاذيب والأساطير بحيث لا يمر شهر او احيانا بضعة ايام وإلا نشرت خرافة جديدة تسئ الى المانيا ككل والى العهد النازي خصوصا. وحقيقة فان هذا الزرع الثقافي الخبيث وعلى ما يبدو قد ترسخ عند الاغلبية لاسيما ممن نشؤوا في ستينيات القرن المنصرم حيث لم يكن بوسع الفرد التحقق من صحة المعلومة وما الصق بالنازيين من جرائم وحشية لو صحت فعلا لما دافعنا يوما عن العهد النازي8.

 

فمهمة الاعلام اليوم وحسب ما نواجه نحن كقوميين من اعلام صهيوني متطور وخطير للغاية يهدد عقول ابنائنا ومستقبل امتنا في الصميم نقول فمهمة الاعلام اليوم يجب ان تكون وكما سبق وعرفناه هو وسيلة لتجميع إنتاج الأمة وبثها بطريقة تحفز الشعور بالمواطنة وتفعم حياة المواطنين بالحب والحماس وبقوة الانتماء للوطن وللأمة، وتخلق روح ثورية قادرة على فهم ووعي وإدراك عقيدة قيادته الوطنية لتجاوز المحن و الصعاب ولتحدي الخطوب التي قد تعترض طريقه.. طريق انجاز برامج قيادته الوطنية. فمهمة الإعلام الأولى هي خلق الإنسان المواطن الجديد، اما وسائل تحقيق تلك المهمة فقد تشعبت وتداخلت بكافة مجالات الحياة.9

 

5 – تأثير رموز الأمة ومشاهير المجتمع : يوجد في كل مجتمع رموز يقتدي فيه الآخرين ويساهمون مساهمة فاعلة في تشكل ثقافة أفراده، فالبطل في الحرب أو نجوم كرة القدم أو شيخ القبيلة أو المعلم أو حتى رئيس الدولة يساهم مساهمة معينة وبطريقة ما في غرس جزئية ثقافية معينة لاسيما في الأفراد الذين لا تتجاوز أعمارهم سن الثمانية عشر عام فمن شب على شئ شاب عليه كما تقول الحكمة. وبمجمل هذه الجزيئات الثقافية والتي يختارها الفرد بحريته التامة سواء عن وعي وأدراك أو جراء تسربها إلى عقله الباطني في اللاوعي فان ثقافة ذلك الفرد ستتشكل حسب ما غرس فيها رموز المجتمع أو الأمة أو أحيانا رموز قد لا تمت بصلة مباشرة لمجتمع ذلك الفرد ولكن وبنفس الوقت لها أثرها العالمي الكبير. فحينما تقرر شابة في الهند الإقدام على شنق نفسها بعدما ارتكب العدو الأمريكي جريمة إعدام الرئيس العراقي صدام حسين وهو من غير دينها وعرقها وشعبها ومجتمعها فهذا دليل واضح على مدى تفاعل الثقافات والشعوب فيما بينها عامة وعلى مدى تأثير الرموز في المجتمع كما ان قرار سكان أحدى القرى الهندية بتسمية قريتهم باسم الرئيس العراقي صدام حسين يعطي بعدا آخرا لما نقول. بينما قد يكون لنجوم الفن والرياضة تأثير أخر اقل مما هو عليه تأثير الزعامات والقيادات الوطنية، فقد نجد شباب أو حتى أطفال يتأثرون بقصة فيلم رعب أو إجرام فيقدم على قتل والده أو والدته أو أخوته أو أصدقاءه كما هو الحال في الولايات المتحدة التي تكررت فيها مثل هكذا حالات. ناهيك عن تأثر بعض الشباب بأسلوب تسريحة شعر هذا المطرب أو ذاك اللاعب.

 

مميزات الاكتساب الثقافي :

للاكتساب الثقافي العديد من الخصائص منها ميزة التباين وميزة الاكتساب المباشر والغير مباشر، وكما يلي :

أولا/ميزة تباين قدرات الأفراد على اكتساب الثقافة :

 

يختلف الافراد فيما بينهم بقدراتهم على الاكتساب الثقافي، مثلما تختلف القدرة على الاكتساب الثقافي من متجمع لأخر ومن منطقة لأخرى ومن وقت لأخر. وسبب هذا التباين يرجع لعدة عوامل، منها ما هو مادي ومنها ما هو معنوي او روحي.

 

العامل المادي : فالأسرة حينما تكون ثرية سيختلف تأثيرها كمصدر لأفرادها في الاكتساب الثقافي فيما لو كانت فقيرة أو ميسورة الحال، فبعض العوائل الثرية قد لا توالي الثقافة قيمتها الحقيقة وتكتفي بالمظاهر الخادعة او السطحية فتتحول الثقافة الى مجرد اثاث فخم او ملابس فاخرة او سيارة فارهة أو حفلات راقصة، أو تلفظ للمصطلحات الاجنبية فالثقافة الحقيقة ستهمل في هذه الحالة حالها حال الدين والتعلم وحب الوطن، وذلك بسبب انتفاء حاجة تلك الآسر الثرية، لان الثراء أحيانا يلقي صاحبه في عزلة عن الجماعة وعن هموم الامة ويتقلص محيطه الاجتماعي ويقتصر على من يشابهه في المستوى المادي. بينما قد نجد الاسر المتوسطة الحال ماديا او حتى الفقيرة ذات اهتمامات اوسع فتحمل هموم ابناء قريتها او بلدتها او مدينتها او بلدها برمته وتتحمس لقضايا الوطن والأمة والدين وتنشغل وتنغمس في التعلم واكتساب الثقافة الحقيقة.

 

العامل المعنوي : فمثلما شكل العامل المادي دورا سلبيا وايجابيا في اكتساب الثقافة فسيلعب العامل المعنوي او الروحي دوره السلبي والايجابي هو الاخر في اكتساب الثقافة. فالأسرة المتعلمة والحائزة على شهادات جامعية او ما يناهزها تجدها تولي الثقافة اهمية خاصة فالفرد في هذه الحالة وبحكم محيطه الاجتماعي الجامعي يكون قد تعرض وبشكل يومي ومستمر الى عشرات او مئات الدروس والعبر سواء كان مصدرها الاستاذ الجامعي او سائق الحافلة او عامل الخدمات او جراء المشاركة بعمل جمعي ما كالتظاهر او مؤتمر علمي او جلسة شعرية.. الخ. بينما قد تجد الاسر الفقيرة منشغلة عن اكتساب الثقافة الحقيقة من اجل كسب لقمة العيش فلا وقت و مال لديها حتى تكرسه وتخصصه للاكتساب الثقافي الصحيح وهذه الاسر طالما وقعت في الجهل ستقلع ضحية للنصب والاحتيال والخداع من قبل رجال الدين خاصة حينما تلجئ تلك الاسر لهم للتخفيف عن همومها وتبرير ما قد يلم بها من مصائب وابتلاءات. مع ضرورة الانتباه هنا بان ما ذكرناه عن تباين قدرة الافراد على اكتساب الثقافة هو مسائلة نسبية وليست مطلقة اي وبمعنى اوضح فليس كل عائلة ثرية ستلجئ الى الثقافة السطحية مثلما ليس كل عائلة فقيرة ستقع اسيرة الجهل والتخلف والسقوط في حبال رجال الدين. فليس ثمة قاعدة ثابتة تحكم تصرفات وسلوكيات البشر. وما قد يثبت على هذه الاسرة يتغير عند الاخرى وما يثبت عليها اليوم قد لا يستمر بثباته بعد شهر او عام او عقد من الزمان.

 

ثانيا/ ميزة الاكتساب المباشر والغير مباشر الثقافة :

لو تمعنا في مصادر اكتساب الفرد للثقافة لوجدنا ان كل مصدر ينطوي على اكتساب مباشر وآخر غير مباشر.

 

فالاكتساب المباشر للثقافة : هو ما يأتي بصيغة اوامر اي ما يمكن فعله وما لا يمكن فعله او ما هو مسموح به وما هو غير مسموح به او ما هو حلال وما هو حرام. وبادئ ذي بدء تكون تلك الاوامر بدون شرح او توضيح أو تبرير السبب، كما هو الحال في تربية الاطفال حيث تتفق جميع الاسر وبحكم الرعاية الابوية الى منع اطفالهم من اللعب بالنار والكهرباء والآلات الحادة والحاجيات الثقيلة او الاقتراب منها من غير ان تشرح بوضوح سبب ذلك ثم وبالتناسب مع نمو الطفل ونضجه تبدأ الاسرة بتوضيح سبب تلك الاوامر ولكن بشكل مقتضب ومبسط وهكذا وكلما تقدم الابن في العمر وكلما نضج عقله وجسده وحواسه ومشاعره كلما كثرت وتشعبت اوامر الاسرة وتوسعت في تقديم توضيحات وملابسات اوامرها وما قد يعتريها من تضارب او تناقض او تباين مع ما سبق وتم تقديمه.

 

وهكذا ومثلما تنقل الاسر لأطفالها وبشكل يومي ومستمر لجزئية ثقافية معينة فان المدرسة هي الاخرى ستلعب نفس الدور وهكذا الحكومة وباقي مؤسسات المجتمع بغض النظر عما صاحب تلك الاوامر من تفسيرات او لم يصاحبها وبغض النظر عما ان وافق عليها الفرد عن قناعة او بالرغم من ارادته كما هو الحال في حظر نشاط سياسي معين او في منع مزاولة نشاط اقتصادي ما. فالأعراف والتقاليد والقوانين ومثلما سبق وقدمنا تعتبر من مكونات الثقافة في اي مجتمع لاسيما اذا ما قدر للقانون ان يستمر تطبيقه فترة طويلة نسبيا من الزمن في مجتمع ما. ومثال ذلك هو ما نراه في تركيا مثلا فما يعرف بقانون اتاتورك والذي عزز نمط الحياة الغربي في المجتمع التركي وبمرور الوقت وتعاقب الاجيال عليه قد انتج في المجتمع التركي ثقافة التبرج والتفسخ الاخلاقي التي باتت واحدة من اهم مميزات تركيا.

 

اما الاكتساب الغير مباشر للثقافة : فهو ما لا يتم عبر الطريقة السابقة – اي طريقة افعل ولا تفعل، ممكن وغير ممكن، حلال او حرام. فالاكتساب الثقافي في هذه الحالة لا يأتي بصيغة الاوامر ولا يفرض بالرغم من ارادة الانسان ولكن وبنفس الوقت لا يتم بإرادته انما يتسرب الى ذهن الانسان ومشاعره وأحاسيسه بدون فرض خارجي محسوس وهو اشبه ما يكون بزرع فكرة او احساس معين في ذهن الانسان اثناء جلسة تنويم مغناطيسي. وفي الحقيقة وعلى الرغم من ان فكرة الغرس الثقافي هذه ما تزال فكرة خيالية تناولتها بعض الافلام الامريكية 10 إلا انها وبنفس الوقت ممكنة التحقق في طرق اخرى اقل تعقيد كما هو الحال عليه في بث فكرة معينة ضمنية في بحث او دراسة مقالة ما او في فيلم او مسرحية او حتى في دعاية اعلانية او في اغنية او برنامج تلفزيوني. وما نتحدث عنه هنا ليس محض هراء او خيال علمي انما نظرية علمية طبقت في الولايات المتحدة الامريكية وعرفت لاحقا بنظرية الغرس التلفزيوني الامريكي.

 

نظرية الغرس التلفزيوني الامريكي 11:

هي نظرية اجتماعية درست الآثار الطويلة الأمد للتلفزيون على الجماهير الأمريكية من جميع الأعمار. طورت هذه النظرية بواسطة جورج جربنر و لاري غروس في جامعة بنسلفانيا. نظرية الغرس الثقافي مستمدة من عدة مشاريع بحثية واسعة النطاق كجزء من مشروع بحثي شامل بعنوان 'المؤشرات الثقافية'.

 

وكان الغرض من مشروع المؤشرات الثقافية معرفة وتتبع أثار التلفزيون المنغرسة على المشاهدين. وقد كانوا قلقين من آثار البرامج التلفزيونية (البرامج العنيفة على وجه الخصوص) على مواقف وسلوكيات الرأي العام الأمريكي (ميلر، 2005، ص 281(. جاربنر وستيفن ميراي يؤكدان أن القلق العام حول تأثيرات التلفزيون على الجماهير نابع من محورية لم يسبق لها مثيل للتلفزيون في الثقافة الأميركية لقد افترضوا أن التلفزيون كوسيلة اتصال شاملة قد تحول إلى بيئة رمزية مشتركة تجمع مختلف المجتمعات معا، وتساعد في التنشئة الاجتماعية مع أدوار موحدة و سلوكيات. وقارنوا بين قوة التلفزيون و قوة الدين، قائلين أن التلفزيون يمثل للمجتمع المعاصر ما كان يوما يمثله الدين في الأزمنة السابقة!

 

وفقا لميلر لم تنشأ نظرية الغرس الثقافي لدراسة الآثار المستهدفة والمحددة (على سبيل المثال، أن مشاهدة الأطفال سوبرمان سيؤدي إلى محاولة الطيران من خلال القفز من النافذة)، بل لدراسة تأثير التلفزيون التراكمي و الشامل بشأن الطريقة التي نرى بها العالم الذي نعيش فيه. ولذلك ظهر مصطلح 'نظرية الغرس الثقافي. يقول جاربنر و غروس و مورغان في السابق كان للدين و للتعليم تأثير كبير على الاتجاهات الاجتماعية وعلى العادات، ولكن اليوم قد اصبح التلفزيون هو مصدر معظم الصور والرسائل المتبادلة على نطاق واسع في التاريخ. فالتلفزيون يزرع من الطفولة أكثر الميول والتفضيلات التي كان يتم اكتسابها من مصادر أساسية أخرى.

 

لقد حققت الولايات المتحدة الامريكية ناجحا كبيرا في الترويج لثقافتها وأسلوب حياتها ولمنتجاتها وبضائعها وانجازاتها العلمية عن طريق التلفزيون وصالات السينما، فهي تعرض لك فيلما ما وتترك فريسة من غير ان تدري لعشرات الافكار والتصورات والهواجس والأحاسيس فتزرع في عقلك الباطني وفي اللاوعي كل ما من شانه تعزيز وتجميل صورتها ونبذ اعدائها وكل ما من شانه خدمة اهدافها ومصالحها.

 

ولكن في الحقيقة وكما سبق واشرنا اليه في بحوث سابقة فان النجاح الاعلامي للولايات المتحدة الامريكية قد سرق من المانيا النازية والتي برعت حقيقة في استحداث مئات الاساليب الاعلامية والدعائية المنقطعة النظير فلم يسبقها احدا من قبل في هذا الميدان. ونرى انه من المفيد وللتأكيد هذه الحقيقة ان نعيد ما سبق وتحدثنا عليه فقد تمكن الألمان في عهد الرايخ الثالث وتحت قيادة حزب العمال الوطني الاشتراكي " النازي " من إحداث ثورة حقيقة في الإعلام، حيث يقول الدكتور جوزيف غوبلز وزير الدعاية الألماني ودعائي القرن العشرين في هذا الصدد (لكي تكون لديك دولة جيدة، لابد ان يكون لديك إعلام جيد، فلا دولة بدون إعلام جيد، ولا إعلام جيد بدون دولة جيدة)12 ان هذه الكلمات التي ذكرها غوبلز تنطوي على فهم ثوري لدور وأهمية الإعلام في حياة الأمم والشعوب. فاستخدمت ألمانيا العديد من وسائل الإعلام حتى بات تنوعها الى الحد الذي لا يمكن للمواطن البسيط فهم حدوده وإبعاده.

 

كما برع الألمان في استخدام الفضاء في نقل موجات البث الإذاعي المباشر لخطب الزعيم الألماني أدولف هتلر. مثلما استحدثوا الكاميرات المحمولة جوا بالطائرات لتصوير مظاهر الحشود المليونية إثناء خطب زعيمهم وإثناء الاستعراضات المدنية والعسكرية وافتتاح الاولمبياد عام 1938. 13 واستحدثوا أيضا استخدام الكاميرات المنزلقة على جدران أعالي البنايات للتصوير المشاهد والاستعراضات والخطب والاحتفاليات من زوايا متعددة. كما استحدثوا أسلوب البث الدعائي في الحقول الزراعية والمعامل والمصانع والمعسكرات والمدارس والجامعات وحيثما وجد الجمهور ووجدت الحشود.

 

وكل هذا فلم يقتصر الإعلام الألماني على إلقاء الخطب الحماسية او على استحداث وسائل تقنية جديدة او على زج الإعلام في كافة فروع الحياة الألمانية فحسب، بل استخدموا الأفلام السينمائية والوثائقية للترويج للفكر للاشتراكية الوطنية ولبرامجها المختلفة كالأفلام السينمائية الوثائقية انتصار الإيمان 14 عام 1933، وانتصار الارادة 15 عام 1934، ويوم الحرية : قواتنا المسلحة 16 عام 1935، أوليمبيا 17 عام 1938، والفيلم الوثائقي المتميز اليهودي الابدي 18 عام 1940 والتي اشرف ادولف هتلر بنفسه على انتاجها. كما استخدموا الملصقات الجدارية 19 واستخدامهم لألوان معينة في الطرق والنصب والمهرجانات بعد دراسة خصائصها المعنوية وتأثيراتها على النفس الألمانية 20.

 

من هذا نفهم بان الاكتساب الغير مباشر للثقافة ليس حكرا على التلفزيون فحسب، بل قد يكتسب الفرد ثقافته بشكل غير مباشر من اسرته ومن مدرسته ومن شيخ قبيلته او رجل الدين الذي يتبعه او من رئيس عمله او دولته مثلما قد يكتسبها من لاعب كرة القدم او مطرب مشهور او من خلال رواية ما او بيت شعر او مثل او حكمة معينة. ولكن اعتبر التلفزيون اقوى وسيلة للاكتساب الثقافي الغير مباشر كونه يتمتع بالمؤثرات الصوتية والصورية ولسهولة التلقي انتشاره الواسع في حياة الفرد. ولهذا فقد اخذ التلفزيون اهمية خاصة في هذا الميدان، لاسيما وان الفرد عبر العالم ما يزال يثق بما تراه به عيناه وتسمعه اذانه ترتجف له اعصابه او تحمر له وجناته او يخفق له قلبه.

 

وهنا نذكر القارئ الكريم وخاصة ممن قدر له ان يستخدم تلفزيون او يدخل صالة سينما ذي تقنية 3D والتقنية المستقبلية 4D حيث يمكن للمشاهد أن يشم رائحة المحيط في حال كان المشهد في البحر ويشعر بهزة عند قيام زلزال، ويشعر بالورد الذي منحه البطل إلى حبيبته في أحد المشاهد الرومانسية أو الحرارة عند قيام حريق وتفاصيل أخرى تتعلق بالحواس ستضيف لتجربة المشاهدة السينمائية الكثير. وتبعاً لمجلة لوس أنجلوس تايمز فإن شركة "CJ" الكورية الجنوبية صاحبة هذا الاختراع ستعقد اتفاقاً مع شركات إنتاج أمريكية لبناء 200 قاعة عرض بتقنية ال "4D" خلال خمس سنوات المقبلة، وتبلغ تكلفة القاعة الواحدة 2 مليون دولار وستجعل البدء في بناءها مرتبط فقط بنجاح التجربة الأولى في أواخر العام الجاري.

 

امثلة واقعية عن الاكتساب الغير المباشر او الطوعي للثقافة ((الغرس الثقافي)) :

نظرا لأهمية الاكتساب الغير مباشر للثقافة او ما يمكن ان نسميه اصطلاحا الاكتساب الطوعي للثقافة، ونظرا لخطورة هذه الصفة التي تصاحب كل مصادر اكتساب الثقافة ((الاسرة... المدرسة... رجل الدين.. وسائل الاعلام.. رموز الامة))، وحتى نترجم حديثنا في هذا الجزء الى واقع ملموس للقارئ الكريم وحتى يتم فهم واستيعاب وإدراك ما نرميه اليه في دراستنا هذه ككل سنضرب مثال حي للغرس او الزرع الثقافي الطوعي والغير المباشر للثقافة في العراق والذي قد يستذكر مفرداته العديد من القراء الكرام اثناء حديثنا هذا.

 

فعلى مستوى الآسر العراقية الكريمة فقد شهدت فترة سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين شيوع ثقافة العمل الجماعي والتي تسربت الى عقول ومشاعر اولياء الامور نتيجة المناخ السياسي الذي كان يعيشه العراق حينئذ. فمثلا حينما تقوم الاسرة بعمل جماعي كحملة تنظيف وإدامة لمسكنها فأفراد الاسرة يطلقون عبارة ((حملة عمل شعبي)) وهي عبارة تعود في الاصل الى برنامج حملات العمل الشعبي الذي اطلقته قيادة حزب البعث لبناء عشرات المدارس والأبنية العامة من اجل التخفيف عن كاهل ميزانية الدولة التي لاقت صعوبات بالغة في فترة ما بعد تأميم النفط. ونفس الحال كان تطلق هذه العبارة في المدارس وحتى دوائر الدولة، و لربما كان شيوعها اولا قد جرى بشكل امر حزبي للبعثيين ولكنه في النتيجة فقد تحول الى ثقافة عامة تميز بها المجتمع العراقي حينذاك.

 

بينما لاقت العديد من افلام الكارتون ((كساندي بيل والرجل الحديدي ومغامرات الفضاء - جرندايزير، وساسوكي، سندباد، فارس الفضاء..الخ)) رواجا كبير بين مختلف شرائح المجتمع العراقي وليس بين الاطفال فقط. بحيث غرست وزرعت ثقافة حب عمل الخير والوطن وحب العلم والإيثار والتضحية بالنفس والشجاعة والإقدام وباقي القيم النبيلة في عقول وقلوب الملايين وأثرت بطريقة غير مباشرة على نشوء جيل ايجابي ومتميز وجاد.

 

كما اغنت الاناشيد والأغاني الوطنية الحماسية وساهمت مساهمة فاعلة في تدعيم الروح المعنوية للفرد العراقي سواء ذلك الذي يدافع عن وطنه في جبهات القتال او سواء ذلك الفلاح او العامل او الموظف او حتى ربات البيوت. فأضحت اناشيد ((منصورة يابغداد وياكاع ترابج كافور..الخ)) على لسان جل العراقيين وشكلت تراثا شعبيا ورمزا عظيم المعاني والدلالات عند الكثير من العراقيين والى يومنا هذا.

 

كما لعبت بعض الافلام الوثائقية والسينمائية دورا كبيرا وفاعلا في الترويج لثقافة معينة كما هو الحال في الافلام الحربية التي انتجتها دائرة السينما والمسرح كأفلام ((الحدود الملتهبة وشمسنا لن تغيب وصخب البحر والأيام الطويلة والقادسية والمسالة الكبرى))، فقد غرست هذه الافلام العديد من الجزيئات الثقافية التي تبلورت في اذهان العراقيين الى حالة وطنية شاملة تمثلت في حب الانتماء للوطن وللأمة ولتاريخ الاجداد كما هو الحال في فيلم ((القادسية)) الذي تناول قصة تحرير العراق من الاحتلال الفارسي الساساني وفيلم ((المسالة الكبرى)) الذي تدور قصته حول ثورة العشرين على الاحتلال الانكليزي للعراق ونجح الى حد كبير في تعريف الاجيال اللاحقة بما حققه اجدادهم الشجعان فأعيدت ثورة العشرين الى الحياة وترسخت عند الكثير من ابناء العراق العظيم.

 

وشكلت بعض برامج التلفزيون كبرنامجي ((الملف، والسراب واليقين)) هي الاخرى جزء من مجهود القيادة العراقية لنشر الوعي السياسي والتاريخي وعرض الحقائق المغيبة حول قضية الكويت وأحداث عامي 1990 و1991 وأصول الاسر الحاكمة في الخليج، وهو الامر الذي نجح في غرس وزرع العديد من الجزيئات الثقافية التي سعت القيادة العراقية الى ترسيخها لدى العراقيين كافة. ونجح برنامج ((العلم للجميع)) والذي يقدمه المرحوم الاستاذ كامل الدباغ رحمه الله في زرع حب العلم والفضاء حتى اضحى اسم كامل الدباغ مرادفا للعلوم والفضاء في اذهان العراقيين.

 

بينما شكل امر القائد المنصور بالله صدام حسين المجيد بضرورة الاستهلال بالبسلمة عند التحدث وبضرورة وضعها في مقدمة كل كتاب حكومي الى غرسها وبنجاح كبير في اذهان العراقيين. فقد لاحظنا في العديد من مقابلات التلفزيونية والفضائية والراديوية ان يبدأ المتحدث بقراءة البسلمة حتى بعد الاحتلال وليومنا هذا ومن مختلف شرائح وطبقات المجتمع العراقي. مثلما نجحت القيادة العراقية بزرع تسمية ((الكيان الصهيوني)) بدلا عن "إسرائيل" حتى بعد الاحتلال الامريكي الايراني الصهيوني للعراق، فرغم كل ما انفق من مال ومن جهود لقلع هذه الفكرة من نفوس العراقيين إلا انها ما تزال راسخة عند جل العراقيين.

 

و شكلت ايضا الالاف المفردات والعبارات دورا مهما في نشر وزرع العديد من الجزيئات الثقافية في العراق وفي العالم برمته، فأضحت مفردة ((الماني)) رمزا للتفوق والتقدم العلمي المنقطع النظير مثلما شكلت صورة البطل الثائر ((جيفارا)) رمزا عالميا في اذهان عشرات الملايين كما شكلت ((صورة القائد الشهيد معمر القذافي رحمه الله واسكنه فسيح جناته وهو يلوح بيديه الكريمتين)) رمزا للتحدي والشجاعة والتضحية في الاونة الاخيرة.

 

فالغرس او الزرع الثقافي او الاكتساب الطوعي او الغير مباشر للثقافة لا ينحصر في اتجاه او ميدان معين، انما يمكن ان يتم بعشرات او مئات الطرق والأساليب. فوسائل تحقيقه ليست لها قاعدة ثابتة انما قابلة للتغير والتطور حسب الحال والظرف والزمان والمكان وحسب قيم ومبادئ وعادات وتقاليد كل فرد او مجتمع. فالغرس الثقافي يمكن ان يتم باستمرار الحدث ذاته فترة طويلة نسبيا، او باستمرار وتكرار الحديث، او بغرابة الموضوع المراد غرسه، او بالاعتماد على اسلوب نقد او جلد الذات، ناهيك عن قوة فرض القانون والذي يؤدي الى شيوع ومن ثم غرس ثقافة معينة او جزئية منها.

 

الخلاصة :

تتميز دراسة العامل الثقافي ببعض الخصائص والصفات التي تساعد رجل الدولة على التنبؤ بسلوك الفرد والجماعة وحتى عموم افراد المجتمع ومدى استعداداتهم وتقبلهم لتطورات الاحداث وتوجهات الحكومة وسياساتها مثلما تساعد الباحث الأكاديمي على تفهم واستيعاب المزاج العام للأفراد وتوجهاتهم وردات أفعالهم.

 

وبمعنى اوضح فان عملية بناء الانسان المواطن الجديد والصالح، تتطلب من الجهة المعنية في الحكومة ان تفهم وتعي تمام الفهم والوعي والإدراك حقيقة تأثير العامل الثقافي في حياة الفرد والمجتمع والأمة. ومن اجل الوصول الى هذه القدرة كان لابد لنا ان نوضح ماهية الثقافة وما هي مكوناتها وكيف تنشئ وكيف يكتسب الفرد والمجتمع ثقافته وما هي مميزات ذلك الاكتساب وصفاته وخصائصه.

 

والمهم هنا في عملية بناء الانسان المواطن الصالح.. المواطن الواعي لوطنيته وحقوقه والتزاماته.. المواطن الغير قابل للاختراق الفكري والعقائدي.. المواطن الذي لا يخرب بلده بيده ويدنس مقدساته ويهين رموزه الوطنية.. المواطن الانسان المنطقي في وعيه وفي تصرفاته.. نقول المهم هنا هو كيفية بناء الانسان بناء مستقر لا بناء هش قابل للانقسام والتحول والتغير السلبي المفاجئ.

 

وحتى نتمكن من بناء هكذا الانسان وبهكذا مواصفات ينبغي علينا اولا وقبل كل شئ ان لا نفرض عليه ثقافتنا بالقوة او حتى بالترغيب. فالقوة معرضة للزوال في اية لحظة سواء كانت قوة السلطة وما تمتلكه من مال وأعلام وسلاح وأجهزة امن او سواء كانت قوة ولي الامر كالوالد او شيخ القبيلة وما يمتلكانه من رمزية ونفوذ وعلاقات ومال وأتباع وقوة بدنية وذهنية كما ان الترغيب هو الاخر معرض للزوال لاسيما ان افتقدنا وسائله الخاصة. لذا ينبغي علينا ان نجعل الفرد هو بنفسه وباختياره الحر ان يؤمن ايمانا ثابتا راسخا بثقافتنا بغض النظر عن امتلاكنا للقوة او لوسائل الترغيب او غيباهما عنا.. فهذه هي مهمتنا الشاقة في بناء الانسان المواطن المنطقي في تفكيره على اقل تقدير. والمقصود هنا بالإنسان المواطن المنطقي، هو من يفكر ومن يتخذ قراره ومن يتصرف بعقلانية لا بردات فعل وعواطف زائلة وانفعالات قد تجر عليه ويلات وماسي لا طاقة له بها.

 

فمهمتنا في بناء الانسان لا تتعلق في الوصول الى بناء الانسان انما في كيفية ذلك، فلا فائدة مرجوة من بناء انسان رغما عنه بالقوة أو بالترغيب، إنما أساس عملنا أن يكون ضميره هو الرقيب، وان يكون عقله هو الحكم والفصيل في اتخاذ القرارات والأفعال. نريد من الطالب في المدرسة ان يدرس هو بذاته وعن قناعته وعن ايمانه الراسخ في فائدة الدراسة، لا نريده أن يدرس رغما عنه بقوة الاب او الام او المدرس او مدير المدرسة او بالتخويف من نتيجة فشله في الدراسة.

 

اما واجبنا نحن كمسؤولين عن بناء الانسان فلا ينحصر في اختراع طريقة او جهاز لغسل العقول طبعا انما في كيفية ايصالنا هذه الحقيقة للطالب نفسه، في كيفية جعل الطالب يؤمن ايمانا راسخا وقويا في فائدة الدراسة نفسها. وهنا تسكن العبرات وهنا تتبلور اهمية مقالاتنا هذه.

 

فأولا يجب ان نوفر الظروف المناسبة لحياة عائلية كريمة، يجب ان نوفر المسكن ومصدر الرزق، ثم يجب ان نوفر المدرسة ذاتها من ابنية الى اثاث الى مناهج علمية سليمة الى قرطاسية الى كادر تربوي علمي سليم، ثم يجب ان نوفر فرص العمل لخريجي المدارس والمعاهد والجامعات، ثم يجب ان نزرع ثقافة التعليم وطلب العلم في البيت وفي الشارع وفي دور العبادة وصالات السينما والمسرح وملصقات الدعاية والإعلام ناهيك عن المدرسة ذاتها.

 

وهنا نتسأل ان كانت هذه شروط بناء عملية تربوية علمية ناجحة توفر لنا اجواء دراسية سليمة وتبني لنا جيل من الطلاب المتميزين، فما هي شروط بناء الانسان المواطن ككل وليس كطالب نموذجي فحسب..؟!!

 

ان اهم ما ينبغي ان ننتبه له ونراعيه في بناء الانسان المواطن المنطقي السليم التفكير واهم ما ينبغي ان نراعيه في كيفية زرع ثقافتنا بعقله من غير اكراه.. ومن غير قوة.. ومن غير ترغيب.. هو ان نكون قادرين على استثمار ميزة الاكتساب الثقافي الغير المباشر مع ضرورة توفير كل ما من شانه تدعيم ما نحاول زرعه في عقل المواطن الذي نرجوا ونعمل على بناءه بناءا راسخا ثابتا قويا. فمثلما كان علينا نوفر الظروف النموذجية للدراسة فيجب علينا ان نوفر الظروف النموذجية للمواطنة، ان نستثمر الأعلام كوسيلة للاكتساب الثقافي الغير مباشر.

 

وهنا نعود مرة اخرى لتوضيح مفهومنا للأعلام وللعمل الاعلامي : فهو وسيلة لتجميع إنتاج الأمة وبثها بطريقة تحفز الشعور بالمواطنة وتفعم حياة المواطنين بالحب والحماس وبقوة الانتماء للوطن وللأمة، وتخلق روح ثورية قادرة على فهم ووعي وإدراك عقيدة قيادته الوطنية لتجاوز المحن و الصعاب ولتحدي الخطوب التي قد تعترض طريقه.. طريق انجاز برامج قيادته الوطنية.

 

فلا انسان صالح بدون ثقافة سليمة، ولا ثقافة سليمة بدون أعلام ناجح، ولا أعلام ناجح دون إنتاج قومي غزير ومتطور، ولا إنتاج قومي غزير ومتطور بدون قيادة ثورية وعيا وفعلا. بدون قيادة بمستوى فهم ووعي وإدراك عقائدي جديد قادر على فهم واستيعاب وإدراك اسباب الكوارث التي حلت بأمتنا وطرق معالجتها ومنع تكرار حدوثها وضرورة إزالة حطام كل ما تهدم فكرا قبل المادة كخطوة أولى لإعادة بناء الإنسان والوطن والذي لن يتم هذه المرة بعد تسلمنا للسلطة أنما ينبغي علينا أن نبدأ به من هذه اللحظة بالذات.

 

الهوامش :

1- د. محمود شفشق وآخرون – التربية المعاصرة. ص 39، ط1، عام 1394ه دار القلم – الكويت.

2- د. عبد الحليم عويس – ثقافة المسلم في وجه التيارات المعاصرة ص 16، طبعة عام 1399ه - النادي الأدبي بالرياض.

3- د. مصطفى الخشاب – علم الاجتماع ومدارسه، ص 189، طبعة عام 1387ه، دار الكاتب العربي بمصر.

4- د. رجب سعيد شهوان وآخرون – دراسات في الثقافة الإسلامية، ص 8، مكتبة الفلاح – الكويت ط2، عام 1401ه -1981م.

5- إبراهيم خورشيد – مفهوم الثقافة، مقال منشور بمجلة (الفيصل) – العدد العشرون، ص 28.

6- دراسات في الثقافة الإسلامية، ص 8.

7- سبق وتناولنا وبشكل تفصيلي دور وتأثير العامل الديني في حياة الفرد والأمة وذلك في الجزء الرابع بحلاقته الثلاثة من دراستنا هذه.

الحلقة الاولى :

http://www.albasrah.net/ar_articles_2012/0512/ra2ft_010512.htm

 

الحلقة الثانية :

http://www.albasrah.net/pages/mod.php?mod=art&lapage=../ar_articles_2012/0512/ra2ft_120512.htm

 

الحلقة الثالثة :

http://www.albasrah.net/ar_articles_2012/0612/ra2ft_150612.htm

8- شاهد : الفهرر ادولف هتلر بين ابناء شعبه لقطات في غاية الروعة

http://www.youtube.com/watch?v=AL3F0qlzKIs

http://www.youtube.com/watch?v=Jai0tjLmGwI

http://www.youtube.com/watch?v=Del6GcMzU9E

9- سبق وتناولنا دور الاعلام في بناء الانسان وذلك في الجزء الخامس بحلقتيه من دراستنا المعنونة (هل فشلت القيادة العراقية في تحرير العراق) :

الحلقة الاولى http://www.albasrah.net/ar_articles_2011/0711/ra2ft5_300611.htm

الحلقة الثانية http://www.albasrah.net/ar_articles_2011/0711/ra2fat_240711.htm

10- شاهد الفيلم الامريكي Inception وهو من بطولة ليوناردو دي كابريو من انتاج عام 2010.

اضغط هنا

11- راجع نظرية الغرس الثقافي في الويكيبيديا :

http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%B3_%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8Aاضغط هنا

12- د.غوبلز - لاوجود لحكومة جيدة من دون دعاية جيدة

http://www.youtube.com/watch?v=CqqOD7rgeOg

13- بث مباشر وكاميرات منزلقة - فن الدعاية المتميزة لهتلر

http://www.youtube.com/watch?v=0J0zVFwvhHg

14- شاهد الفيلم الوثائقي : انتصار الإيمان Der Sieg des Glaubens -

http://www.youtube.com/watch?v=Cwa1p6PvUZc&feature=mr_meh&list=UU9O6oy07JJZS8eAVE9cbc_w&playnext=0

15 – شاهد الفيلم الوثائقي : انتصار الإرادة- Triumph des Willens

http://www.youtube.com/watch?v=GHs2coAzLJ8

16- شاهد الفيلم الوثائقي :

يوم الحرية : قواتنا المسلحة - Tag der Freiheit: Unsere Wehrmacht

http://www.youtube.com/watch?v=Gk593iao404&list=UU9O6oy07JJZS8eAVE9cbc_w&index=6&feature=plpp_video

17- شاهد الفيلم الوثائقي : أوليمبيا Olympia –

http://www.youtube.com/watch?v=cc4-OdlMcgw

18- شاهد الفيلم الوثائقي المتميز : اليهودي الابدي - Der ewige Jude

http://www.youtube.com/watch?hl=ar&v=RawdiKuOqM8

19- شاهد مجموعة من ملصقات الدعاية النازية وكيف برع الالمان في التصميم واختيار الالوان وتجسيد الافكار :

اضغط هنا

20- شاهد المانيا في العهد النازي بالألوان :

http://www.youtube.com/watch?v=xmsM5kcQxBI&bpctr=1349199152

http://www.youtube.com/watch?v=OEerqYY8N4U

 

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بغداد الجهاد  ٣٠ / ايلول / ٢٠١٢

 

 





الخميس ٢٤ ذو القعــدة ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١١ / تشرين الاول / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الرفيق رأفت علي و الرفيق المقاتل النسر نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة