شبكة ذي قار
عـاجـل










لاشك أن الأحداث التي مرَّ بها الشعب العراقي إبان التسعينات من القرن الماضي خاصة في فترة الحصار الظالم, قد هيأت المجتمع لحالة جديدة تتسم بشئ من عدم التوازن. مع ذلك بقي المجتمع محافظاً على قيمه ومبادئه التي كان يتحلى بها قادته ذلك الوقت. ولكن بعد العدوان الذي شهده العراق عام 2003, أخذ الجميع يسمع ويرى واقعاً إجتماعياً جديد ( واقع مؤلم حقيقة ) , لأنه يتسم بالتجرد من تلك القيم والمبادئ التي عشناها وربينا عليها فكراً وعقيدة. مع ذلك, نقول أن المجتمع العراقي كأي مجتمع آخر, لابد من أن يتأثر بهذا الواقع السلبي المنحل. وبالتالي, لابد من إفرازات لهذا الواقع.

 

ولتسليط الضوء أكثر على ذلك, أضرب لك المثالين الآتيين عن تلك الإفرازات التي خلفها المحتل على أرض الرافدين.

 

ومثالنا الأول- عن حالة العمل في الداخل: فقد أصبحنا نسمع عن كثيرين ومنهم مقربين لنا, ربما يكون أخاك أو أباك أو عمك أو أبن عمك أو خالك أو أبن خالك أو أي شخص آخر كنت في الماضي تعده مثلاً أعلى في الخلق والفضيلة. وإذا بك تفاجئ بواقع حاله المتدني, بعد أن أرتضى لنفسه الذلة والمهان بالعمل مع أقزام المحتل, فمنهم من عمل معه بحجة الترجمة, ومنهم من شارك المحتل بناء قواعده المشؤومة على أرض العراق وأرض الأنبياء, ومنهم ومنهم...., وكل ذلك من أجل حفنة من الدولارات, فكان ذلك حقاً هو خير إمتحان لهم ليسقطوا فيه مهانين حتى قيام الساعة.

 

والمثال الثاني- عن حالة العمل في الخارج: فمن الطبيعي بعد أن يغادر الإنسان وطنه لأسباب عديدة قد تكون سياسية أو أقتصادية أو لغرض الدراسة مثلاً, فيذوق مرارة البعد عنه وعن أهله ورفاقه. وبالتالي, سوف تتحول الأرض التي أختارها بكل تأكيد الى منفى أختيارياً له بكل ماتحمله الكلمة من معاني مؤلمة وقاسية. لذلك قد يجد المرء نفسه أمام إمتحان من نوع آخر وهو إما أن يتحمل مشاق العمل على أنواعه لكي يحيا بكرامته على أقل تقدير, والتي قد لاتتناسب ربما مع مؤهلاته العلمية ولكنه مؤمن بالسعي على تجاوز العقبات مهما تكن, ومؤمن بهويته التي يحملها في قلبه وعقله, فيكون من "المكرمين". أو أن يضل ويعمى فينحرف عن الخط وراء تيارات قد تبهره أضوائها ولكنه بكل تأكيد سيدفع ثمنها ولو بعد حين. فالإنظمام الى جهة مشبوهة من أجل التحصل بما يمكن أن توفره من عمل سخي لأعضائها, قد لايفعلها إلا "المغفلون" الذين لا إيمان لهم ولا هوية. فمن يفرح بخاتم عضوية لمنظمة سوداء, معروفة أصولها وشعائرها وطقوسها الشيطانية, فهو إذن ظال وكان من الذين يحق عليهم القول بانهم "أستحبوا الحياة الدنيا على الآخرة" فباعوا أنفسهم وهم الغافلون.

 

إذن فالعنوان الوارد في المقال يتضمن بعض المضامين مثل "الحصانة و الخيانة". لذلك فعندما يمتحن المرء في مثل هذه الظروف, فهو يكون أمام خيارين لا ثالث لهما, إما أن يحمي هويته الوطنية من الضياع ويحصن نفسه من الإنحراف, أو أن يقع في وحل من العار قد لايسلم منه حتى الطفل الرضيع من أفراد عائلته.

 

وصدق الشاعر حين قال في الإنسان الثابت على القيم والمبادئ:

تزول الجبال الراسيات وقلبه....على العهد لايلوي ولا يتغير

 

لذلك قد يتسائل البعض عن علاقة الهوية الوطنية بالموضوع ؟ وللجواب على ذلك, دعوني أعرف المقصود بالهوية اولأ, وماهي وكيف ولماذا الهوية ؟ وهل هي دين أم إنتماء مرجعي أو عشائري أم هي وطنية سياسية وتأريخية وهوية قيم ومبادئ؟

 

الحقيقة, أن مثل هذا التساؤل عن الهوية, تجد له اليوم أجوبة عديدة بل ومتشعبة أيضاً. فمنها مايتعلق باللغة ومنها الثقافة أوالدين, ومنها مايدخل بالعولمة أو الليبرالية التي من بين أهدافها هو طمس هذه الأنواع من الهوية. إلا أن الهوية المقصودة في هذا المقام هي الهوية الذاتية أو مانسميها بالتعبئة النفسية لمجموعة المبادئ والقيم والمثل العليا, وبالتالي فهي هويتنا الوطنية والسياسية وهويتنا العربية الإسلامية.

 

لذلك نرى هذا النوع من الهوية يرتبط إرتباطاً وثيقاً بالماهية, أي ماهية الإنسان وجوهره الحقيقي. وهي مذكورة حتى في القرآن الكريم بالعلم والعقل والتكليف وتمييز الإنسان عن سائر المخلوقات ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ... ) .

 

وهي بالمناسبة, ترتبط كذلك بمفهوم الخصوصية والتميز, فخصوصية الأنسان العربي المسلم هي ماتميزه عن غيره من أصحاب الهويات الأخرى من الشيوعية والليبرالية والملحدة ( ومالرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للرسول الكريم إلا مثال عن ذلك النوع الآخر من الهوية ) . لذلك فالفرد بوصفه عضواً في المجتمع, تجده يدور في حلقة من منظومة فكرية وأجتماعية وأقتصادية تؤطر هويته الإجتماعية.

 

فقد قضى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم 23 عاماً من أجل بناء الإنسان المسلم في مرحلة زمنية كانت فيها مسألة ترسيخ الهوية في نفسية وعقلية ووجدان المسلم هي مقومات ذلك الخطاب للوحي الإلهي. لذلك كانت تلك المرحلة ( مرحلة النبوة ) في مجملها, هي مرحلة تعبئة ذاتية أي إعداد وتأهيل الأنسان من أجل تحمل أعباء الرسالة النبوية الممثلة بالإسلام ومن أجل تأسيس بناء عقائدي رصين من التوحيد والتقوى التي يتحصن بها المؤمن بغض النظر عن لغته أو لونه أو ثقافته أو بيئته منذ ذلك الحين وحتى قيام الساعة.

 

من ذلك يتبين لنا, أن هناك إلتزاماً يقع على عاتق المرء المؤمن بهويته كحد أدنى, فلابد من تشذيب نفسه  وصيانتها من التأثيرات الملونة, وتحصينها من الإنحراف ومقاومة قوة الجذب الخارجية, كي يبقى ملتزماً بعهده مع نفسه أولا, ومن ثم مع أمته ودينه. وأن لاينهار صاغراً مسلوب الإرادة ناقضاً عهده مع الله, لأن الله تعالى لاينصر إلا من ينصره.

 

أما عن مفهوم الوطنية, فهي مصطلح مكمل للهوية مشتقة من كلمة "وطن", فنقول مثلاً هذا منتوج وطني أو أن فلاناً من الناس وطني, يعني للدلالة على الإنتماء. والإنتماء وحده ليس كافياً لتحقيق مفهوم الوطنية. بل لابد من ضابط لها يتحقق معه هذا المفهوم وهذا الضابط هو الولاء. والولاء يعني الإخلاص والوفاء, أي الإخلاص لله وللوطن والوفاء له ولذكراه.

 

فأحسب لذلك اليوم الذي لن تحقق من آمالك به إلا اليسير, وأعلم أن رغبات الإنسان لاتنتهي إلا بموته, "وسيبقى ذكرك حياً".

 

وفي الجانب الآخر, تجد أن هناك رجالاً أبطال محصنين ومؤمنين بقضاياهم, تحملوا الأمانة وجاهدوا بها ولولاهم لضاعت الأمة. والحقيقة, يذكرهم الشاعر بأروع صور المجد في شعره فيقول في قائدهم ذلك البطل الشهيد:

 

وعلى عدوك يا أبا عدي رصدان ضوء الصبح والإظلام ...... فأذا تنبه رعته وإذا غفا سلت عليه سيوفك الأحلام.

 

هذه هي الحصانة والتعبئة النفسية التي يخافها الأعداء ليس في يقضتهم وحسب, بل وفي منامهم أيضاً تجدهم كخفافيش الظلام مرتعبون. ذلك هو عنوان الرجال الأبطال من أبناء القائد الشهيد الذين لايعرفون إلا النصر لخالقهم والإخلاص لقائدهم والوفاء لوطنهم.

 

فتحية أيها العراقُ الحبيب ........... إلى ربىً إليها النجوم الزهر تنجذب ُ

يلوح في لابتيها مقام ُ أبا           عدي.وجه ٌ.ومن قسماتٍ منه تختضبُ

 

 





الاربعاء ٦ رمضــان ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٥ / تمــوز / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب الدكتور علي خليل أسماعيل الحديثي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة