شبكة ذي قار
عـاجـل










" إن نظام "بيدو" سيغطي معظم منطقة آسيا والمحيط الهادي بحلول العام المقبل، وسيغطي الكرة الأرضية بأكملها عام 2020... إنّ الصين ملتزمة بسلمية التطوير في مهامها الفضائية واستغلال الفضاء الخارجي لأغراض غير عسكرية!" " مدير مكتب إدارة نظام الملاحة الفضائية الصيني، ران تشينغ تشي.


صباح يوم الإثنين، 30 أفريل المنقضي، أطلقت الصين بنجاح قمرين صناعيين ملاحيين ليصل العدد الجملي للأقمار 13 قمرا ضمن شبكة تُعرف باسم بيدو، للملاحة وتحديد المواقع. بهذا النجاح الجديد تكون الصين قد قطعت خطوة أخرى عملاقة باتجاه تأمين استقلالية نظامها الملاحي وشبكة تحديدها للمواقع الخاصة، والحد من اعتمادها على النظام ا الأمريكي. الإدارة الأمريكية التي نظرت بعين الريبة للقفزة التي تحقّقها العسكرية الصينية وللتحديث السريع الذي شمل أسطول بكين البحري، وما يستثمره صنّاع القرار الصينيون في أجيال من الأسلحة قد تهدّد التفوق النّوعي العسكري الأمريكي، بما في ذلك الطائرات الخفية التي تستطيع التملّص من أجهزة الرادار، والصواريخ الموجّهة حراريًّا المضادة للسفن، باتت تتابع بحذر وتحفّز وتوجّس شديد نجاحات الإطلاق الصينية، خصوصا وهي تعتزم التأسيس للقرن الباسيفيكي، والتوجّه والتركيز على منطقة آسيا، لإحتواء المارد الصيني. أ لم يقل أوباما نفسه: "سنعزّز وجودنا في آسيا المحيط الهادي، ولن نخفّض الموازنة على حساب تلك المنطقة الحيوية؟''


يدرك الصينيون أنّهم لا يزالون بعيدين عن العملاق الأمريكي المتميّز في هذا المجال، لذلك فإنّهم يسابقون الزمن للّحاق وسدّ الفجوة معرفيا وتقنيا ولوجستيا. ذلك لأنّهم على يقين أن شروط المنافسة على الريادة الدولية مستقبلا مرهونة بامتلاكهم ناصية التقنية الفضائية التي ستؤهّلهم لأن تصبح دولتهم قوة عظمى ضمن القوى الصاعدة أو المرشّحة للعب أدوار قيادية. التحكّم والسيطرة والتمكّن من تكنولوجيات مجال الفضاء هي بعض مفاتيح الولوج نحو القرن القادم، تماما كما كانت القوة البحرية هي معيار القوة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، والقوة الجوية هي المقياس خلال القرن العشرين.


شبكة بيدو، BeiDou، أو نظام الملاحة الفضائية وتحديد المواقع الصيني، The BeiDou Navigation System، كما يعُرّفه أهل الإختصاص، كانت قد استهلّت خدماتها بشكل تجريبي منذ ديسمبر 2011، واستُخدمت في أغراض ومجالات متعدّدة منها الملاحة ورصد الأحوال الجوية والصيد البحري ورسم الخرائط والكشف عن المسطحات المائية والثروات الطبيعية. كما بدأ هذا النظام تقديم خدمات تحديد المواقع والملاحة والتوقيت وغيرها من الوظائف التشغيلية الأولية ليس إلى الصين فحسب بل وإلى المناطق المجاورة أيضا. للتذكير، فإنّ فكرة استحداث نظام بيدو تعود إلى العام 2000 حين بدأ الصينيون يفكّرون جدّيا في التخفيف تدريجيا من درجة اعتمادهم على النظام الأمريكي "جي بي آس، GPS" للملاحة وتحديد المواقع، والسعي نحو إرساء نظامهم العالمي الخاص بحلول عام 2020. جاء ذلك في إطار إستراتيجية كبرى تضمّنت 3 مراحل رئيسية، نوجزها كالتالي: المرحلة الأولى –تجريبية، Experimental - إنتهت منذ 2003، وكان أن استكملت خلالها الصين بناء شبكة "بيدو" الملاحية التجريبية المتكونة من 3 أقمار صناعية فقط. رغم أنّها تجريبية فقد تمكّنت من تقديم خدمات التوقيت والملاحة والرسائل القصيرة وغيرها لمشتركين بخطوط ثابتة أو متحرّكة، لكن بسرعة بطيئة في الصين وبعض المناطق المجاورة. المرحلة الثانية، -إقليمية، Regional- وهي المرحلة الحالية التي بلغ مجموع أقمارها 13 قمرا، ستتولّى تقديم خدمات الملاحة وتحديد المواقع وغيرها من الوظائف بمنطقة آسيا والباسيفيك. أما المرحلة الثالثة والأخيرة، -عالمية، Global – فستطلق خلالها الصين مزيدا من الأقمار الصناعية لتُستكمل المنظومة المتألّفة من 35 قمرا صناعيا بحلول العام 2020. ومن المؤمّل أن يغطّي نظام بيدو، يومها، خدمات الملاحة لجميع القارات، وأن ينافس باقي الشبكات المتقدّمة في العالم، حتى لا نقول يحيّدها. علما أنّ الخدمات الملاحية للشبكة تنقسم إلى صنفين: خدمات مفتوحة، وخدمات الترخيص. ستضمن الخدمات المفتوحة الاستخدامات المجانية كتحديد المواقع ومعرفة وضبط التوقيت وغيرها. أما خدمات الترخيص فستتولّى تأمين المجالات الأمنية والعسكرية والإستراتيجية كالمراقبة والتصنّت والبث والمسح وغيرها ممّا يتطلّب التنسيق مع الصينيين والدفع إن اقتضى الأمر.


ليس اعتباطا أن يختار الصينيون اسم " بيدو"، BeiDou، نجم الدب الأكبر أو نجم الدليل حسب التقاليد الصينية، أو البوصلة، لنظامهم الملاحي، كما ليس جزافا أن يطلقوا على الصاروخ الذي انطلق أخيرا، تسمية "المسيرة الكبرى"، في إشارة ودلالة واضحة للتصميم والعزم الصيني على كسر الطوق والمنافسة الجدية للأمريكيين والأوروبيين على التسيّد في الفضاء. في إطار استكمال المرحلة الثانية من النظام، تمّ نقل الصاروخين، و وضعهما على مداريهما المحددين. وقد استخدم الصينيون لذلك صاروخا حاملا، من طراز "لونغ مارش- 3بي، Long March-3B carrier rocket"، وأمّن العملية بالغة التعقيد، مركز شي تشانغ لإطلاق الأقمار الصناعية، the Xichang Satellite Launch Center، الموجود بمقاطعة سيتشوان، Sichuan، جنوب غرب الصين. اللاّفت للنّظر أنّها المرّة الأولى التي تغامر فيها الصين بإطلاق قمرين صناعيين على متن صاروخ واحد لترسل رسائل شديدة الوضوح لمن يعنيهم الأمر تشيد بالكفاءة الصينية وبالثقة من جهة، وتعزّز مدى إصرار وتعجّل صُنّاع القرار الصينيين على اللّحاق بركب الأمريكيين والروس والأوروبيين. صُنّاع القرار الذين حدّدوا لبكين هدفها لإتمام مهماتها الفضائية بتأمين عمليات إطلاق لــ 100ـ صاروخ و100 قمر اصطناعي خلال السنوات الخمس بين عامي 2011 و2015. بحيث ستجرى عمليات الإطلاق بمعدّل 20 مرة كلّ سنة في الأربعة أو الخمسة أعوام المقبلة، وفقاً للخطة الخماسية عدد 12 الصادرة عن الحكومة الصينية. هذا ما يؤكّده بحماسة، تشانغ جيان هنغ، نائب المدير العام لمؤسسة الصين للعلوم والتكنولوجيا للطيران والفضاء، قائلا: "إنّ الصين تتوقّع قيامها بإطلاق 20 صاروخا وقمرا اصطناعيا سنويا في المتوسط قبل حلول عام 2015." ليضيف بكل فخر وثقة: "إنّ الصين تجاوزت أمريكا لتحتلّ المرتبة الثانية في العالم بعد روسيا من حيث عدد مرات إطلاق المركبات الفضائية." ثم ما يلبث أن يعود للغة الطمأنة الدبلوماسية، مصرّحا: "إنّ الصين مُلتزمة بسلمية التطوير في مهامها الفضائية واستغلال الفضاء الخارجي لأغراض غير عسكرية!" أما مدير مكتب إدارة نظام الملاحة الفضائية الصيني، السيد ران تشنغ تشي، فقد أوضح "أنّ نظام بيدو يتمتّع بالتوافق وقابلية التشغيل البيني مع أنظمة الملاحة الفضائية العالمية الكبرى الأخرى، بما فيها نظام جي بي آس، GPS، الأمريكي ونظام غاليليو، Galileo، الأوروبي لتحديد المواقع ونظام جلوناس، Glonass، الروسي للملاحة الفضائية.بإطلاقها قمرين ملاحيين إضافيين، تكون الصين قد قفزت قفزتها العملاقة نحو:


- تثبيت دعائم شبكتها الخاصة للملاحة ولتحديد المواقع،
- تقليص حجم الفجوة التقنية التي تفصلها عن الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، في هذا المجال،
- تأمين مصادر معلومات مستقلّة،


- الحد من حالة التبعية والبقاء تحت رحمة النظام الأمريكي للملاحة وتحديد المواقع، ورهن مزاج القوة المنافسة المباشرة التي لم تتورّع على التجسّس على حلفائها الأوروبيين خلال 20 سنة كاملة وسرقة كل المناقصات التجارية الضخمة لشركاتهم من خلال التصنّت باستعمال نظام "اشلون، Echelon"! هذا كان مع الحلفاء فما بالك مع الصينيين، المنافس المباشر؟


نظام "بيدو" متنوّع الإختصاصات بحيث يُمكن تطويع استخداماته من المدني إلى العسكري، ممّا سيقطع الطريق قريبا على الهيمنة الأمريكية والأوروبية والروسية في مجالات حيوية ومصيرية بالنسبة للقوى التي تأمل في رسم وهندسة، أو على الأقل المشاركة، في وضع ملامح النظام الدولي القادم. هكذا تكون الصين تربح الرهان تلو الرهان وتثبّت تدريجيا وبصمت دعائم قوتها في مختلف المجالات مستغلّة مضاعفات تمدّد الإمبراطورية الإستراتيجي باهظ الكلفة ووخيم العواقب، ولعلّ ذلك ما يُحفّز وكالة الفضاء الروسية على أن تقرّر هي الأخرى تخصيص مبلغ 694 مليون دولار لصيانة وتحديث نظامها الملاحي خلال العام الجاري، وما يجعل صُناّع القرار باليابان والهند يفكّرون، هم أيضا، جديا في بناء نظمهم الخاصة.


إن النظام الصيني للملاحة وتحديد المواقع سيوفّر لنا ولكلّ ضحايا الوصاية والهيمنة والتبعية للولايات المتحدة الأمريكية، بانتظار أن نتولّى نحن، بناء نظامنا الخاص بنا، الفرصة والهامش لتنويع مصادر المعلومة وتحسين شروط التفاوض والتعاقد، بدل القبول بالقسمة الضيزى إياها، التي يختزلها مستشار الأمن القومي زبيغنيو بريجنسكي Brzezinski، في استخفاف شديد "إذا كانت لدينا القدرة للحصول على المعلومات، يُصبح من الصعب علينا وضع حدود دقيقة لكيفية التعامل معها!!! هل من المفروض علينا الامتناع عن معرفة مضامينها ؟" وحتى لا يقال لنا أنّنا نستبدل هيمنة أمريكية بأخرى صينية، نعيدها، مرّة أخرى، لا مفاضلة، لدينا، بين تبعية وأخرى كما لا خيار بين هيمنة وأخرى. آن الأوان لأن نراعي مصالحنا الحيوية القومية، وإذا كان الصينيون سيوفّرون علينا الوقت والجهد، وقد خبرنا بما فيه الكفاية الأمريكيين خلال كل هذه السنوات العجاف، فلنوظّف تناحر القوتين وتكالبهما على منطقتنا بما يضمن نهوضنا لا استعبادنا! لا مجال للإستكانة والتسليم، ألاّ نفعل نكون كمن يرهن أمن الأمة بمصير الولايات المتحدة في ظلّ انحسارها الإستراتيجي، لنتائج ومضاعفات المعادلة الجيوسياسية العالمية المطلّة برأسها، ويحشرها كرها ضمن من نعتهم بريجنسكي نفسه في مقاله: عالم ما بعد أمريكا، After America، ب "الأنواع المهدّدة بالإنقراض، Endangered Species"!


الصين تطرق أبواب السماء، متى نفكّ نحن الأصفاد والأغلال لننطلق؟!

 

 





الاثنين١٦ جمادي الاخر ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٧ / أيــار / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل نايلي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة