شبكة ذي قار
عـاجـل










حين غادرته وهو على سرير المرض يخوض معركة لم تكن بالحسبان، كونها خارج ساحات المعارك الوطنية لاكمل واحدة من المهمات التي كلفني بانجازها، لمح في عيني دمعة قبل انزلاقها، فالايام الباقية ربما لم تكن كافية للقائه مرة اخرى، واذا بكلمات قالها لم تزل وستبقى ترن في مسامعي لانها كانت اشبه بالصاعقة.. الرجال لا يبكون يا ابا عمر، ثم اعقبها بحركة لم اتوقعها بان عدل سريره قليلا الى الاعلى ورفع يده اليمنى ومن نظرته فعلت مثله، ولا ادري ماذا كان يريد، واذا به يقول على العهد يا قلمجي، خجلت من نفسي امام شجاعته في مواجهته للموت بهذه الصلابة والقوة واختفت ابتسامتي الزائفة وقبلته من راسه ومضيت.


عدت اليه بعد تلك الايام العصيبة احمل معي له بيد ثمرة من ثمرات انجازاته الوطنية في مقاومة الاحتلال الامريكي وعملائه، وباليدالاخرى جرحي النازف، لكن الفارس وجدته قد ترجل عن صهوة جواده قبل يوم واحد من وصولي، وكانه كان عائد من احدى المعارك. فهمست في اذنه بعد ان قبلت جبينه البارد، انجزت المهمة وسانجز ما تبقى رغم الصعاب واني على العهد يا اخي ورفيقي فنم قرير العين. خرجت وتزاحمت في مخيلتي الافكار والمواقف والبطولات والتضحيات والفداء التي اتصف بها طيلة اكثر من 40 عاما، هي عمر العلاقة بيننا. ومنذ ذلك التاريخ سرنا جنبا الى جنب في ظل خيمة العراق كل من موقعه لنتحد في منتصفها في اطار التحالف الوطني العراقي الذي وضع هو برنامجه السياسي وشعاراته والية عمله، ليكون ردا وطنيا على تحالفات بدات بالظهور من قوى واحزاب اختارت الوقوف الى جانب قوى الشر التي قادتها الولايات المتحدة ضد العراق، وتقديم خدماتها لانجاز ما عجزت عن انجازه في عدوانها الغادر عام 1991 والذي عرف باسم عاصفة الصحراء.


سجل عبد الجبار سليمان الكبيسي المشرف لا يختزل في كلمات او عبارات او صفحات قليلة، وحسبي ذكر بعضا من صفاته، وعزائي ان ضياء هذا السجل المشرف تعشي البصر. فهو من القادة الوطنيين البارزين في الحركة الوطنية العراقية وحركة التحرر الوطني العربية، وله خبرة وباع طويل ومؤثر في مجالات السياسية والتنظيم والاداء نظريا وعمليا . ومثال يحتذى به في التمسك بتوابت العراق الوطنية والقومية العربية، وفي المقدمة منها قضية فلسطين الذي قدم كل ما في وسعه وقدرته من اجل تحرير فلسطين . مثلما كان مثالا رائعا ومشهودا في صلابة مواقفه الوطنية والقومية ورفضه التنازلات والمساومات على حساب الوطن واهله مهما كانت بسيطة. لانه مؤمن بان طريق التنازلات والسير به تحت اية ذريعة قد يؤدي الى تدمير المشروع الوطني، وقد يصل باصحابها حد الخيانة الوطنية، ولم تكن هذه المواقف دون ثمن، حيث دفع منها الكثير وكان في اغلب الاحيان باهضا، سواء على المستوى الشخصي او على مستوى عائلته، ومنها كان استشهاد عدد من اخوانه وافراد اسرته، وحين دنت ساعة الامتحان الفاصل بعد احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الامريكية وحلفاءها الاشرار، قرر ابو احمد القتال ضد المحتل من داخل الوطن، واستجابت قيادة التحالف الوطني العراقي لقراره الصائب والحكيم، ايمانا منه بان مقاومة المحتل بكل الوسائل ينبغي ان تكون بالدرجة الاولى مقاومة مسلحة، او في الصدارة منها. ولم يمض وقت قصير حتى كان الكبيسي داخل العراق برفقة عدد كبير من اعضاء القيادة دخلوا العراق كل حسب طريقته ليجتمعوا هناك ويتولى لاحقا قيادة التحالف من ارض الوطن، فكان من جهة يجوب انحاء العراق من شماله الى جنوبه، مرة يقاتل واخرى ينقل السلاح وثالثة يحشد الناس، ومن جهة اخرى يكافح من اجل لم شمل فصائل المقاومة العراقية سعيا وراء وحدتها القتالية والسياسية. لكن قوات الاحتلال وقفت له بالمرصاد وتتبعت اثره الى ان تمكنت اخيرا من اسره بعد كشف وكره السري في العامرية ومحاصرته بقوات مدرعة وطائرات سمتيه وعدد كبير من الجنود حالت دون محاولته الافلات من قبضتهم، فنقل بطائرة هليكوبتر الى سجن المطار الذي كان مخصصا لكبار القادة العراقيين الوطنيين. وهناك نجح الكبيسي في هذا الامتحان بدرجة امتياز، وضرب الامثال في الصمود امام المحتل وجنوده ومرتزقته ووسائل تعذيبهم الوحشية، رافضا التخلي عن مشروع تحرير العراق مقابل اطلاق سراحه او مقابل نيل منصب او جاه. ويشهد في ذلك كل السجناء الذين عاشوا معه اكثر من سنتين. نجح في هذا الامتحان لانه كان مستعدا له ومنسجما مع سجله المشرف الذي جزء من صفحاته في هذا المجال صموده امام التهديدات التي مارسها النظام السوري ضده بسبب تخليه عن منصب عضو قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي وامينه العام انذاك حافظ الاسد احتجاجا على مساندته العدو الايراني عسكريا وسياسيا في حربه ضد العراق والتي كادت ان تودي بحياته جراء وقفته الشجاعة والمشهودة.
 

حين اطلق سراحه بعد سنتين من سجن المطار كان لزاما عليه مغادرة العراق خلال يومين او العودة الى السجن ثانية، فلجا الى مقاومة الاحتلال من منفاه في مدينة نائية وصغيرة كانت محادية لجنيف احدى اهم المدن السويسرية، وكان هدفه المركزي هو العمل على وحدة فصائل المقاومة العراقية ضمن برنامج سياسي وعسكري وفي ظل قيادة مشتركة. وقادة حركة المقاومة العراقية، سواء المتواجدة منها داخل العراق او خارجه، تابعت جهوده المضنية في سبيل انجاز هذه المهمة النبيلة، ومنها ما هو غير معروف من تلك الجهود دخوله الى العراق ثلاث مرات بطرق سرية وخطرة للقيام بلقاءات مع بعض قادة لهم دور فاعل في المقاومة لتذليل العقبات التي كانت تنتصب امام وحدة فصائل المقاومة الباسلة. وفي كل مرة كان خروجه اكثر صعوبة من الدخول، خاصة عندما تكون فترة وجوده داخل العراق طويلة نسبيا، تحسبا من رصده وتعقبه. ولم يبخل المقاتل عبد الجبار بمواصلة هذه المهمة حتى ايامه الاخيرة، حيث طلب مني ومن رفاق التحالف جميعا مواصلتها والعمل على انجازها، واعتبرها الطريق الوحيد لتحرير العراق ونيل استقلاله وسيادته الوطنية كاملة غير منقوصة.


لن اتطرق هنا الى سجل نضالاته الشخصية والسجون التي دخلها في مختلف العهود، ولا الى مواقفه الشجاعة التي تخص مسيرته الحزبية، سواء كان في موقع العضو او الموقع القيادي، فالتركيز على الذات، كان من وجهة نظر ابا احمد، تدخل في خانة التمجيد والانانية وتؤدي لا محال الى النرجسية والغطرسة والتعالي، وهذه كلها تتعاكس مع صفات الوطني الغيور. والله يشهد لم اسمع منه كلمة مديح واحدة عن نفسه او شاهدته مرة شخصا متعاليا. فالفعل السياسي المؤثر عنده يتمثل بالفعل الجماعي، لان الفرد مهما علا شانه ومكانته غير قادر على انجاز اي مشروع وطني في ادنى مراحله. وحين كنت احدثه عن دور الفرد في التاريخ كان يقول لي هذا يشهد به الناس وليس الفرد. ولولا حرصي على هذا الجانب وايماني برايه لوصلت بهذا الرجل المقدام وعن حق الى مكانته الحقيقة في تاريخ العراق ونضالات حركته الوطنية.


نعم ابا احمد التزمت بما تريد، لكن الاخرون من رفاقك واخوتك لم يلتزموا ووصلوا بك الى مكانتك بدلا عني، فقد سبقتني اقلام وطنية وعربية وقادة احزاب ومنظمات وشخصيات سياسية مرموقة عراقية وعربية، عددت مناقبك ومن ضمنها صفاتك الشخصية، حتى وصفك عدد من الوطنيين العراقيين المؤثرين، وان كانت بعبارات مختلفة، الى ما تستحق ومنها وصفك بالمجاهد والمقاتل والرفيق والمناضل الصلب والطهور ورجل المهمات والمواقف الصعبة، والذي لا يعرف المهادنة او المساومة ولا تلومه في الحق لومة لائم، حتى اصبحت هذه الصفات تشكل معيارا لمواصفات الوطني الغيور. اما على ارض الواقع فكان تشييع جثمانك الطاهر في مدينة الفلوجة البطلة ، رغم كل الصعاب الامنية والعراقيل، كان تشيعا مهيبا بما يليق بك كقائد وطني كبير، حيث شارك فيه الالاف من العراقيين والمقاومين وشيوخ العشائر ورجال الدين، من الكبار والشباب، رجال ونساء، وقالوا بحقك ما تسحق مكانتك الوطنية، ناهيك عن مجالس العزاء في اكثر من بلد، وكان من بين ابرزها مجلس العزاء الذي اقيم في الاردن وحضرته كبار الشخصيات من عراقية واردنية وباقي البلدان العربية.


نعم ايها الراحل الكبير، كنت بالنسبة لي مثال الوطني والمناضل والمجاهد، كنت رفيق عمري وصديقي واخي الذي لم تلده امي. كنت شهما كريما منكرا لذاتك، كنت نقيا طهورا، وكنت رحيما مع الاحبة وانت الصلب المتشدد ضد الاعداء واللئام، وكنت ذا عزم وباس في وقت خارت به عزائم رجال كبار، كنت متمسك بالقيم والمباديء بينما سقطت همم وانحطت قيم، كنت على خلق كبير في وقت اندثرت شيم امام اغراءات اعداء العراق، كنت امينا وصادقا وعفيفا وكان غيرك الكثير يخون من اجل مال او جاه، كنت تقسوا على نفسك وتحن لوجع الاخرين، تحملت الصعاب عنا وعني بالذات لكبر سني ومرضي وانت قريبا من عمري والمرض ينخر جسدك وانت صامت. لم يشكي مرضه الي وانا اقرب الناس اليه الا قبل اسابيع قليلة من رحيله. وحين فاتحني بمرضه وقصر مدة بقاءئه على قيد الحياة، وهي ثلاثة شهور حسب التقارير الطبية، قال لي اقسم ان يكون الامر سر بيننا، ولولا الضرورة ما فعلت حيث لم اعد قادرا كما ترى انجاز بعض المهمات من هذا السرير اللعين. في حين كان يتظاهر امام الزوار بالقوة ويكابر ويبتسم وجسده كله الم ومعاناة، فلم يلتزم امام اي منهم باوامر الطبيب بتحديد الزيارة بثلاثة دقائق ، وخلال اربعين يوما قضيتها معه كان كل مرة يتجاوز هذه المدة المحددة للزيارة الى النصف او الساعة تقريبا، او اكثر فيما يخص الاصدقاء القادمين من بعيد وبعدها تخور قواه. وحين دنت ساعة الرحيل رتب اوراقه الاخيرة ووصيته ومكان دفنه. لله درك يا رفيقي واخي على هذه الشجاعة النادرة.


لم افقدك وحدي خارج اطار زوجتك الكريمة، ام احمد واولادك وعائلتك، ولم يفقدك رفاقك ولا اصدقائك ومحبيك، لقد فقدتك عموم الحركة الوطنية العراقية وحركة التحرر الوطني العربية، فقدتك ساحات النضال وفقدتك القوى والاحزاب المقاومة للاحتلال، فانت يا ابا احمد قائدا فذا في مسيرتنا الوطنية والنضالية يندر ان تجتمع فيه مواصفات الكثير من القادة والساسة المعاصرين، سواء في معدنك او جراتك او صراحتك واقدامك، او في آمالك وقناعاتك بالانتصار النهائي على المحتل وعملائه، لكننا جميعا ان كنا فقدناك، فاننا لم نفقد سوى الجسد. نعم ترجل ابا احمد لكنه ترجل بجسده ولم يترجل لا بفكره ولا بعقله ولا بروحه. ففارس من هذا الطراز قل نظيره ومقاتل بهذه الشجاعة وسياسي بارع بهذا المستوى وطهور في حبه للوطن واهله ومكافح من اجل بناء عراق عظيم يلعب دوره العربي والعالمي بما يليق بتاريخه وحضارته وشموخه، سيبقى معنا ومع العراق والعراقيين شعله متقدة تنير الطريق امام الاجيال الاخرى، ويسجلها التاريخ بحروف من نور ونار. سيبقى ابا احمد بمواصفاته الوطنية والقومية النادرة بيننا وفي كل حبة من تراب العراق من شماله الى جنوبه، ومن شرقه الى غربه، سيبقى معنا في نضالنا وفي كفاحنا، في عقلنا ووجدانا، في انتصاراتنا مرسوم على راياتها، سيبقى مكتوب اسمه فوق بنادقنا واقلامنا، نم قرير العين ياعبدالجبار الكبيسي فمازال هنالك الكثير من هم على أستعداد لحمل رايتك التي هي راية الوطن.


لقد غلبتني الدموع رغم ان الرجال كما تقول لا يبكون، لكني مع ذلك أأوكد لك باننا نعاهدك جميعا وفي الطليعة منهم رفاقك في التحالف الوطني العراقي، ومن أجل سيادة العراق وكرامة شعبه، باننا جميعا سنبقى نواصل مسيرة النضال التي رسمتها ونتمسك بشدة بالمشروع الوطني الذي حملته وجاهدت من اجله، المشروع المقاوم للإحتلال بكل أشكاله، ولن نلين مادام فينا دم يجري وقلب ينبض بقوة وعزيمة حتى يتم تحرير العراق.


رحم الله المجاهد عبد الجبار الكبيسي برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته بصحبة الرفاق الذين استشهدوا وانضموا الى قافلة شهداء العراق والامة قبله، الذين سقطوا في معركة تحرير العراق، وألهمنا جميعا الصبر والسلوان وانا لله وانا اليه راجعون

 

 





الاحد٢٢ محــرم ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٨ / كانون الاول / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب عوني القلمجي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة