شبكة ذي قار
عـاجـل










القتلة الذين اغتالوه يتشابهون مع أعضاء ''القاعدة'' كان شامخا وشجاعا حتى حين التف على العنق حبل الموت

الآن .. يستطيع القتلة الجبناء أن يتنفسوا الصعداء، فأنت – أيها الشهيد السعيد بلقاء ربه – لم تعد تراهم، ولم تعد نظراتك الثاقبة الثابتة ترى وجوههم القبيحة، وتتغلغل كي تبصر أعماقهم الأكثر قبحا.. وأشهد – كما شهد محبوك وكما شهد خصومك القتلة الجبناء بأنك لم تخرج عما هو مألوف منك ومعروف عنك طيلة حياتك.. كنت شامخا وشجاعا حتى حين التف على عنقك – أيها الشهيد – حبل الموت.. لم تكن تفكر فيما يعده الجزارون أمام عينيك لك، لدرجة أنك رفضت – بكل إباء – أن يضعوا تلك العصابة السوداء على العينين، وهكذا وقفت أمامهم، يبصرونك وتبصرهم، وتسمعهم ويسمعونك.. كانوا يطلقون أحقادهم الدفينة في هيئة صيحات متتالية، لا تعبر إلا عن التشفي، دون أن تكون لها أدنى علاقة بجوهر الإسلام، وكيف يمكن أن تكون لها أية علاقة بجوهر هذا الدين الحنيف، وهم قد اختاروا أن يلتفوا كالثعابين السامة من حولك صباح يوم عيد الأضحى، كي يشهدوا – وهم يهللون – حبل جريمة الاغتيال وهو يلتف على عنقك، ولكي يهتف بعضهم فيما بعد مزهوا بالجريمة، وقائلا إن فرحة العيد قد أصبحت فرحتين!.. أما أنت- بوقفتك الشامخة والشجاعة أمام عيونهم – فقد أسمعتهم ما لا يريدون سماعه.. قلت أمامهم: يحيا العراق، وهم لا يحبون العراق،فانتماؤهم ليس لأرضه، وأمنياتهم المكبوتة حينا والظاهرة المفضوحة حينا آخر أن يتفتت هذا العراق الغالي إلى شظايا، يحسبونها ستكون غنائم لهم.. وقلت أمامهم: تحيا الأمة العربية، وهم يجاهرون بالبعد عن هذه الأمة بكل ما في تاريخها العميق من انتصارات أو انكسارات، وبكل ما في تراثها النبيل من قيم إنسانية، كانت متأصلة فيها قبل قرون من الزمان على انطلاق صيحات الثورة الفرنسية المنادية بالحرية والإخاء والمساواة،وقبل انطلاق كل دعوات حقوق الإنسان في أوروبا وأمريكا.. وقلت أمامهم: فلسطين عربية، وهذا ما لا يروق لهم، بل يزعجهم، لأن الصهاينة قد أصبحوا مستشاريهم المخلصين، ولأن الفلسطينيين الذين عاشوا مع إخوانهم العراقيين في بلاد الرافدين لم يعد لهم فيها مكان، بعد أن كانوا يعيشون في أمان.. لم تكن تفكر – أيها الشهيد – في نفسك وفيما يعده الجزارون أمام عينيك.. فقلت ما قلت، ثم نطقت بالشهادتين، ولم تستطع أن تكمل النطق بالشهادة الثانية، فقد كانت أيديهم أسرع، وأصبح جسدك معلقا في الهواء والحبل يلتف على العنق.


لم تكن هناك محكمة.. فمن العار أن نطلق على العبث التمثيلي المفضوح اسما لا يستحقه أو صفة ليست له، أما الغرفة التي كانت معدة لتنفيذ جريمة الاغتيال والتي جرى فيها ما جرى، فإني لم أكن وحدي الذي أحسست أنها غرفة تتشابه في أجوائها وفي ملامح من فيها بأقنعتهم السوداء مع غرف أخرى عديدة، كانت صورها تبث عبر القنوات الفضائية العالمية والعربية.. كانت الغرفة أشبه بالغرف التي كان أعضاء "القاعدة" يذبحون رهائنهم فيها ويفصلون رؤوسهم عن الأجساد، وهم يهللون عند انبثاق الدم البشري وتدفقه في هيئة بحيرة بشعة حمراء، وكان مشاهدو القنوات الفضائية في جميع أنحاء العالم يرتعدون ويصيبهم الفزع وهم في بيوتهم يتابعون هذه المشاهد غير الإنسانية، وكان الساسة الأمريكيون يهرعون – عادة – للدعوة إلى مكافحة الإرهاب الذي يلصقونه بالإسلام والإسلام منه براء، وعقب كل دعوة أمريكية كان المسؤولون العرب يجتمعون دون إبطاء، وتنطلق التصريحات المنادية بضرورة القضاء على الإرهاب واقتلاعه من جذوره، لكن كل هذا لم يحدث عقب ما جرى في الغرفة التي أعدت لتنفيذ جريمة اغتيالك أيها الشهيد، وذلك لأن الجريمة – هذه المرة – ليست من صناعة "القاعدة" وإنما هي جريمة أمريكية، ليست متقنة الإخراج، أما الأيادي التي نفذتها فهي ليست عراقية، لأن العراقي الحر والشريف هو من ينتمي إلى أرض العراق، ولا تبعده عن هذا الانتماء أية تبعية اختيارية أو اضطرارية لجهات قريبة جغرافيا أو بعيدة عن العراق. ولأن جريمة الاغتيال أمريكية، فإن أحدا من العرب لم يستطع أن يدعو إلى مؤتمر لمكافحة الإرهاب، وبالتالي لم تنطلق أية تصريحات طنانة أو خجلانة، فكل ما أعلن عنه هو إبداء الأسف لأن جريمة الاغتيال قد نفذت صباح يوم العيد الذي يفترض أنه يفرح فيه المسلمون، مع استثناء واحد وحيد، من باب الإنصاف – وهو إعلان الحداد ثلاثة أيام في الجماهيرية الليبية، خاصة أن رئيسها معمر القذافي كان قد اعتبر الشهيد "أسير حرب لدى قوات الاحتلال" وهذا أمر صحيح بكل تأكيد، ولكن هل يستطيع أحد أن يقول للكاذبين المخادعين إنهم كاذبون ومخادعون إذا كان هؤلاء من الأقوياء المتسلطين المتجبرين؟!


ذات مساء، هو مساء الأربعاء الأسود 9 أبريل سنة 2003 دخلت مجموعات من قوات "المارينز" الأمريكية مناطق في بغداد، ومع دخولها بدأ عهد الاحتلال الأمريكي للعراق، وقبل هذا اليوم بعدة أيام، كنت قد شاهدتك وأنت تتجول في شوارع بغداد، ثم تعتلي سطح سيارة كانت متوقفة لتلوح بيديك للناس الذين تجمعوا والتفوا من حولك في ذلك اليوم – يوم الجمعة 4 أبريل سنة 2003، وهنا أعترف بأن هذا المشهد قد نفذ من شاشة "الجزيرة" وقتها ليستقر في ذاكرتي وأعماق قلبي، فقد أحسست – برغم وقفتك الشامخة – أنك تلقي نظرة وداع أخيرة على بغداد، قبل أن تتفرغ للعمل المقاوم السري وتختفي عن الأنظار، وسرعان ما تشكلت في روحي قصية أسميتها "النهر والقلعة".. قلت في سطورها الأولى :


ودع النهر واختفى..
واكتفى بالذي رصد
مذ رأى جمر عمره..
ينزف النار ضائعا فوق تل من الرمال
مطلقا ظل دمعة بعد أن صودر الرجال
صرح مجد هوى..
ولم تبق إلا خيانة النبض للقلب والجسد


ما جرى ضد العراق سنة 2003 كان قد جرى ما يشابهه في مصر سنة 1882، وكان هناك ثوار من جهة وخونة من جهة ثانية.. كان الزعيم أحمد عرابي يقاوم الاحتلال البريطاني الذي ضرب أسطوله الإسكندرية يوم 11 يوليو 1882 وظل عرابي يقاوم إلى أن هزم البريطانيون جيشه المتواضع في معركة التل الكبير، وكان الخديوي توفيق الخائن قد هرب من القاهرة إلى الإسكندرية ليعود بعد ذلك إلى قصر عابدين في حماية قوات الاحتلال يوم 15 سبتمبر 1882، وليقول هذا الخديوي الخائن: "الآن.. أعلن قرار حل الجيش المصري".. تماما كما فعل "بريمر" فيما بعد سنة 2003! وبماذا برر البريطانيون احتلالهم لمصر؟.. قالوا: لضمان حماية الأجانب فيها، فقد قام أحد المصريين بقتل "حمار" يملكه أحد المالطيين في الإسكندرية!.. وبماذا برر الأمريكيون احتلالهم للعراق؟.. قالوا: للقضاء على "أسلحة الدمار الشامل" التي يملكها العراق!.. وفي الحالتين، كان ضلال الكذب رفيقا للمحتلين من بريطانيين وأمريكيين.. أما ما جرى في الغرفة التي أعدت لتنفيذ جريمة اغتيالك أيها الشهيد، فقد ذكرني – على الفور – بما جرى ضد الشهيد العربي – الليبي عمر المختار، وتصادف أن كانت "الشوقيات" في متناول يدي، فأسرعت لأعيد قراءة رائعة أحمد شوقي في رثاء هذا الشهيد، وأنقل هنا هامش القصيدة أولا: "شهيد المسلمين والعرب بطل طرابلس الخالد عر المختار، هو من الأسرة السنوسية أصحاب الطريقة السنوسية ذات النفوذ الروحاني العظيم في كثير من أقطار الإسلام، ظل يقاتل الطليان في سبيل الذود عن وطنه وقومه، حتى قبضوا عليه وأعدموه شنقا سنة 1931 وقد سلكوا في إعدامه سبلا بشعة متوحشة، ولم يرحموا سنه التي نيفت على التسعين..".. وإذا كان أحمد شوقي قد كتب عن الشهيد وعن الاحتلال الإيطالي، فإن إعادة قراءة قصيدته الآن تكاد توحي بأنها عنك أنت أيها الشهيد الشامخ الجديد وعن الاحتلال الأمريكي:


يا ويحهم.. نصبوا منارا من دم
توحي إلى جبل الغد البغضاء
ما ضر لو جعلوا العلاقة في غد
بين الشعوب مودة وإخاء
جرح يصيح على المدى، وضحية
تتلمس الحرية الحمراء


مما تابعناه وما زلنا نتابعه، نستطيع القول إن المحتلين الأمريكيين لا يريدون أبدا أن يجعلوا العلاقة "بين الشعوب مودة وإخاء" كما يتمنى أحمد شوقي، فكل الذين كانوا يتصدون لجرائمهم كانوا يطلقون عليهم كلابهم المسعورة، وهم ما زالوا يحاولون إلى الآن أن يحركوا حثالة ذيولهم وأتباعهم ضد كل الذين يقفون في وجه أطماعهم.


من الذي قتل واغتال الثائر العالمي إرنستو جيفارا في غابات بوليفيا سنة 1967؟.. ومن الذي خطط وتآمر لتصفية واغتيال زعيم شيلي الثائر سلفادور اللندي صباح يوم 11 سبتمبر سنة 1973، حين هاجم العسكريون وعلى رأسهم قائد الجيش وقتها أوجوستو بينوشيه قصر الرئاسة في سنتياجو – العاصمة الشيلية – واندفع هؤلاء كالذئاب الغادرة لكي يقبضوا على الرئيس الشرعي المنتخب حيا أو ميتا، لكن سلفادور اللندي لم يستسلم لهم، وإنما حمل مدفعه الرشاش، وظل يقاتلهم بكل شجاعة، إلى أن سقط شهيدا من شهداء الدفاع عن الحرية؟.. ومن الذي يحاول إلى الآن القضاء – بأية وسيلة – على الرئيس الفنزويلي الثائر هوجو شافيز؟.. وبعد.. أما زال سؤال أحمد شوقي يتردد:


ما ضر لو جعلوا العلاقة في غد
بين الشعوب مودة وإخاء؟


منذ "قابيل" و"هابيل" وإلى اليوم يظل الصراع متجددا على وجه الأرض، دون أن يعبأ بالحكايات الجميلة الكلمات المنمقة عن "حوار الحضارات" طالما أن هناك متجبرين يريدون فرض إرادتهم بالقوة على الآخرين، وطالما أن هناك من هؤلاء الآخرين في كل قارات الأرض من يقاومون المتجبرين.. وفي مسلسل الصراع الذي لا يكف ولا ينتهي، فإن من الطبيعي أن يتحقق النصر أحيانا للمتجبرين ولو لبعض الوقت، كما أن من الطبيعي أن يتحقق النصر في أحيان أخرى للمقاومين المدافعين عن أوطانهم وعن شعوبهم، والمثال الساطع هنا هو الزعيم الفيتنامي الزاهد والبسيط والعظيم "هوشي منه".. علينا أن نتذكر هنا مشهد فرار جنود "المارينز" من فوق سطح السفارة الأمريكية في سايجون سنة 1975 حيث كانت المروحيات تحملهم، متوجين بالعار وليس بأكاليل الغار!


أخيرا.. من الذي أباد شعبا بأكمله.. من الذي أباد "الهنود الحمر"؟.. ومن الذي استعمل – وحده دون سواه –القنبلة الذرية لإبادة آلاف البشر، ولمحو مدينتين من على سطح الأرض ما بين يومي (6) و(9) أغسطس سنة 1945؟


كتبت ما كتبت مما جال بخاطري عنك أنت يا من تعرضت لجريمة اغتيال أمريكية، نفذتها أياد ليست عراقية، ولكنك لم تستسلم حتى للحظات الضعف البشري، حين التف على العنق حبل الموت..لكم كنت شامخا وشجاعا.. وأنا إلى الآن وعبر كل هذه السطور لم أذكر اسمك.. لأن الكل يعرف أني أكتب عنك.. "وهل يخفى القمر" يا سيدي صدام حسين؟.. نم الآن آمنا واسترح.. يحيا العراق.. تحيا الأمة العربية.. عاشت فلسطين عربية.


magnoonalarab@yahoo.com

 

 





السبت٢١ محــرم ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٧ / كانون الاول / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حسن توفيق نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة