شبكة ذي قار
عـاجـل










مقدمة

 

ليس العراق هو البلد الوحيد في العالم الذي يعيش تعددية عرقية ودينية ومذهبية ، وربما لو ألقينا نظرة سريعة على الهند لوجدنا أن أكبر ديمقراطية حديثة في العالم والتي يعيش فيها شعب يقرب من مليار وربع المليار إنسان ، فيها من الديانات ما يعد بالمئات ومن القوميات مثل ذلك ، ومع ذلك استطاعت هذه القارة المترامية الأطراف والمليئة يكل غريب وعجيب من العادات والطبائع والقيم والتقاليد ، أن تستوعب كل هذه التناقضات وتدمجها في هوية وطنية واحدة فلم ينشأ صراع الهويات في الوطن الواحد وعلى حساب الهوية الوطنية العليا ، أمكن أن يصبح رجلا من السيخ رئيسا لوزرائها على الرغم من أن الديانة الهندوسية هي الديانة الأوسع في البلاد .

 

وهذه الولايات المتحدة حيث المجتمع المختلط من سكان أصليين للبلاد ومهاجرين أوربيين ينحدرون من أصول إسباية وفرنسية وألمانية وهولندية وبرتغالية ، وبالتالي جاءوا بقناعاتهم الدينية والمذهبية ولغاتهم الأصلية وطبائعه وموروثهم الثقافي والاجتماعي ، نراها ولأول مرة في تاريخها تختار رئيسا كاثوليكيا عام 1960 هو الرئيس جون كندي .

 

وسجل عام 2008 صعود الرئيس باراك أوباما الأفريقي الأصل رئيسا للولايات المتحدة ولتسجل الديمقراطية الأمريكية لنفسها أنها صهرت جميع الأعراق والطوائف في الهوية الوطنية الأمريكية حتى بفرض أن محركها الأساس هو العامل الاقتصادي ، ولم تطف على السطح إشكالية الهويات المتعددة ، وكثير من دول العالم تعيش التعددية نفسها ولكن تبقى الهوية الوطنية فوق كل الاشكالات والنزاعات .

 

فهل على العراق أن ينفرد من بين جميع الدول المتعددة الهويات أن يتخلى عن الهوية الوطنية الجامعة ، لصالح الهويات الفرعية والتي ستعيش صراعات متعددة المحاور ، تبدأ بالثروة وتنهي عند الحدود الإدارية والتجارة مرورا بالثقافة والتقاليد والعادات والأزياء وأصناف الطعام .

 

الهوية الوطنية ودستور عام 2005

 

كان دستور 2005 والذي كتبت نصوصه بعجلة فائقة ولكن بتصميم ومنهجية وإرادة قديمة وضعتها مؤتمرات ( المعارضة العراقية ) في بيروت ولندن وصلاح الدين وتم نسجه على منوال قانون إدارة الدولة العراقية الذي كتبه نوح فيلدمان وأصدره الحاكم الأمريكي بول بريمر والذي حول الوطن الواحد إلى كانتونات متصارعة ، تجسيدا لرغبة واضحة في تهميش روح المواطنة عند العراقي من خلال التركيز على عوامل الانتماء للعرق والدين والمذهب والعشيرة والمدينة والمنطقة وأصبح الوطن مجرد رابطة إدارية هشة قابلة للكسر عند أول منافسة ، بحيث بات الحديث عن عراقية المواطن مجلبة لتهمة جاهزة بالرغبة بالعودة للدكتاتورية والمزايدة السياسية وربما يتجاوز ذلك إلى عدم الإيمان بالدستور ومبادئ حقوق الإنسان التي تجيز له إتباع المعتقد السياسي والديني والقيمي الذي يتطابق مع قناعاته ، وقد تتجاوز التهمة لتصل إلى الإرهاب الفكري والإرهاب المسلح ، وفتح ذلك الدستور باب الصراع والتنافس السلبي بين هذه المجموعات السكانية على السلطة والمال والنفوذ والأرض والثروة ، ما هو متاح فوق الأرض وما مطمور تحتها ، حتى أصبح الحديث عن ثروات محتملة في المستقبل سببا في تأجيج صراعات على الحدود الإدارية داخل البلد الواحد ، وحصر الوظائف العامة والمقاعد الدراسية في الجامعات وحتى المقاولات في فئات اجتماعية محسوبة على القوى السياسية الحاكمة أو التي تشاركها السلطة ، وحرمت فئات أخرى دون وجه حق لمجرد أنها تنتمي لمدينة أو عشيرة أو مذهب لا يتطابق مع ما ينتمي إليه الماسكون بزمام السلطة ، وشهدت السنوات التي أعقبت الاحتلال إزاحة دموية للطبقة الوسطى والمتنورة في العراق على أيدي المنفيين من الذين اختاروا العيش خارج العراق بملء إرادتهم فانقطعت صلتهم به وأبقوا عائلاتهم خارجه حتى وهم على رأس هرم السلطة ، وانعدم عندهم الإحساس بالولاء للوطن ، وبمقابل ذلك حصرت الثروة  في نطاق ضيق من الأقارب والحواشي .

 

بعد أن كان إشهار المذهب أو الطائفة ، عيبا كبيرا يتحاشى العراقيون الحديث عنه ، فإن الاحتلال الأمريكي الذي أجهز على قيم المجتمع العراقي السامية ، وجاء بغيرها وحاول أن يفرضها بقوة القانون والسلاح ، اعتمد السياسة البريطانية القديمة والمجربة في العراق بدايات القرن الماضي ( فرق تسد ) كي تتاح له فرصة السيطرة الكاملة على المجتمع العراقي ، وهكذا أثار فتنة الاقتتال الطائفي من أجل أن يكرس تحكمه بسلوك المكونات الاجتماعية ، وتدريجيا أصبح الخطاب الطائفي والعرقي أمرا معتادا تماما في بلد كان معافى منه طيلة عقود من عمر الدولة العراقية الحديثة ، فكان تشكيل الأحزاب يتم على هذه الأسس التي قد تجر البلد إلى شفا اقتتال عبثي يكون الوطن والمواطن الخاسرين الوحيدين فيه ، وأخذ الحديث يرتفع دون خجل عن حق هذا المكون أو ذاك بالمناصب السيادية وتوزيعها على وفق النسب السكانية المزعومة ، وبذلك حصرت مناصب بمكونات حتى مع عدم وجود الأهلية بالمرشحين لإشغالها ، وحرم البلد من خبرة رجال كان بالإمكان أن يخدموا بلدهم بكفاءة أكبر من غيرهم لمجرد أنهم ينتمون إلى عرق غير مصرح له أن يتسلم رئاسة الحكومة ، أو مذهب غير جائز له أن يطالب بمواقع أخرى تم توزيعها على دول الطوائف والأعراق ، دون الالتفات إلى حقيقة أن المواطنة كانت تتراجع تدريجيا مع كل خطوة يقطعها الخطاب الفئوي الضيق ، ولم يكن غريبا أن واحدة من نائبات المجلس الجديد والتي كانت عضوا في حزب البعث العربي الاشتراكي وبدرجة متقدمة ، تنزع عن نفسها تلك القناعات الفكرية دفعة واحدة وتجاهر بخطاب طائفي مقيت حينما قالت بأن الدستور كان خجولا عندما لم يسم مذهب رئيس الحكومة ، والذي قالت إنه المذهب الشيعي ، قالت هذا ولم تفكر لحظة بأن هذا المنصب يجب أن يكون من حق كل عراقي تتوفر به الشروط الكاملة لإشغال هذا المنصب من كفاءة ونزاهة وإخلاص مع وجود برنامج سياسي واقتصادي كامل سواء كان عربيا أو كرديا سنيا أو شيعيا مسلما أو غير ذلك ، فقد اختزلت الشروط الفنية بشرط طائفي يعكس توجها حقيقيا لحرف القناعات الوطنية عن مسارها وزرع قيم بديلة على أنقاض بلد محطم .

 

عكست انتخابات آذار / مارس 2010 وما سبقها ورافقها وأعقب ظهور نتائجها حالة الاحتقان المركب الذي ساد العراق منذ أطلت الأمراض الاجتماعية برأسها ولتوشك أن تقوض ركائز الاستقرار .

 

لقد أصبحت مدن العراق كانتونات متصارعة بين مكوناتها ، مما أدى إلى حصول هجرتين داخلية وخارجية ، فالأقليات المذهبية في المدن المختلطة وجدت أن سلامتها تقتضي الهجرة من مناطق سكناها إلى مدن متجانسة معها مذهبيا ، هذا في معظم مدن العراق ، ولكن ما حصل في بغداد كان شيئا آخر ، فمن المعروف أن بغداد بحكم كونها عاصمة الدولة العراقية فهي تضم نسيجا مختلطا يمثل كل أبناء العراق ، ولعوامل اجتماعية فقد أخذت بعض الأحياء طابعا مذهبيا معينا ، مقابل طابع آخر لأحياء أخرى ، فحصلت الهجرة الطوعية أو القسرية بين الأحياء حتى أوشكت أن تصبح كانتونات مغلقة على نفسها من الناحية المذهبية ، وحين تطرح الأسباب فلا بد من أن يذكر العامل الطائفي ، مما يترك مشاعر من البغضاء داخل النفوس .

 

 

ضياع الهوية الوطنية العراقية للمهجرين

 

لا تقع الهجرة إلا بتوفر شروطها القاهرة ، فلولا التهديد الذي يتعرض له الإنسان خلافا للقانون ، ولولا الظلم الواقع في التعامل مع معارضي الحكومات سواء بمداهمة المنازل ليلا دون إذن قضائي أو بالاعتقال الكيفي وعلى الشبهة أو نتيجة معلومات المخبر السري ، أو بالاستهداف من قبل المليشيات المسلحة المتعددة الولاءات ، ولولا ما يواجهه المعتقلون المخالفون لوجهات نظر الحكومات التي يعارضونها في سجونها الرسمية والسرية من ظلم وتعذيب وانتهاك لإنسانيتهم بما في ذلك الانتهاكات الجنسية ، ولو توفرت الضمانات الكافية لحرية التعبير ، لانتفت الحاجة إلى الهجرة إلى خارج البلد ولواجه المعارض السياسي السلطة في بلاده بالأساليب المتعارف عليها دون حاجة للجوء إلى الأساليب التي ترى فيها الحكومات القمعية تهديدا لها ، أو للهجرة في العراق إلى الداخل حيث تتوفر عوامل الطمأنينة والملاذ الآمن وفرص العمل تبعا لتغير البيئة الحاضنة ، وإلى الخارج حيث الملاذ القلق لارتباط ملفاته بالأوضاع السياسية والعلاقات الثنائية بين البلد الأصلي  وبلدان  المهجر ، ولهذه الهجرة صورها المحزنة نتيجة ما لاقاه المهجرون في بلدهم قبل مغادرته ، وملاحقتهم بأسباب رزقهم بعد تركه مضطرين ، منها ما يرتبط بفقدان رب الأسرة بالقتل أو بالتغييب ، وتحول المرأة إلى دور الأب إضافة إلى وظيفتها الأصلية وربما كان هذا العامل واحدا من بين الأسباب الجوهرية للهجرة اعتقادا من الزوجة أن الابتعاد بأبنائها عن دائرة الخطر يقتضي الهجرة إلى الخارج على الرغم من أن هذا الخيار لم تتم دراسته دراسة مستفيضة تمنع الاستغلال عن أفراد الأسرة في ملجأهم الجديد ، هذه واحدة من أسباب التفكك الأسري وانتشار الأمراض الاجتماعية كتجارة الجنس في مجتمعات المهجر وخاصة في سوريا والأردن .

تعطي الفقرة ( أ ) من المادة 14 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الحق لأي شخص في أن يلجأ إلى بلد آخر هربا من الاضطهاد أيا كانت صورته ، ولكن هذا الحق القانوني الذي يفترض به توفير ضمانات العيش بكرامة وأمن ، تحول إلى كارثة إنسانية على حوالي أربعة ملايين عراقي اضطروا لترك بلدهم لدوافع متقاربة أو متطابقة ، فالعراق أوشك أن يدخل في دوامة حرب أهلية حصد فيها القتل الأعمى أرواح أكثر من مليون ونصف مليون عراقي ، وتركت ندوبا في المجتمع العراقي يمكن أن تفتح ملف العنف في أي ظرف طارئ لعدم توفر الجدية لدى الحكومات المتعاقبة التي كانت سببا في نشوء هذه الظاهرة في حلها ،  ولعدم امتلاكها البرامج الواقعية لتجاوز أسباب الأزمة سياسيا وأمنيا واقتصاديا ، ولم تنجح العمليات الاستعراضية التي دعمتها الحكومة لعودة المهجرين العراقيين إلى بلدهم عندما أقدمت على ممارسة الضغوط على بعض العائلات التي استنفدت مدخراتها وأنعدم مورد دخلها وقدمت لهم مبالغ تافهة القيمة لمجرد تسجيل صور تذكارية تؤرخ لهذا الحدث المعزول .

 

ويمكن للمراقب أن يلحظ أن المهجّر كان يزداد تشبثا في المنطقة التي استوطن فيها مهاجرا ، كلما ارتفعت وتيرة العنف في بلده وكلما تسربت أخبار انتهاكات حقوق الإنسان في سجون الحكومة ، والقتل على الهوية الدينية أو المذهبية أو العرقية ، أو بسبب الماضي الوظيفي أو السياسي ، يضاف إلى ذلك انعدام خدمات التعليم الآمن والخدمات الطبية الآمنة خاصة بعدما تحولت مؤسسات التعليم بمختلف مراحله والمراكز الطبية إلى مصائد لاقتناص المعارضين أو الذين لا يشاركون الانتماء لمذهب المليشيات والمجاميع المتحكمة في هذه المراكز ، فجاءت هذه الأعداد الكبيرة من المهجرين وهي تحمل مدخراتها لتبدأ حياتها من نقطة الصفر ، ولتكتشف أن الزمن المفترض لانتهاء المحنة لم يأت وأن المدخرات بدأت بالنفاد مع إصرار حكومي على معاقبة المهجرين بقطع مستحقاتهم التقاعدية إذا ما فضلوا العيش في الخارج ، أو قطع صلتهم بالحياة إذا ما قرروا العودة إلى بيوتهم ، فكانت معاناتهم تكبر مع الوقت ، وحقا فقد ترك وجود الثقل العراقي الكبير والذي حل فجأة في بلدان محدودة الموارد ، آثارا سلبية كبرى على البلدان التي استضافتهم وخاصة سوريا والأردن على الرغم من أن المهّجر غير مسموح له بالعمل مهما كان اختصاصه إلا في حالة الاستثناءات النادرة وهذا دفع بالكثير من العراقيين إلى بيع منازلهم أو بعض ممتلكاتهم من أجل تغطية تكاليف المعيشة في بلدان المهجر ، ولم تنفع المعونات التي تقدمها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في تحسين أوضاعهم .

 

والمفارقة أن الهاربين من دوامة العنف الطائفي المتضاد ، سرعان ما يجدون أنفسهم في مجتمعهم الجديد وجها لوجه دون ضغائن ودون احتقانات طائفية أو دينية أو عرقية ، فأقاموا نسيجا اجتماعيا متماسكا دون عقد وكأنهم تركوا وراء ظهورهم أسباب هجرتهم المتعارضة ، من أحياء المدن التي شهدت عنفا طائفيا وخاصة مدينة بغداد .

 

لكن مجرد وجود المواليد الجدد ، أو من هم أكبر منهم سنا في منازل ومدن ليست منازلهم ولا مدنهم ، لا بد أن تثير لديهم أسئلة مريرة عن أسباب العيش تحت ضغط الفاقة وفي مدن غريبة وبخاصة في حال إجراء مقارنات بين الوضع المعاشي السابق للهجرة واللاحق لها ، مما يؤدي إلى الكثير من الانفعالات التي تقود الفرد إلى التحصن داخليا بطائفته للحصول على حمايتها من الأخطار الخارجية ، وذوبان العامل الوطني مع الزمن .

 

لم يكن هناك خيار للعائلات من إرسال أبنائها إلى المدارس في المجتمع الجديد ، من كان يمتلك الإمكانية المادية وهم من القلة النادرة فإن الفرص متاحة أمامه لأكثر من خيار ، أما محدودو الموارد وهم الغالبية الساحقة من العراقيين في الخارج ، فإن خيارهم الوحيد هو إرسال أبنائهم إلى المدارس الحكومية ، ومن المعروف أن مؤسسات التعليم في أي بلد بنيت على أساس استيعاب أبناء البلد مع الأخذ بنظر الاعتبار الزيادة السنوية المعتادة للسكان ، أي أن تواجد العراقيين بالثقل الذي حصل منذ عام 2003 ، قد أثر كثيرا على قدرة استيعاب التلاميذ الجدد في المدارس الابتدائية والثانوية في هذه البلدان ، أما الدراسات الجامعية بكل مراحلها وفروعها ، فقد بقيت خاضعة لشروط القبول وبمقاعد محدودة ومحددة للعراقيين ، وعلى ممن يرغب بإكمال دراسته الجامعية خارج هذه الشروط أن يبحث عن التعليم الخاص والباهظ التكاليف .

 

وفي كل الأحوال فإن الجيل الجديد سينشأ على قيم مختلفة وولاء لغير وطنه وستتداخل المفاهيم التربوية ، فلكل بلد اليوم مناهجه ورسالته الفكرية والثقافية والتربوية ، وعلى الوافدين أن يتكيفوا معها أو يتركوا مقاعد الدراسة أو البلد بكامله ، لهذا فإن جيلا سينشأ مقطوع الصلة عن بلده ، وسيتعلم قيما جديدة ويردد مفاهيم وأناشيد وتعلق بذاكرته صور لمناطق وشواهد لا صلة لها بوطنه ، ومع مرور الوقت ستضعف رابطته بوطنه وتتلاشى مع الزمن وسوف تنقطع جذوره ويصبح مزدوج الولاء وحين ترجح كفة الغربة الإرادية سيختارها حتى في حال توفر الفرصة للعودة إلى الوطن ، وربما يمكن تأشير ضياع الشخصية الوطنية على أنها أخطر انتهاك لقوق الإنسان تسبب به الاحتلال الأمريكي للعراق وما أفرزته العملية السياسية المبنية على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية ، كان المطلوب تقويض ثقة العراقي بوطنه واعتزازه به ، وهذه الخطوة الأولى الضامنة لتلاشي منظومة الدولة العراقية والقيم الوطنية ، وتحويل الولاء لها إلى ولاءات طائفية وعرقية ومناطقية داخليا ، وقطع الطريق على من تشرب بقيم المجتمع الجديد الذي نشأ فيه خارجيا على العودة للمنابع الأصيلة ، عندها قد تستقر نفوس من كان يرى في استمرار العراق كحالة حضارية ووطنية متماسكة ، خطرا عليه لأنهم حذفوا العمق الحضاري للعراق تمهيدا لحذف دوره السياسي في المنطقة والعالم .

 

هذا في حال أن كانت الهجرة الطوعية أو بالإكراه لبلد عربي ، أما إذا كانت الهجرة إلى بلدان غير عربية فإن المحنة ستكون أكبر بكثير ، فإضافة إلى احتمال فقدان الجيل الناشئ في بلدان المهجر للغة الأم فإن قيما ومعتقدات دينية وسياسية واجتماعية جديدة ستتسلل إلى هؤلاء بالتدريج مع تقادم التطبع بقيم المجتمع الجديد ، خاصة وأن عائلاتهم ستكون مضطرة لتقديم تنازلات جدية في حقوقها بالإشراف على تربية أبنائها على وفق تقاليد المجتمعات الغربية التي تمنع الأبوين من التدخل في تربية الأبناء لاسيما وأن كثيرا مما يعد أمرا طبيعيا هناك يعد من وجهة نظر شرقية ، دينيا واجتماعيا أمرا مرفوضا رفضا قاطعا ، كممارسة الجنس قبل الزواج وتفكك الأسرة على خلاف ما هو سائد في المجتمع العراقي من قوة تماسك العائلة ، إضافة إلى أن هذه العائلات وبحكم حاجتها إلى المعونات المقدمة للمهاجرين ، ستكون الطرف الأضعف في المعادلة الاجتماعية الجديدة .

 

الخلاصة

 

مما سبق يمكن أن تبدو قضية صيانة الهوية الوطنية للمهجرين العراقيين خارج الوطن ، من القضايا الشائكة وأكثر تعقيدا من الجوانب المادية لمتطلبات دمجهم في المجتمعات الجديدة ، لأن ذلك يرتبط بمنظومة القيم واجبة الاستبدال والنزع من أجل غرس قيم بديلة في النشأ الجديد الذي سيبدو منقسما على نفسه موزع الولاء بين وطنين ، لم تتجذر القيم الجديدة تماما ، ولم تمسح القيم القديمة تماما من النفوس وجدلية الهوية هنا تترك النفوس سلبية التفكير محدودة الانتاج ، وهذا الانفصام في الشخصية يمكن أن يستدرج تداعيات جدية على مستوى التفكير والسلوك والتربية ، فشخصية الفرد المولود حديثا في بلاد الغربة القسرية بشكل خاص وحتى في حال محافظة أسرته على قيم الولاء للوطن الأصلي ، سيواجه في البيت توجيها وتربية ،ومحاولات الأهل زرع قناعات وقيم هي من بقايا ما تحمله الأسرة من ولاء لوطن آخر ، هذه القيم ستجد صدوفا من جانب النشء الجديد ، لأنها تتعارض مع ما يتلقاه  في الشارع وبدرجة أكثر منهجية في المدرسة ، وقد لا يكون الشعر مقياسا دقيقا لرسم مؤشرات البحث العلمي ، ولكن بيت أب تمام :

 

كم منزل في الأرض يألفه الفتى       وحنينه أبدا لأول منزل

 

يرسم مسار التلقي الأول للفرد حبا أو كراهية ، ألفة أو نفورا ، تعلقا أو انفصالا ، فإذا كان البالغون مهيؤون في كثير من الأحيان لتغيير أوطانهم بسبب ظروف الدراسة أو العمل ، فإن الجيل الثاني سينشأ على التعلق بالأرض التي ولد فيها وتشرب بطبائعها وتعود على قيمها وعاداتها ، وفي حال العودة إلى ربوع العودة سيعيش غربة أكثر قسوة من غربة الجيل الأول الذي جاء مضطرا للموطن الجديد ، وجعل من البلد الأصلي مجرد ذكرى جميلة عند الجيل الثاني ، فإذا علقت في النفس مشاعر الحب والولاء لوطن الآباء وبصرف النظر عن مداها وعمقها ، فإنها ستتحول إلى عامل صراع داخلي عميق الأثر على وحدجة التفكير ووحدة التصور المرسوم عن ذلك الوطن وصدمة الواقع ، الذي لن يأتي متطابقا معه على الأقل في ذهن الفرد ، حينذاك سيقع الصراع بين قناعات لم تترسخ كما ينبغي عن حب الوطن والولاء ، وبين واقع يبدو صعبا على التأقلم والمعايشة وهضم الوقائع وقبول التعاطي الإيجابي معها ، وحينما يقع هذا الافتراق الميداني يكون بداية لافتراق نفسي عسير على الرتق ، فيتعرض الفرد إلى شيزوفرنيا تمنع عنه الاستقرار وتقوده إلى هاوية قد لا يستطيع الخروج منه فهو موزع الولاء بين مجتمع نما فيه وتعود على قيمه وأحبه ، ومجتمع يراد له أن يحبه ويمنحه الولاء ويتعود على قيمه ولكنه لا يستطيع ذلك .

 

يمكن افتراض أن الانتماء السياسي والفكري للأسر العراقية المهاجرة إلى الخارج ، هو الذي لعب دورا مهما في أضعاف روح المواطنة وضياع الهوية الوطنية ، فمن المعروف أن الذين اضطروا لمغادرة العراق بعد 2003 ينتمون في غالب الأحيان إلى المدرسة  السياسية القومية وحصرا حزب البعث ، والبعث كما هو معروف عن أيدولوجيته يحرص على تذويب الفوارق القطرية وإعطاء الفكرة القومية أرجحية عالية في بناء تنظيماته ، بحيث ذهب البعض إلى الاعتقاد بأن البعث الروح الوطنية العداء ، غير أن هذا التصور يستند على رؤية سطحية لفكر البعث ، فالبعث ظل يقاوم النظرة القطرية الضيقة ولم يقف ضد شعور الاعتزاز بالشخصية الوطنية ، لكن مواقف بعض أطراف النظام الرسمي العربي ضد العراق ابتداء من تأييد إيران في حرب الثماني سنوات ومدها بالدعم السياسي وتسويقها كقوة مساندة للعرب بمواجهة إسرائيل ومدها بالأسلحة بما فيها الصواريخ التي سقطت على بغداد ، هذه التصرفات ظلت مختزنة في الذاكرة الجمعية العراقية على نحو ربما أدى إلى ردات فعل منهجية على مستوى الكثير من القوميين والبعثيين بشكل خاص ، ساهم إلى حد ما بإعادة الموازنة التي ظلت قلقة أو راجحة لصالح الفكر القومي على حساب الهوية الوطنية .

 

أما بقية القوى التي انتظمت في هجرات إلى خارج العراق فتأتني في مقدمتها التيارات الإسلامية التي تنظر إلى الإسلام على أنه دين أممي عابر للحدود والقارات ، وخاصة المرتبطة بإيران وهذه طيلة حياتها لم تشعر أن العراق بلدها وعليها أن تعتز بهويته الوطنية ، وظلت تعمل ضد مصالح العراق لصالح الوطن الديني والمذهبي وجندت نفسها لخدمة المشروع الإيراني التوسعي ، أما القوى الإسلامية السنية كالإخوان المسلمين وبعض التيارات الأخرى فإنها لا تؤمن أصلا بفكرة الوطن وكانت تنظر إلى من يطرح الفكرة الوطنية على أنه مارق عن الملة في أخف أحكامها .

 

و في المعادلة الأممية أيضا تقف الحركة الشيوعية باصطفاف متقارب مع نظرة الإسلام بشأن الوطن والانتماء لوطن ما ، على الرغم من تناقضهما القاطع في موضوعة الإيمان بالله عند الحركات الدينية الإسلامية ، ونفي وجوده نهائيا من قبل الفكر الشيوعي السلفي ، مع أن الفكر الشيوعي خضع لتعديلات فيما يتعلق بهذه النقطة بالذات وخاصة عند الحركة الشيوعية الأوربية ولاسيما الحزب الشيوعي الإيطالي ، ومن بعده الأحزاب الشيوعية في اسبانيا وفرنسا والبرتغال ، فمن المعروف أن الحزب الشيوعي العراقي لم يتمكن من تصويب مسيرته إبان وجود الاتحاد السوفيتي على الرغم من كثرة الانقسامات والانشقاقات التي عاني منها ، إذ ظل خاضعا وبآلية عمياء لمركز التوجيه في موسكو ، وحينما انهار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الشيوعية بسرعة فاقت التوقعات ، فإن الحركة الشيوعية العربية والحزب الشيوعي العراقي منها لم تتمكن من الإمساك برأس الخيط الذي ينتشلها من البركة التي سقطت فيها ، وبدلا من ذلك فقد أكد الحزب الشيوعي العراقي بأنه أكثر اندفاعا مع الاحتلال الأمريكي من كثير القوى المحسوبة على اليمين .

 

على هذا يمكن الافتراض بأن الهوية الوطنية العراقية قد أخضعت لتقاطعات فكرية وسياسية فأصبحت ضحية لها بحيث يمن الافتراض بأن عمليات إعادة صياغة المفاهيم لدى المهجرين العراقيين في البلدان الأخرى ، وجدت أرضا صالحة لتغيير الولاء إلى الوطن البديل وليبقى العراق مجرد ذكرى يتم احياؤها في المناسبات .

 

 





الثلاثاء٠٧ جمادي الاخر ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٠ / أيـــار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة