شبكة ذي قار
عـاجـل










العاصفة السياسية في الوطن العربي لا تقلق السلطات العربية الحاكمة فقط؛ بل حتى القيادات السياسية لكثير من التنظيمات السياسية في الوطن العربي. وبات مطلب التغيير لا يشمل الآليات المعتمدة في تسيير الحياة السياسية على مستوى السلطات الحاكمة والمجتمع؛ بل يتعدى ذلك إلى مطلب تجذير التغيير الشامل ليشمل مفاصل أُخرى في الحياة السياسية العربية، وخاصة في بنيات وتوجهات العمل السياسي المستقبلي على مستوى القواعد المجتمعية ، والتغيير مطلوب حتى للقوى السياسية العربية المشاركة في حركة التغيير نفسها الجارية الآن. من هنا لابد من إعادة النظر في تاريخ وجدوى وبقاء كثير من الأحزاب والقوى السياسية في الوطن العربي التي تجاوزها قطار الحياة وسوف يتجاوزها التغيير المطلوب.


شهدت المنطقة العربية منذ أواسط القرن الماضي ظهور تشكيلات ومنظمات وتيارات وحركات وأحزاب سياسية نشأت في ظروف مختلفة ومتباينة، كاستجابة لظروف وتغيرات الواقع السياسي في كل بلد، سواء في فترة الكفاح من أجل إنجاز التحرر الوطني أو غداة نيل الاستقلال الوطني وبناء الدولة الوطنية القطرية.


لدى كل بلد شروط ومهمات خاصة ميزت تطور العملية السياسية أو الثورية فيه وانعكست عليها، بدرجات واضحة نسبة لنشاط ونفوذ الطبقات والفئات الاجتماعية المختلفة المشاركة في العملية السياسية في كنف الدولة الوطنية، التي يفترض أن تكون مستقلة.


نشأت وظهرت الأحزاب والتنظيمات السياسية في الوطن العربي بفترات وتوجهات مختلفة، ومنها أحزاب تجاوزت تنظيماتها القطرية إلى الامتداد القومي العربي، ومنها جاءت إستجابة لنشوء تنظيمات أممية بعد قيام الاتحاد السوفيتي وقيادته للحركة الشيوعية بعد قيام ثورة اكتوبر 1917.


في أغلب الحالات بادرت إلى العمل السياسي الفئات الوسطى والمثقفين والقليل من العمال والفلاحين، ونسب هذه الفئات إنعكست بفروق متباينة في قيادات تلك التنظيمات، وهذه الأحزاب، منها ما ظهرت عليها بوضوح درجات عالية من التنظيم والإنضباط الحزبي، وتمايز كل حزب بنسب من القوى الاجتماعية المنظمة إليه او تلك التي تصدرت قيادته السياسية، لكنها، وعلى الأغلب، ولدت وهي ترث شيئا من سمات مجتمعاتها المتخلفة، وخاصة التوجهات القبلية وألمناطقية، وفي مراحل، للأسف، إمتدت لأكثر مما يتوقع حتى مؤسسوها وقادتها الرواد، فيما يتعلق بآمال تطور طبيعة النشاط الحزبي والسياسيات الحزبية على مستوى القواعد أو القيادات، وطرائق التسيير للهيئات التابعة للحزب.


وظلت أمراض العمل الحزبي وبيروقراطيته، وتباعد عقد مؤتمراته، وندرة فرص التداول على أمر قيادته، وإعاقة الإصلاحات في تقويم مساراته، تنتقل من جيل إلى آخر؛ حتى في الأحزاب التي يفترض أنها ثورية أو فصائل لحركات تحرر وطني أو تميز نفسها بلقب "تقدمية. طيف واسع من تلك التجارب الحزبية إمتد نشاطه لأجيال دون أن ينهي أو يحل أزمات العمل المرتبط بنشاط الحزب وتوجهاته، وخاصة على مستوى القيادات. وهذه ناجمة عن ترسب الماضي والمحيط الاجتماعي في ذهنية وسلوك القيادة السياسية ، ومنها دفعت الشللية والتكتلات إلى تعزيز طبيعة النزوع الى الفردانية والتسلط على قيادة الأحزاب في اغلب الحالات. لقد أورثت القبيلة العربية بعضا من سماتها إلى الأحزاب ولم يجري العكس.


وصلت الفردانية والتسلط الفردي في قيادات بعض الأحزاب إلى حد إصدار قرارات توريثها أو تحولها إلى ملكيات عائلية، لا تختلف عن مظاهر الإقطاع السياسي لتمثيل فئات أو طوائف أو نخب، قبلت المساومة لقبول هذا الزعيم أو ذاك، فبايعته وورثت حزبه، وعزلت غيره من الخصوم، ومنها من إرتضت بتسلط عائلته وطائفته وبطانته من بعده وصيةً بشكل مُطلق على الحزب وتراثه واملاكه وماليته وحتى مغانمه السياسية، بما فيها توريث الحكم والنفوذ السياسي والمُحاصَصَة باسمه وطائفته وقوميته ومذهبه وقبيلته/قبائله.


في البدء أفرزت التحولات الاجتماعية في مرحلة التحرر الوطني تشكيلات ونخب سياسية دعت إلى الاستقلال الوطني، ومنها خاضت غمار العمل الثوري لأجل إنجاز التحرر التام من الاستعمار، بعدها واجهت بعض الأحزاب مهام النضالات الاجتماعية والمطلبية اليومية، وتصدت كوادرها لمهمات بناء الدولة الوطنية الفتية، ومنها من خاضت تجارب المنافسة الديمقراطية للفوز بالبرلمان وتشكيل الحكومات في ظل بدايات ظهور التعددية السياسية، كما هو الحال في العراق ومصر ولبنان وسوريا. ولكن الحالات الأخيرة تبقى قليلة بسبب غياب الديمقراطية في أغلب البلدان العربية.


بطبيعة الحال ظل تطور العمل الحزبي والسياسي محصورا في الحواضـــــــر و المدن الكبرى قبل غيرها، وخاصة العواصم، نظرا لانتشار التعليم ووجود الصحف والنشاط النقابي الملموس الذي بدأ يظهر لدى فئات وقطاعات المثقفين والمتعلمين وينتشر بين أوساط الحرفيين والعمال في المؤسسات الصناعية.


إن الفئات الأخيرة غالبا ما شدتها روابطها القبلية والعشائرية إلى أريافها، ولم تقطع حبلها السري عن مشيمتها العشائرية الأولى؛ حتى وان إئتلفت وانتظمت بوعي أومصلحة بدرجات متفاوتة من خلال النقابات العمالية وجمعيات الحرفيين في المدن على مستوى البلاد، لكنها ظلت ريفية السلوك والعادات، فقد حافظ أفرادها على صلاتهم الاجتماعية الريفية السابقة، حتى وإن عاشوا في المدن بسبب إزدياد حجمها وتعدادها تدريجيا بفعل تصاعد الهجرة والنزوح الواسع للفلاحين نحو المدن، هربا من مظالم الإقطاع، وقمع مُلاك الأراضي، وانعدام أبسط مستلزمات الحياة الكريمة، من خدمات تعليمية وصحية وفرص العمل، واستحالة البقاء في الريف نظرا لاستفحال الفقر والفاقة في أغلب قرى ريف الوطن العربي.


ونظرا لسيادة العلاقات القبلية والانتماءات العشائرية في كثير من البلدان العربية فان الصوت الإنتخابي المؤثر في التجارب البرلمانية الأُولى من القرن الماضي قد وظف بكثافة أصوات الفلاحين وسكان الريف النازحين ونالت بعض الأحزاب الفوز في عدد من الجولات الانتخابية بتأثير ودعم عوائل الإقطاع ومُلاك الأراضي وشيوخ العشائر وإسناد زعماء الطوائف ورجال الدين اللذين صوتوا لصالح الأحزاب المتحالفة مع هذه الفئات.


إن كثيرا من زعماء وشيوخ القبائل والعشائر وأبنائهم نقلوا طبيعة التسلط على أتباعهم حتى إلى المدن، مستخدمين صلات الدم والقرابة، حتى نفذت بعض أساليبهم إلى طريقة التسيير الحزبي والسياسي والنقابي، تساعد بعضهم جملة من الظروف المالية والاجتماعية والسياسية المكتسبة بفضل التحالفات والمضاربات السياسية ، فقد تحولت كثير من هذه الشخصيات القبلية والعشائرية وعوائلهم الى الانخراط في العمل السياسي، وخصوصا أبنائهم اللذين توفرت لهم فرص التعلم والدراسة في ظروف الاحتلال الاستعماري أولاً ، وبعدها تقدم الفرص أمامهم في ظل التعليم الذي يسرته مدارس الدولة الوطنية الفتية، فتحولوا إلى أنصاف إقطاعيين، وأنصاف موظفين حكوميين، وكانوا قريبي الصلة بالدولة ووظائفها ودوائرها النافذة، حتى توطدت صلاتهم بشكل أكثر ببنيات وقيادات الأحزاب السياسية المتشكلة حديثا آنذاك.


صحيح إن الأحزاب وأفكارها قد صيغت حينها من قبل مجموعات غير متجانسة فكريا وأيديولوجيا وطبقيا، وحتى إجتماعيا، بسبب تفاوت إنتماءاتهم وثقافاتهم ضمن طاقم التأسيس الحزبي، لكن الأمر امتد طويلا لهذه النخب، قبل أن تفرز تلك الفئات ظروف التبلور والفرز الاجتماعي والصراع الطبقي الكامل نتيجة لتداخل بنيات المجتمعات العربية مجموعات من قوى ومجموعات من الافراد غالبا ما ظلت تنتسب بولاءاتها إلى خارج البُنى الحزبية والسياسية التي انضمت اليها، فتشابكت الولاءات القبلية والدينية والطائفية والمذهبية والجهوية بالحزبية وأنتجت مزيجاً غرائبيا من التشكيلات.


اغلب الأحزاب جاءت تعبيرا عن استجابات لقوى اجتماعية صاعدة في مجتمعاتها، ولتلك القوى رؤى وتوجهات واجتهادات عديدة، وقد تُجمد صراعاتها لحظة التأسيس للأحزاب. تلك الصراعات تبقى عوامل تفجير مرتقبة في حياة الحزب الداخلية، حين تتصادم التوجهات والإرادات وطموحات الأفراد بين صفوف القادة بغياب الديمقراطية كليا من حياة الحزب الداخلية، سواء في اتخاذ القرار أو وضع البرنامج المطلوب أو تجديد القيادات عند الضرورة، لهذا ظلت كثير من الأحزاب تعيش أزماتها، منها استمرت إلى فترات معينة، أو ظلت منقطعة الصلة مع جمهورها، وأُخرى تلاشت واندثرت في خضم التجارب التي واجهتها الحياة السياسية والبرلمانية في البلدان العربية، وخاصة بسبب أزمات الحكم العربي .


غالبا ما لعب الزعيم أو المؤسس للحزب دورا في بلورة أفكار التنظيم السياسي وتوجهاته، ويزداد نفوذه كلما التحقت به مجموعة من الأنصار والمريدين والمعجبين به وبفكره أو جهته القبلية والطائفية، أو زاد من رصيده وقوته من تحالفاته القبلية والعشائرية. من النادر أن تخلى زعيم سياسي أو قائد حزبي عن قيادة حزبه طواعية لغيره، إلا تحت ظروف قاهرة، كالاعتقال والإغتيال أو النفي أو حدوث الانشقاق والتمرد عليه من داخل صفوف الحزب، وخاصة من الرعيل الأقرب إليه من مستوى القيادات من الخط الثاني أو الثالث في سلم القيادة.


وهكذا ورثت العمليات السياسية الحزبية جمود التنظيم، والتحجر التقليدي، وحب التسلط والزعامات التي حالت دون تطور الحياة الديمقراطية في البلاد سواء على مستوى الحياة الحزبية، ضمن هياكل الحزب السياسي الواحد، أو ضمن تطور الديمقراطية على المستوى الوطني وحتى القومي.


فالقيادات المتسلطة على الأحزاب، التي وصلت للقيادة الحزبية، بحكم وجودها ضمن مجموعات التأسيس الأولى لتكوين الحزب او الحركة السياسية، او بفضل ظروف الكولَسَة وخلق التكتلات والانشقاقات، وغياب البعد الجماهيري لأغلب الأحزاب العربية التي تجنبت تفعيل الممارسة الديمقراطية لانتخاب القادة الحزبيين، بحجة حماية التنظيم من القمع والاختراق من الخصوم، والتحجج بعدم توفر الظرف الملائم لممارسة الديمقراطية وعقد المؤتمرات، والتشدد بالاحتكام بما يسمى الاكتفاء بممارسة مبدأ " المركزية الديمقراطية" التي تمنح القيادات الحزبية إلى ممارسة التفرد والسطوة والدكتاتورية في التسيير الحزبي الذي وصل إلى قمع المعارضين لهم والوشاية بهم إلى سلطات الحكم، للاستئثار بقيادة العمل الحزبي مهما كانت نتائج التفرد من تدمير الحزب ذاته والعمل السياسي الوطني والقومي برمته.


تتمسك الدكتاتوريات الحزبية العربية بسلطات وقيادة أحزابها بعقلية الوصاية، وكأن الحزب ومنظماته بات عقارا أو ملكا شخصيا وعائلياً أو إقطاعا سياسيا منحته له الرعاية الإلهية من خلال فرصة ظروف المبادرة التاريخية لتأسيسه والانقلاب العسكري للتسلط عليه.


والكارثة إن عملية التوريث للحزب السياسي وقيادته لم تصبح ظاهرة سياسية وملكية خاصة بالحكام وأبنائهم وقبائلهم وعشائرهم؛ بل تعدتها إلى أحزاب سياسية خارج السلطة ومنها في المعارضات العربية وهنا ينشطر الإقطاع السياسي الحزبي إلى قطاع عام يحكم الدولة، والى قطاع خاص يعمل في المعارضة البرلمانية يشارك ديكور العملية السياسية المطلوبة، كما يشارك أيضا في المعارضات خارج العملية السياسية أيضا.


لقد أدركت الدوائر السياسية لحكومات الاحتلال الأمريكي ودوائر النفوذ الغربية ومخابراتها هذه الظاهرة السياسية العربية فسعت إلى تنمية طموحات أبناء الإقطاع السياسي والديني والمورثين للأحزاب وللشيوخ وأبناء القبائل المُتَنَفذين لتصنع منهم واجهات للأحزاب المطلوبة، وديكورات هشة لمشاهد العملية السياسية في هذا البلد العربي أو ذاك. والأنكى من ذلك نسمع عن أحزاب وزعامات سياسية عربية تدعمها وتنشطها الأنظمة الملكية والجمهورية العربية الحاكمة، سواء كانت في بلدانها أو في بلدان عربية أُخرى، وتستخدمها عند الحاجة لتهدئة الأحوال السياسية في بلدانها أو تحريكها كفزاعات سياسية للضغط على نظام سياسي عربي آخر.


إن هذه الأحزاب التي أضحت واجهات قبلية أو طائفية أو إثنية أو حكومية تتساقط في مصداقيتها السياسية أمام جماهيرها وتدرك نهاية نفوذها في ظل رفع المطالب الديمقراطية على مستوى العمل السياسي للبلد أو داخل آليات تسيير الأحزاب السياسية نفسها، فجماهيرها تلوذ إلى التنظيم والتعبئة بسرية وعلنية من خلال تشكيلات خلقتها وسائل الحوار الاجتماعي المعلوماتية فتتحرك وتضع الشعارات السياسية وتمارس بشكل طوعي عملا ديمقراطيا في ساحات التغيير وتتخذ قرارات شجاعة وجريئة في المواجهة ووضع خرائط طريق للانتفاضات الوطنية والثورة من دون أن تسمع توجيهات بقايا الإقطاع السياسي العربي الجاثم على حركة الأحزاب والشارع لقرابة أكثر من نصف قرن.


وان لم تسارع هذه الأحزاب من التعلم من حركة الشارع الجارية الآن فإنها ستذهب لا محالة إلى متحف التاريخ، وتتحمل قياداتها المخضرمة جملة الإخفاقات التي كبلت حركة التحرر العربي ثمنا فادحا من الضحايا والآلام، وأسهمت في إبقاء الأنظمة الاستبدادية تعيث بالعباد فساداً وقمعاً واستهتاراً بكل القيم السياسية والأخلاقية.
وعلى ضوء مقالتي السابقة " متى نفهم اللحظة التاريخية التي نعيشها كعرب "


لا بد لي من القول، مرة أخرى على كهنة الإقطاع السياسي العربي و عوائلَهم الذهاب إلى ساحات التغيير وتقديم الاعتراف بالخطايا السياسية والإعلان عن التوبة الثورية والسياسية وتسليم الأمر لحركة الشارع وقواعدها المنتظرة منها يوما خيراً. الأيام والسنوات القادمة ستفرز من جديد وسائل وطرائق تشكيل الأحزاب وتحديد برامجها المستقبلية، شريطة التوافق بين الطموحات السياسية للإنسان العربي في العيش بكرامة وحرية وفي ظل تنمية مستدامة وتوفير الحقوق الأساسية له على مستوى حزبه السياسي أو منظمته الفاعلة دون إنتهازية في المجتمع المدني أو بيته من دون وصايا تاريخية أو حزبية. سقطت أصنام الحكام في أكثر من بلد غربي، وسيليها سقوط أصنام العمل الحزبي والمواقف والشعارات الورقية التي لم ينالها بعد معول الهدم الجماهيري الفاعل، كون السقوط القادم سيكون بإرادتها الذاتية او بمطلب تحقيق الممارسة الديمقراطية، بأمل التغيير الشامل وأداته الفعالة الناجعة.

 

 

 





الاثنين٠٦ جمادي الاخر ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٩ / أيـــار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ا.د. عبد الكاظم العبودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة