شبكة ذي قار
عـاجـل










ما يجري على الساحة العربية عموما من انتفاضات عملاقة ومشرفة، على اختلاف حدتها، يعيد الى الاذهان حالة المد الوطني الثوري الذي اتسمت بها فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي. واصبح بامكاننا الحديث عنها، او بلغتها، بملء الفم دون التعرض الى اتهامات سخيفة من قبيل مرض الطفولة اليساري او الثورية الجوفاء او عدم الخبرة او التخشب الى اخر هذه الاوصاف. ولكي لا نطيل اكثر، فالحديث عن هذه الانتفاضات، ينبغي العودة به الى البداية، وعلى وجه التحديد من تونس الخضراء. ليس من باب الاعتراف بفضل انتفاضتها العظيمة وما آلت ايه من نتائج مشرفة، وانما من باب التاكيد على قدرة هذه الامة العربية العظيمة وبلدانها على العطاء والتضحية والفداء، بصرف النظر عن حجم هذا البلد او ذاك، سواء من ناحية النفوس او المساحة او الثروة اوغيرها. الامر الذي يمنحنا القوة والعزيمة ويعيد الثقة بالنفس ويعزز الايمان بقدرة اي بلد عربي على صنع المعجزات، مهما كان صغيرا.


يمكن القول بان ما حدث في تونس من انتفاضة عظيمة، وما حققته من انجازات كبيرة، يمكن ادخالها في عداد التحولات التاريخية الكبرى في حياة الشعوب او الامم، وليس كما وصفها البعض بانها حدث داخلي يخص تونس وحدها. صحيح ان هذه الانجازات التي تحققت تخص الشعب العربي في تونس، سواء فيما يتعلق بهروب راس النظام، ووضع حد لنهاية الظلم والاستبداد، او فيما يخص احتمال الفوز بحكومة وحدة وطنية بدل حكومة محمد الغنوشي، لكن الصحيح ايضا هو امتداد نيران الانتفاضة الى خارج حدودها لتشمل الوطن العربي من اقصاه الى اقصاه، وهذا سيؤدي بدوره الى احداث تاثيرات كبيرة في المجال العالمي ، خصوصا اذا تدحرجت رؤوس حكام الردة العرب الواحد تلو الاخر، كما تدحرج راس زين العابدين بن علي. لا تستغربوا من ذلك، او تحسبوا هذا الكلام مبالغة غير مبررة، فالنار توقد من صغائر الشرر.


لسنا بحاجة الى مرافعات طويلة لتاكيد ابعاد الانتفاضة التونسية، على المستويين العربي والعالمي. فنحن على الهواء مباشرة، نعيش فصول من هذه الحقيقة، ونرى ونسمع ما يجري من احداث ذات صلة مباشرة بها اوغير مباشرة. فعلى المستوى العربي قامت انتفاضات وتظاهرات غاضبة ضد حكام الردة في اكثر من بلد عربي، بعضها طالب بالتغير والاصلاح، مثل الاردن والسودان، والبعض الاخر طالب برحيل النظام مثل الجزائر واليمن. في حين تجري الاستعدادات في بلدان اخرى مثل سوريا والمغرب وغيرها لذات الهدف. لكن ما حدث ويحدث في مصر من انتفاضة شعبية عملاقة، ويزداد اتساعها وزخمها وقوتها مع مرور الساعات، يعد الدليل القاطع، او شاهد الاثبات، على هذه الحقيقة. وليس لدينا شك بقدرة الشعب العربي في مصر على تحقيق اهدافه كاملة، واولها رحيل حسني مبارك راس النظام، او القاء القبض عليه وتقديمه للمحاكمة والاقتصاص منه، جراء الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب العربي في مصر وفي غير مصر، على مدى ثلاثين عاما.


اذا حدث ذلك، وجرت الاطاحة براس مبارك وتدحرجت الرؤوس الاخرى في بقية الاقطار العربية او عددا منها، يمكننا الحديث، ودون تردد، عن دخول الامة العربية مرحلة التغيير والتحول من حالة الاحباط والاستكانة والقبول بالامر الواقع، الى حالة الاستقلال والتحرر وامتلاك السيادة الوطنية والسيطرة على الثروات والتحكم بالقرار السياسي والاقتصادي والعسكري، بما يخدم البلاد والعباد، وليس بما يخدم الاعداء والاسياد. اي تحول هذه الامة العظيمة، من امة تابعة وخانعة، واحيانا ذليلة، الى خير امة اخرجت للناس. وهذا ما يفسر حالة الذعر التي غزت اوساط الحلف الامبريالي الصهيوني من هذه الانتفاضات الهادرة، والذي نجد نموذجا عنها في دخول هذا الحلف حالة الانذار باعلى درجاته، وتشكيل اللجان المتعددة لمعالجة هذه المصيبة التي حلت فوق رؤوسهم على حين غرة، حتى وصل الامر لان يدلي رؤسائه بتصريحات مرتبكة بين ساعة واخرى، بدءا بباراك اوباما الامريكي ومرورا بساركوزي الفرنسي وانتهاءا بميركل الالمانية، وكلها تطالب حسني مبارك بالبحث عن حلول، حتى اذا تطلب الامر تخليه عن الرئاسة واللجوء الى اي دولة تتكرم عليه. اما قادة الكيان الصهيوني فقد اصابهم الخوف والهلع، لقربهم من نار الانتفاضة اكثر من غيرهم. ومن الطريف جدا في هذا الخصوص، هروب كل اعضاء السفارة الصهيونية في مصر في جنح الظلام، رغم عدم تعرض المنتفضين لهم لانشغالهم بالعمل على اسقاط نظام حسني مبارك.


شعور امريكا والكيان الصهيوني بهذه المخاوف، والتفكير بالهزيمة، والخشية من انتهاء عصر الهيمنة والتحكم بمقدرات العالم وشعوبه له ما يبرره، وهنا تكمن قوة هذه الامة وعظمتها. فامريكا مثلا، وفي ظل حالة الارهاق والاستنزاف التي تعيشها جراء تورطها في احتلال العراق وافغانستان، وبسبب ما تكبدته من خسائر بشرية ومادية في كلا البلدين، فاقت كل الحدود والتوقعات، لم يعد بامكانها تحمل انتصارات شعوب المنطقة التي تكره امريكا والكيان الصهيوني حتى النخاع. ومعلوم بان امريكا قد بنت قوتها الفريدة واحتلالها موقع الدولة الاقوى في العالم، كان بسبب تمكنها من فرض هيمنتها على هذه الامة العظيمة، وما تملكه من مساحة جغرافية استراتيجية واسعة، وطاقة بشرية هائلة وثروات لا حدود لها، واهمها السلعة التي تشكل عصب الحياة في النظام الامبريالي العالمي الذي تقوده امريكا، ونقصد به النفط، اضافة الى سيطرتها المطلقة على المال العربي، حيث تصب معظم ورادات هذه الامة في الخزينة الامريكية. فاذا ما تحررت هذه الامة من الهيمنة الامريكية وامتلكت قرارها، فانه سينعكس ذلك على مصالحها الحيوية في المنطقة وقد تفقدها الى الابد. فليس غريبا اذن ما قامت به امريكا في الماضي بشن اكبر عمليات تصفية ضد حركة التحرر الوطني العربية نظما واحزبا، ومنع اي دولة عربية من تحقيق اي تقدم او تطور مهما كان حجمه ضئيلا. واذا حدث وجرى خرق ذلك من قبل هذه الدولة او تلك، تسارع امريكا الى وقفه بل وتدميره بكل الوسائل. وقد نجد نموذجا صارخا عنه، في تدمير تجربة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وتجربة الشهيد صدام حسين، بالضبط كما فعلت دول الغرب مع تجربة الزعيم محمد علي باشا الكبير.


لكن هذا ليس كل شيء، فالكيان الصهيوني الذي تعتمد عليه امريكا في لجم دول المنطقة ومنعها، كما ذكرنا، من بناء قوتها وعرقلة تطورها نحو التقدم والازدهار، سينتهي دوره ان لم ينته وجوده على المدى البعيد، خصوصا وان القوى الشعبية التي ستستلم الحكم في هذه البلدان، قد تسلحت بالقوة والوطنية والارادة التي لا تلين، وهي بالتالي لن تخضع لمنطق القوة ولن تعرف المساومة على الحقوق والثوابت، ومن بينها واهمها حق الشعب الفلسطيني في اقامة دولته على كامل ارض فلسطين. ولسنا نحلم اذا تحدثنا عن عودة قضية فلسطين الى الواجهة والعودة الى خوض الصراع ضد الكيان الصهيوني بكل الوسائل بما فيها دخول الحرب ضده، الامر الذي سيكلف امريكا كثيرا ويستنزف طاقاتها المستنزفة والمرهقة اصلا.


واخيرا وليس اخرا، فان مازق امريكا في العراق سيزداد صعوبة وحرجا، فالحكومات الوطنية القادمة ستعوض العراق والعراقيين عن جريمة مشاركة حكام الردة العرب في احتلال العراق، وذلك بطرد ممثلي الاحتلال في العراق من الجامعة العربية، مثلما طرد السادات منها بعد اعترافه بالكيان الصهيوني في نهاية عام 1977، وتقديم الدعم والاسناد للمقاومة العراقية ومساعدتها بكل الوسائل على تحرير العراق من رجس الاحتلال الامريكي اولا والايراني ثانيا. وهذا سيؤدي حتما الى زيادة ازمة امريكا ويضعها على ابواب الهزيمة في كل المنطقة العربية.


لا ننكر حجم التفاؤل هنا من قبلنا، ولا ننكر ايضا خرقنا لمقولة الحقائق ليست مطلقة على الدوام مهما كانت عنيدة، فلكل قاعدة استثناء، ثم ان الانتفاضات لم تزل في بدايتها وهناك احتمالات من الالتفاف عليها او سرقتها او حدوث خلافات داخل قياداتها، وقد يحدث في حالة انتصارها لان تاكل الانتفاضة ابنائها. لكن اشاعة مثل هذه الاقاويل من قبل الوطنيين، الذين من المفترض ان يكونوا متفائلين على الدوام، ستصب اولا في خدمة اعداء الانتفاضة او الثورة، وستعطل، في نفس الوقت، امكانية المشاركة فيها باي وسيلة متاحة وتقديم الدعم والاسناد لها واشاعة روح الانتفاضة واهيمتها في النفوس. فالانتفاضة فعل جمعي وبحاجة الى كل دعم مهما كان متواضعا، واذا كانت هناك مخاوف على الانتفاضة جراء مخاطر تعترض طريق انتصارها، فالواجب علينا الاشارة اليها والتحذير منها والدعوة لايجاد حلول لتجاوزها، وليس الوقوف على التل بانتظار نتائجها، وكأننا مواطنين من امريكا الجنوبية.


ومع ذلك فما حدث ويحدث حتى اليوم ينبغي قياسه بما تحقق من انجازات، وهذه تعد مكاسب كبيرة ويمكن اعتبارها القاعدة التي سيستند اليها الشعب العربي في معاركه المقبلة، حتى اذا قدر ،لا سمح الله، لهذه الانتفاضات الفشل او الهزيمة. حيث هذه الانتفاضات قد ايقظت المواطن العربي من سباته واخرجته من حالة الياس والاحباط، واثبتت له مدى قدرته على العطاء، واستعداده لتقديم التضحيات، ، كما انها كسرت في داخله حاجز الخوف من الالة القمعية، التي كانت ترهبه بمجرد ذكرها او وصفها، ورسخت عنده القناعة بحتمية زوال هذه الانظمة القمعية مهما بلغت من قوة ومهما طال بها الزمن، وليس كما اشاع الاعلام المعادي بان هذه الامة قد ماتت ودخلت متحف التاريخ. والاكثر من ذلك فقد كسرت هذه الانتفاضات حالة الجمود في الشارع العربي، وعززت لديه القناعة بامكانية تحقيق طموحاته والعيش بعزة وكرامة. ولكي لا نطيل اكثر، فانه في اسوء الحالات، فان الهزيمة في معارك وطنية من هذا القبيل، ستكون مشرفة، او افضل بكثير من حالة السكون والخنوع.
 


لا نجازف اذا قلنا بان عصر الانتفاضة او الثورة قد بدا، واذا فشلت هنا ستنجح هناك، ولا عودة للاوضاع السابقة الى ما كانت عليه، ودخول الناس في نفق الحكومات المظلم مرة اخرى. فمثل هذا الزمن مضى وولى دون رجعة. خصوصا وان الشعب العربي اراد الحياة واستجاب له القدر فعلا.

 

 





الخميس٣٠ صفر ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٣ / شبــاط / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب عوني القلمجي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة