شبكة ذي قار
عـاجـل










 

تونس المتقاربة بالطبيعة والمتوسطية والتوأمة التاريخية في العصر الفينيقي مع لبنان، شدت الأنظار إليها من مغرب يحيط بها، إلى مشرق يرنو إليها، معجباً بانتفاضتها الشعبية التي تسارعت خطواتها وتدحرجت على منحدرات المدى الوطني لتصل إلى المستوى الذي لم تستطع فيه كل إجراءات النظام القمعية بداية ومحاولات الاحتواء لاحقاً أن تضع حداً لها وتعيدها إلى بيت الطاعة.

 

هذه الانتفاضة التي أنهت حياة النظام في مرحلة خريفه السياسي وضعت تونس على أبواب استقبال ربيع سياسي، مؤسسة لوضع جديد، أقل ما يقال فيه بأنه لن يعود بالبلد إلى الأوضاع التي كانت سائدة إبان إمساك النظام السابق بمفاصل السلطة ومرتكزاتها ومقدرات البلد، ولعل ما ميز هذه الحركة الشعبية عن غيرها، أنها لم تقد من قبل حركة محورية وكما يحصل عادة أثناء حصول تغيير سياسي بطال أنظمة سياسية قائمة، وهذا ما يشكل عامل إرباك في إدارة هذه الحركة وقيادتها نظراً لتعدد القوى المنخرطة بها أو التي ركبت موجتها، وظهر جلياً من خلال اختلاف الرؤى حول التعامل مع الوضع السياسي الذي أعقب مرحلة ما بعد خروج بن علي خارج البلاد واعتبار موقع الرئاسة فارغاً بقرار من المجلس الدستوري التونسي.

 

إن الذي جعل الانتفاضة الشعبية تستمر في زخمها الضاغط رغم تعددية قواها هو توافر جملة عوامل:

 

العامل الأول: ان الطبقة المتوسطة شكلت المادة الأساسية لهذا الحراك. وهذه الطبقة بما تملكه من دينامية تمكنت من شد الطبقة الفقيرة إلى شعاراتها وخاصة شعار أمن الرغيف، وان هذه الأخيرة اندفعت للانخراط بقوة في هذا الحراك لأنه لم يكن لديها ما تخسره وكل ما يتحقق لها أن كان على صعيد التغيير الكلي أو الجزئي هو مكسب لها،

 

العامل الثاني: تحويل قضية الديموقراطية السياسية إلى قضية رأي عام شعبي ووطني، خاصة وأن القمع السياسي والتضييق على الحريات بلغ مستوى غير مسبوق في تونس، وان مجتمعاً تبلغ نسبة المثقفين فيه  نسبة مرتفعة وهي منخرطة في الشأن العام ومنفتحة على كل الاتجاهات السياسية، جعل الضرورة لتوفير ديموقراطية الرغيف وديمقراطية تتلاقى في سياق واحد، بحيث تحول الاستياء الشعبي من قمع المجوعين برغيف خبزهم، والمقموعين بحراكهم السياسي والنقابي برنامجاً عاماً للانتفاضة وقد اثمرت نتاجاً أولياً هو إسقاط رأس النظام في نظام رئاسي يشكل الرئيس الموقع المقرر فيه.

 

العامل الثالث: ان قيادة الجيش لم تكن منغلقة عن حالة التذمر الشعبي التي سادت الأوساط الشعبية في مختلف شرائحها، ولهذا فإنها ومنذ اللحظة الأولى اتخذت جانب الحياد. وعندما يتخذ الجيش الحياد في مواجهة تحرك شعبي ضد النظام الحاكم، فهذا لا يعدوحياداً بل انحياز سياسي إلى جانب حركة الاحتجاج الشعبي. ولما وضع هذا الاختيار للمؤسسة العسكرية موقع الاختبار الفعلي بعد إعلان حالة الطوارئ، شعر رأس النظام، ان الأمر قد قضي، وان الأداة التي يفترض أن تحمي النظام قد رفعت غطاء الحماية الأمنية عنه بعدما كان التحرك الشعبي قد سبق ذلك بنزع الغطاء الشعبي.

 

العامل الرابع: الدور الذي لعبته وسائل الاتصال مع الداخل والخارج عبر الفايسبوك والتويتر بحيث أصبح الشعب في الداخل منفتح على كل حراك يحصل في أي منطقة في تونس، كما أن الخارج أصبح على تماس مباشر مع هذا التحرك. وهذا ما أدى الى أن تتسارع خطوات الاحتجاج وتكبر لتستقر في العاصمة في مشهدية رائعة من التصميم الشعبي على مواجهة آلة النظام القمعية وعدم الركون إلى الوصفات المهدئة التي أطلقها بن علي عبر اطلالاته المتكررة في وسائل الإعلام.

هذه العوامل الأربعة مجتمعة، جعلت الانتفاضة الشعبية تحقق أهدافها الأولية بإسقاط رأس النظام وحاشيته القريبة من دائرة القرار والحكم ،والتي بتوحشها الاستثماري وتدخلها في إدارة شؤون البلاد الاقتصادية والأمنية والسياسية، قدمت نموذجاً صارخاً في استغلال النفوذ بجني الأرباح واقتناص االفرص وتكديس الأموال على حساب أمن الشعب في رغيف الخبز وفرص العمل والديموقراطية السياسية.

 

نقول ان الانتفاضة حققت أهدافها الأولية بإسقاط رمزية النظام ورمزه الأساسية مع الحاشية الحاكمة الأسرية لأن الوقت ما يزال مبكراً للحكم ما إذا كانت هذه الانتفاضة تستطيع السير بالبلاد نحو إقامة نظام جديد نقيض للنظام الذي كان قائماً.

 

نقول ذلك لعدة أسباب:

السبب الأول: هو افتقار هذه الانتفاضة إلى أداة سياسية محورية، تأخذ على عاتقها إدارة شؤون البلاد وعلى الأقل في المرحلة الانتقالية. وغياب هذه الأداة، يجعل الحالة الشعبية أسيرة التعددية من جهة وتجاذب الاتجاهات من جهة ثانية. وقد بدا واضحاً من خلال تعامل القوى السياسية مع معطيات الحالة السياسية التي أعقبت سقوط بن علي. بحيث أن مواقف عدة تجاذبت الاتجاهات السياسية والشعبية لجهة التعامل مع الحكومة التي تشكلت، البعض وافق على الانخراط والعمل خلال هذه المرحلة الانتقالية، والبعض الآخر عارض وبعض علق المشاركة على تحقيق مطالب معنية.

 

السبب الثاني: انه لم تتضح حتى الآن معالم خارطة حجم القوى السياسية التي واكبت التحرك الشعبي ان مع بداية الانطلاق وان بالانضمام لاحقاً وعندما تتوضح حدود القوة والتأثير لهذه القوى فإنها ستدخل في صراع في ما بينها في ظل تعددية سياسية غير مؤتلفة على برنامج سياسي واحد.

 

السبب الثالث: ان المؤسسة العسكرية التي كان موقعها في الأيام الأخيرة لرحيل بن علي عن السلطة وعن البلاد، هو من العوامل الحاسمة التي جنبت تونس مزيداً من الخسائر في الأرواح والأموال، هو اليوم القوة الأقوى والأبرز. وبطبيعة الحال فإنه لن يبقى على الحياد إذا ما استمر الوضع منفلتاًً من عقاله، بحيث يصبح ما كان مرفوضاً من دور للجيش في ضبط الوضع أمراً مقبولاً أمام تفاقم الأوضاع الأمنية وعدم قدرةالقوى السياسية على إنتاج نظام جديد يعيد لتونس الاستقرار ويضعها على سكة تحقيق الامنين، الاجتماعي والسياسي.

 

وعلى هذا الأساس فإن هذه المشهدية السياسية التي سادت وتسود في تونس بعد انتهاء حقبة بن علي في سدة الرئاسة التي استمرت لثلاثة وعشرين عاماً لا بد أن تأخذ القوى السياسية التونسية على تعدد اتجاهاتها السياسية اولويات لاعادة ضبط الوضع وهذه الاولويات:

 

الأولوية الأولى: ضرورة التمييز بين النظام السياسي والدولة، بحيث لا يؤدي سقوط النظام السياسي إلى سقوط الدولة. فالدولة هي مجموعة المؤسسات التي تأخذ على عاتقها إدارة الشأن العام وتأمين مستلزمات النظام العام وتوفير الأمن بكل مضامينه على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات.

 

الأولوية الثانية: ان تعي القوى السياسية التي كانت في المعارضة مع النظام السابق ودفعت ثمناً غالياً من جراء مواقفها الاعتراضية، ان الطلاق مع الحاكم الظالم يجب أن لا يحول دون مساكنة شعبية وسياسية مع قوى سياسية كانت في موقع الموالاة للحكم، وعلى أن تكون الديموقراطية هي الناظم للحياة السياسية وهذا لا يعني إشراك رموز الفساد السياسي والإداري او الاقتصادي في إدارة شؤون البلاد، بل الأمر يتطلب اقصاءهم عن المشهد السياسي العام، ودون أن ينسحب الأمر على العناصر القاعدية مما كان يعتبر منتمياً لأحزاب مصنفة في خانة الولاء.

 

الأولوية الثالثة: هو ان تعي القوى التي تتصدى لقيادة المرحلة الجديدة، بإن تونس موضوعة تحت المجهر، وان كثيرين لا يريدون لهذه التجربة أن تنجح، بل يراد لها أن تجهض نتائجها بأسرع وقت ممكن، كي لا تتحول إلى ظاهرة يقتدى بها. ولهذا يجب الإسراع في إعادة لم الشمل السياسي، والانتظام في دورة حياة سياسية جديدة، تكون الدعوة فيها إلى انتخابات تشريعية جديدة ورئاسية أيضاً، المدخل لإعادة إنتاج إدارة سياسية تأخذ بعين الاعتبار الإسراع في تحقيق المطالب الشعبية التي فجرت الانتفاضة.

 

إن هذا الذي نطرحه هو من موقع الحرص، لأن الجماهير التونسية التي أنبهرت بنتائج الحراك الشعبي ومعها الجماهير العربية يجب أن تكون ماثلة أمامها النتائج الكارثية التي ترتبت على اسقاط الدولة في العراق والعمل بنظرية بريمر في الاجتثاث وايضاً الوضع في لبنان.

 

صحيح أن التكوين المجتمعي في تونس يختلف عما هو الوضع في العراق ولبنان إلا أن إسقاط الدولة والعمل بنظرية الاجتثاث سيؤدي إلى إنحلال العقد الاجتماعي الذي أفرز منظومة متقدمة من التشريعات المدنية وسيغلب منطق الثأر ولالغاء على منطق الممارسة السياسية الديموقراطية وسيدفع البلاد إلى أتون فوضى  تشكل ارضية داخلية لتدخل خارجي. وعندها ستكون تونس اما اسيرة  الفوضى وبالطبع اللا خلاقة وأما توفير السبب لجعل المؤسسة العسكرية تتقدم للإمساك بمقاليد السلطة. وكلا الحالين ليسا في مصلحة قوى التغيير، وعندها تكون كافة التضحيات قد ذهبت سوى ولم توظف التوظيف النضالي الذي ينتج نظاماً جديداً ناضلت ً جماهير تونس طويلاً لتحقيق اهدافها....

 

 





الثلاثاء٢١ صفر ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٥ / كانون الثاني / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المحامي حسن بيان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة