شبكة ذي قار
عـاجـل










بيننا شاعرٌ يمنح للحياة معنى لا يُصادفُ إلا في الأساطير. رجلٌ فيه من عبقرية الإبداع والخلق ما يجعله ملحمةً من أعظم ملاحم الادب العربي الحديث. ولكنك لن تعثر، وأنت تتلمس طريقك اليه أثر الغيمة التي نزل منها. قد ترى رجلا يظهر بهيئة تجعله وكأنه واحدٌ منا، إلا إذا نظرت الى مشيته. فالغيمة هناك. وهي التي تحمله. وإذا دققت النظر، فستراها بالتأكيد. ولكن فقط عندما تراها بِساطاً لبساطته وظلا لنبله، وستارا لتواضعه.

 

وعلى كثرة ما كُتب عن عبدالرزاق عبد الواحد، فان ثمة ما يمنحني الجرأة على القول، اننا لم نكتب عنه بعد. ربما لأن الأسطورة ما تزال بِكراً بين يديه. وربما لأننا لم نكف عن النظر اليه كقوةٍ حاضرةٍ تمنحنا ما ينقصُ من اللغة، وتردُّ الينا ما يهرب من بلاغتها، فتزيدنا شغفا بقصائده وأناشيده وأغانيه.

كان عبد الواحد بالنسبة لي شاعرا وملحمة.

 

ولكني انتهيت الى أن أمسكت بيديه، وأن قبّلت جبينه ووجنتيه عندما رأيته لأول مرة في تونس.

لم يدم اللقاء إلا دقائق، ولكنه كان كافيا لأن يكشف جمرة المعنى، في دمعةٍ غامت، فغمرت الروح. ولكنها قالت: أيُّ حكاية من حكايات الف ليلة وليلة تجعلُ شاعرا يهبطُ من غيمته الى شارع، فيه من المارة من لا يعرفون انه هو. ولئن مرت تلك الغيمة إلا أنها أمطرت في قلبي. فهذا شاعر العراق الأول، وهو بطل من أبطال معركة الحرية فيه.

 

بقينا على تواصل. وبقيت المودة بيننا تزرعُ حُباً وتنثرُ كلماتٍ، حتى التقينا ثانية في مكان ناءٍ. فاستفردتُ به، لأسرق منه أياماً بلياليها. وغرقتُ بالشعر.

أدهشتني ذاكرته. فقد غنى وأنشد الكثير، ولكني عثرتُ، فوق الأسطورة، على شيء لا أعرف إن كانت الأسطورة هي التي صنعته، أو إن كان هو الذي صنعها.

انه تلك الهشاشة التي تجعله قابلا للكسر حتى ولو بنسمة ريح. عطوفٌ، حنونٌ، وديعٌ، "طيبُ القلب" نعم. إنما رجلٌ، على تمرده وصلابة روحه وعلو شموخه، كسير.

 

وكان من السهل أن تغرق عيناه بالدموع.

قلت، ربما لأن العراق كله اليوم يغرق بالدموع. وشاعره قد يبكي ما انتهينا اليه. ولكنه يعود ليتمرد. ويصنع من حزنه دافعا، ويعود ليقف على صخرته ذاتها، قوياً، أنوفاً، شموخاً.

 

الوحيدون في هذا الكون، الذين يمكنهم يمزجوا انكسار القوة، وليونة الصخرة، هم نحن.

وهذا شاعرنا، ضعيفٌ في قوته، قويٌ في ضعفه، وبوسعه ان يقف للكون كله متحديا، ولو بقي وحيدا. فجمعه مفرد، وفرده مجموع.

كتبتُ مقالا عن وزير خارجيتنا طارق عزيز. فكتب لي، وكتبتُ له ردا. ورأيت أن أكشف وجها من وجوهه: ذلك الشاعر، الذي على عظمته، يُغرقنا بقصائده وأناشيده وأغانيه، ويغرق بالدموع.

 

قال في وفائه لأبي زياد :

 

"سلام عليك يا أبا تراث

"أيها الصديق الحبيب.. ربما نالت مني النوبة القلبية التي مررت بها فجعلتني لضعفي سريع انهمال الدموع.. وربما لأن طارق العزيز كان من أعز أصدقائي وأقربهم إلى نفسي، فأنا أعرفه معرفة الواثق من كل ما قلته أنت في مقالك عنه.. ربما لكل ذلك كانت دموعي تنهمل وأنا أقرأ صرختك الفاجعة هذه.. لو كانت لهذه الأمة آذان تسمع!. وأوجع نبراتها خاتمتها المروّعة في تمنيك ألا يخرج أبو زياد من سجنه لكي لا يرى إلى أين آل العراق.. هذه الفجيعة التي تنطبق علينا جميعا ًنحن الذين نعيش خارج هذا الوطن المنهوب شرفه، المنهوبة حريته، المنهوبة كل حقوقه، والمنهوبة حتى لقمة الخبز من يد الجائعين فيه.. وما أكثرهم

"يا أبا تراث.. لقد هجت بمقالك هذا هاجسا ً سيذبحني بوجعه إن لم أطفئه بالوفاء لهذا الصديق الرائع.. لهذا البطل الوفي الرائع.. له ولأصحابه الأوفياء الكبار.. الذين رحلوا والذين سيرحلون.. بأن أملأ قلمي بدمي مرة أخرى لأكتب له ولهم، ولأواصل كتابتي للعراق الذي يتطلع إلينا بعيون لا تنام."

 عبدالرزاق عبدالواحد

 

 وقلتُ في وفاء له :

 

"سيدي الغالي وتاج رأسي أبو خالد العظيم،

أخطأوا أم أصابوا، رجال العراق الأكابر، فقد أثبتوا لنا، وللعالم ولأنفسهم أنهم رجالُ شرفٍ. والشرفُ هو ما يأسرنا ويفتُّ عضدنا، يا أبا خالد، وهو ما يصنعُ منا بشراً. العراقيون أهلُ غيرةٍ (شرف). هذا هو كل شيء فيهم. وهذه هي مقاومتهم التي لن يغلبها أحد حتى ولو ساقوا ضدها كل مرتزقة الوحشية والنذالة.

ولستُ بطلا أو كبيرا يا أبا خالد. فأنا أركض وراء غيرتي، وهي ما زالت تغلبني، بيد أني لم أتعب، وسأظل ألاحقها حتى نلتقي على خط النهاية. فبعده لا هي تذهب أبعد، ولا أنا. وكثيرون مثلي يفعلون، سوى انك أبونا ومعلمنا وروح غيرتنا. ومن نبع غيرتك على العراق ننهل.

 

لن أسمح لقلبك يا أبا خالد أن ينوبك في شيء. قل له: اعقل يا ولد. وقل له: وراءنا شعب يتعذب، فلا تزيده عذابا بإيذاء أعظم شعراء عصره، وأصدقهم وأشرفهم وأرفعهم غيرة.

 

لو أصابك شيء يا أبا خالد فلن أغفر لقلبك أن يغدر بي. فماذا سيقول شعبُ العراق، إذا رأى شاعره الأكبر يترك قلبه يلعب.

اخرج لتتمشى. ولا تكتئب. أتوسل اليك أن ترهقه بالمشي. وأن تجعله يلهث. فتلك هي الوسيلة الوحيدة لكي نغافل غفلاته.

ستقول لي: انها الثمانون.

هذا الكلام، لا يمشي عليّ، كما انه لا يمشي على أم خالد. فكيف تريده أن يمشي على خالد واخوته الـ 25 مليون؟ ممنوعٌ عليك أن تقدم العمرَ عُذرا. فأنت تكبر في قلوبنا من دون عمر. وهذا ما يجعلك جزءا من أسطورة عراقية عمرها من عمر الخلق.

العراق يحتاجك يا أبا خالد.

من دونك سنعود يتامى، وستهرب منا عشبة الخلود مرة أخرى. فأنت من نسل جلجامش.

سيدي الغالي، وتاج رأسي.

كنا في مطبخ البيت وكنت أقصُّ أظافري عندما قلت لي:

"كي لا تمزقك الندامة

لثلاثة هذي الأظافر لا تُضع منها قلامة

منهن أن أظافر الإنسان تشهد في القيامة

ولأنها ما حك جلدك مثلها

                     ولك السلامة

 

ولأنهن أخير أسلحة الدفاع عن الكرامة".

فيا أبا خالد، إن كان لن يبقى منّا غير هذه القلامة، فأني أُشهدها أمامك، وليشهد الله، انها ستكون أخير أسلحة الدفاع عن الكرامة.

ولن يغلبونا. لا والله. حتى ولو حملوا كل لصوص الكون الى العراق كما فعلوا.

هل تعرف لماذا؟

لأننا أهلُ غيرةٍ وكرامة.

 

فابق لنا، لنبقى نقاوم. ودمك العزيز سيظل يغلي في عروق كل العراقيين حتى ولو مرت ألف عام.

من وفائك ننهض. وسنظل وراء غيرتك العزيزة نركض، حتى تصل النهاية.

فلا تُضع منها قلامة".

 

وكتب لي ردا، يناجي العراق، قائلا :

 

تـَعـالـَيتَ مَوهوبا ً.. تعاليتَ واهِبا

        وَلـَبـَّيْـكَ مَطلوبا ً .. ولبـَّيكَ طالِـبا

نُعاصي بكَ الدُّنيا فلو سالَ سَيلـُها

        سَـدَدنا عـلـيهِ بالضلوع ِالـمَسارِبا

وَنأتيكَ والفـُوضى على صَهَواتِها

        فـَنـَترُكُ فيها السَّيفَ لِلسَّيفِ حاطِبا

وَفـيـنـا  دِماءٌ  يَـشـهَـدُ  اللهُ  أنـَّهـا

        إذا أومَأتْ يـُمناكَ جاشـَتْ غـَوارِبا

وَفـينا نفوسٌ أنتَ تـَدري جموحَها

        تـَخَيـَّرُ إنْ خَيـَّرتـَها المَوتَ صاحِبا

وَزَهوُ العراقيِّينَ إنْ قِيلَ: مَن لـَها؟

        وّمّسَّتْ يَشـاميغُ الرِّجال ِالـمَناكِـبـا

طـَوَوها على صَوتِ الهَلاهِل ِجالـِبا ً

        علـَيهـِم قـَضاءُ اللهِ ما كانَ جـالـِبا!





الاربعاء١٦ شعبـان ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٨ / تموز / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب علي الصراف نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة