شبكة ذي قار
عـاجـل










تملكت الحيرة عقول كثير من العراقيين منذ احتلال بلدهم من قبل حلف الأشرار في نيسان 2003م وحتى يومنا هذا، حول لغز الكهرباء، الذي عجزوا عن فك طلاسمه برغم كل الجهود واستحضارات الوعي وعمليات النبش في تاريخ الحروب وتجارب الشعوب.


وعام بعد عام يتناقص عدد الساعات التي يحصل خلالها المواطن العراقي على الطاقة الكهربائية، حتى وصلت في عامها السابع إلى أدنى مستوياتها، ومعها أجور خيالية لا يقوى على سدادها إلا من عمل سارقاً في دولة الفافون، حتى لجأ الكثير منهم لقادة التهجير من أجل تقسيط سداد مبالغها ترحماً وترفقاً.


تصور البعض أن ذلك ناشئ عن السرقات الكبيرة للمال العام من قبل ممتهني السرقة، الذين لم يجد حلف الأشرار غيرهم ليشكل منهم حكومات العبيد، وقد يكون ذلك صحيحاً، فباعترافهم أن 17مليار دولار صرفت على قطاع الكهرباء خلال أعوام الاحتلال المنصرمة، لكن الحقيقة أن هذه الأموال الطائلة، التي تكفي لتجهيز عدد من البلدان، وليس العراق فحسب، بالطاقة الكهربائية، كما أن البدء بتكوين منظومة للطاقة الكهربائية من نقطة الصفر لا تستغرق في أصعب الظروف أكثر من أربع سنوات، وقد مرّ على الاحتلال أكثر من سبع سنوات.


والعراق كانت فيه منظومة جيدة وحديثة لتوليد الطاقة ونقلها وتوزيعها، وكان معدل انقطاعها عن المواطن4 ساعات في اليوم، وبجداول معلنة، رغم ظروف الحصار والعدوان، وسكانه لم يزدادوا على ما كانوا عليه قبل الغزو عام 2003م، فأكثر من مليون ونصف المليون قضوا بأسلحة الغزاة ومليشياتهم الإجرامية، وهجر أكثر من خمسة ملايين منهم إلى دول الجوار والشتات، أما الذين كانوا هاربين من العراق بسبب الحصار، فلم يعد منهم سوى بضعة مئات، كوجوه سياسية احتذاها الغزاة ودخلوا بها العراق، فمنهم من لم يعد إلى ربوع الديمقراطية الصليبية إلى الآن، لأنه اعتاد على غسل الصحون في المطاعم، فصارت هي موطنه، ومنهم وجد نفسه وعياله أمام حال كان الحصار أكثر رحمة منه فقرر مواصلة الاغتراب. فالمنطق يقول أن منظومة الطاقة التي كانت موجودة قبل الاحتلال يفترض بها أن تسد حاجة العراقيين، بسبب غياب الملايين التي فقدوها بعد الاحتلال، وعلى أقل التقديرات فإن ساعات القطع يجب أن لا تتجاوز عدد الساعات التي كانت تقطع خلالها قبل الغزو.


والمنطق أيضا يقول أن هؤلاء السراق "موظفي الاحتلال" مجرد عبيد، يأتمرون بأمر أسيادهم الغزاة، وذلك لا يتيح لهم أن يسرقوا كل هذه المليارات دون أن تكون على عين المحتل وإرادته، بل ورغبته.
فالمؤكد إذن أن المحتل لا يريد للمواطن أن يتنعم بأبسط الخدمات، ومنها الطاقة الكهربائية، فلم يفعل الغزاة ذلك؟ مع إن المنطق يقول أن فقدان الخدمات الأساسية، أو تردي مستوياتها يؤدي إلى استفزاز الشعب ويدفعه للشغب والتحرك السلبي تجاه حكامه، فهل يبتغي المحتل من ذلك خلق فاصلة بين الشعب العراقي ومن أتى بهم ليحكموه؟ المنطق يقول عكس ذلك، فهو بحاجة لمن يقف مع أذنابه ويوسع من رقعتهم، كي يتمكن من تحقيق ما جاء لأجله، فالاحتلال العسكري ليس غاية بحد ذاته، لكنه وسيلة لتحقيق غايات أخرى، لم يتمكن الغزاة من تحقيقها كاملة حتى اليوم.


الأمر أبعد من ذلك، والهدف منه لا يرتبط بالعملاء الحكام، ممتهني السرقة والإجرام، بل هو انتقام من شعب، توقعت القوى الصليبية والصهيونية والصفوية منه أن يستقبلهم بأكاليل الورد وكل مظاهر الترحيب، بعد أن مارسوا عليه مختلف أساليب الخداع والتضليل طيلة ربع قرن من الزمن قبل الغزو، لكنها وجدت منه على أرض الواقع منذ فجر يوم 20-3-2003م وحتى يومنا هذا ما لم تكن تتوقعه على الإطلاق.


فخلال فترة الغزو كانوا يمنون أنفسهم الخائبة بأماني، توقعوا بموجبها أن تنتهي مواجهة الشعب لهم بمجرد وصولهم بغداد، ثم مددوا الأمل أياماً أخرى على أن الذي يحصل ليس إلا محاولات يائسة من بقايا نظام وجيش تم تدميرهما، فكان ذلك الهاجس والهوس هو الذي أغرى المجرم بوش الصغير للوقوف على ظهر إحدى المدمرات الرابضة في مياه العرب يوم 1-5-2003م ليعلن نهاية العمليات العسكرية في العراق، مدعياً أنه قد حقق الانتصار المزعوم، لكن الساعات والأيام التي تلت ذلك الإعلان الخائب قد أثبتت لمجرمي الحرب والعدوان أن تلك الأماني ليست إلا أضغاث أحلام، وأن القادم من الأيام سيكون أشد على علوجهم وأكثر دموية، وسيذيقهم شعب العراق ما لا تشتهي أنفسهم، ولا يحتمل خيالهم.


وعند ذلك فقط أيقن مجرمو الحرب أنهم لم يتمكنوا من خداع شعب حضاري يمتلك من خزين الوعي ما يجعله عصياً على مخططاتهم.
وأيقنوا أن شعب العراق لم يكن دمى يحركها القائد الشهيد صدام حسين رحمه الله، بل هو شعب امتلك إرادته بعد أن وجد القيادة المعبرة بصدق عن شخصيته وطموحاته وتطلعاته.
فكان لزاماً على الغزاة أن يبحثوا عن كل سلاح ممكن يذبحون به شعب العراق، بالإضافة لما هو متوفر في أيديهم من وسائل وعدد القتل والتدمير الحربية، فتيسر لهم أن يقتلوا كيف شاؤوا، وأن يعتقلوا من أرادوا، وأن يجوعوا الشعب ويفقدوه أبسط ما كان يسد به رمق عيشه من خلال مفردات البطاقة التموينية، ويتفننوا في سرقة قوته وثرواته، ويمنعون عليه التمتع بها، ويستحدثوا له مؤسسات ووزارات لتهجيره في أصقاع الأرض، ومع كل ذلك فإن الخدمات عنصر مهم وحاسم في حياة الشعوب، والطاقة الكهربائية تشكل عصب الحياة لتلك الخدمات، لذلك كان القرار باستخدامها كوسيلة للضغط على الشعب العراقي، بهدف ثني إرادته على قتالهم.


ففي يوم السبت 19-7-2003م وبعد أن أكد الجنرال جون أبي زيد أن القوات الأمريكية تواجه "حرب عصابات منظمة وذات كفاءة عالية"، معترفاً بذلك، ولأول مرة بأن الشعب العراقي ليس صديقاً مطواعاً لهم، بل عدو شرس يجب العمل على تطويعه بمختلف السبل والوسائل، في ذلك اليوم ضحك أهالي مدينة بغداد كثيراً حين شاهدوا على جوانب وأظهر الدبابات والآليات الأمريكية لأول مرة وهي تطوف الشوارع لوحات كتب عليها باللغة العربية عبارة واحدة تقول:" امنحونا الأمن...نمنحكم الكهرباء". فقد كانوا يقرؤون من قبل عبارات تقول "ابتعد وإلا تتعرض للقتل" ولما لم تجدهم تلك الإعلانات "المساومة القذرة" شيئاً فقد تخلوا عنها بعد أسابيع وعادوا إلى "تحذير  تحذير تحذير ابتعد وإلا تقتل".


هذا إذن هو السبب الحقيقي الذي يبحث عنه شعب العراق، على الرغم من أنه رأى بأم عينه، في رائعة شمس ذلك النهار التموزي حروف تلك العبارة، وأعاد قراءتها مرات ومرات خلال شهر تموز عام 2003م، ذلك الشهر القائظ، الذي أجاد الغزاة اختياره لتلك المساومة الرخيصة ولم يفلحوا، لأنه أشد أشهر السنة حرا في العراق، ولأن الشعب يكون أكثر حاجة خلاله للتيار الكهربائي، وبخاصة الأطفال والشيوخ والمرضى، فما الذي أنساه إياها وهو الشعب الذي عرف عنه أنه لا ينسى!! فهو شعب حليم يتسامح لكنه لا ينسى أبداً، لأنه ذاكرة التاريخ منذ عرفت البشرية تدوين الأحداث.


فالذي أفقد شعب العراق نعمة الكهرباء إذن هو عقاب الغزاة المجرمين لشعب قاومهم، لا زال، ببسالة وشجاعة وفروسية وصبر وجلد، يعلوها الإيمان الراسخ بالله تعالى ونصره لعباده المحتسبين، هم توقعوا منه أن يكون مجرد قطيع خراف تتخطفه الذئاب من كل صوب وحدب، وهو لا يملك إلا الفرار أمامها خائفاً مرعوباً، ثم ما يلبث أن يستسلم لقدره.
فكيف يمكر الذئاب حين يتوهمون بالأسود على أنها مجرد خراف!!
لا يفعلون غير الذي يفعلون.





الاثنين٠٢ رجــــب ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٤ / حزيران / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حــديــد الـعــربي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة