شبكة ذي قار
عـاجـل










تقود الإدارة الأمريكيّة حملة دبلوماسيّة هذه الأيّام لإقناع شركائها وحلفائها بالخطّة الجديدة التي تنوي وضعها للتخفيف من الحصار المضروب على قطاع غزة منذ أكثر من ثلاث سنوات. ومن الواضح أنّ هذه الحملة جاءت بعيد الجريمة التي اقترفها الصهاينة في مياه البحر الأبيض المتوسّط. وهي الجريمة التي كشفت لمن لم يكتشف بعد الوجه الدمويّ العنصريّ للكيان الصهيونيّ وأبانت حقيقة ادّعاءاته بما جعله عرضة لانتقادات دوليّة واسعة من حكومات كانت تصنّفه إلى وقت قريب على أنّه الحليف الموثوق في المنطقة.

صحيح أنّ كثيرا من هذه الحكومات الغربيّة عبّرت عن "صدمتها لهول ما حدث"، ومضى بعضها شوطا أبعد حين دعا إلى فتح تحقيق دوليّ في ملابسات الجريمة وحيثيّاتها، ومحاسبة المسؤولين عن استشهاد ذلك العدد الكبير من المتطوّعين والناشطين الدوليّين على متن سفينة (مرمرة) التركيّة. لكنّ الصحيح أيضا أنّ كلّ تلك التصريحات التي صدرت عن ممثّلي تلك الحكومات إنّما جاءت بفعل ضغوطات القوى الحيّة والجماهير التي خرجت في مظاهرات ومسيرات تندّد بالجريمة وتدعو إلى المساءلة والمحاسبة والمعاقبة.

كانت ردود الفعل إذن في غير صالح الصهاينة حتّى وإن بدا أنّها عاجزة عن تحقيق مكاسب ملموسة في المدى المنظور. وهذا يعني أنّ الحصار الذي طال غزّة وأوهن أبناءها وحرمهم سلّة الخبز وحبّة الدواء وكيس الإسمنت لم يعد مقبولا، ولم يعد ممكنا تسويقه باعتباره عقابا منطقيّا لـ"حكومة آبقة" تسير على خطى حركة طالبان الأفغانيّة.

الأمريكيّون خبروا مثل هذه المواقف، وهم يستفيدون دائما من سطوتهم ويوظّفون نفوذهم للتأثير على الحليف والصديق واستصدار القرار الذي يريدون وتقديمه إلى العالم على أنّه تعبير عن الشرعيّة الدوليّة... والإرادة الدوليّة.

نتذكّر برنامج "النفط مقابل الغذاء" الذي أُقِرّ بعد أن ضجّ العالم وهو يرى شعبا فَعَل فيه الحصار الظالم فعله، وتكالبت عليه ثلاث وثلاثون دولة في عدوان لم تشهد له البشريّة مثيلا. ولم يكن للأمريكيّين والبريطانيّين وقتها من حلّ سوى الالتفاف على المطالب العالميّة برفع الحصار عن الشعب العراقيّ. وكان ذلك "الحلّ" هو "النفط مقابل الغذاء".

ما المطلوب من غزّة اليوم للتخفيف من الحصار؟ لا نفط.. ولا غاز مقابل الغذاء والدواء. إذن، ما الثمن المطلوب من غزّة الأبيّة لتجميل الحصار وتضليل العالم بأنّ ضرورات الحياة متوفّرة في غزّة؟
ما من شكّ في أنّ حماة الصهيونيّة ورعاتها يريدون عزّة غزّة وكرامتها ثمنا للدواء والإسمنت.. مثلما كانوا يريدون عزّة العراق وشرفه واستسلام قيادته ثمنا للخبز وحبّة الأسبرين.. لكن، هيهات.. هيهات..

اليوم أدرك الإدارة الأمريكيّة وأدرك الصهاينة أنّ حصار غزّة استنفد أغراضه، ولم يعد ممكنا استمراره بالصورة التي هو عليها، كما أنّه لم يعد مقبولا دوليّا لأسباب إنسانيّة وأخلاقيّة بالدرجة الأولى. ولهذا جاءت تحركات نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن ولقاءاته بمسؤولين عرب للبحث عن شرعيّة إقليميّة أو دوليّة لإعادة محاصرة القطاع المحاصَر. ورغم أنّ تصريحات بايدن لم توضّح بدقّة تفاصيل الخطّة الأمريكيّة الجديدة، فإنّ المتابع يستطيع أن يفهم أنّ مؤامرة جديدة تستهدف حياة أهلنا في غزّة وأمنهم وصحّتهم.

"نبحث مع مصر وشركائنا الآخرين في وسائل جديدة للتعامل مع الوضع في قطاع غزة".

كان هذا أهمّ ما جاء في تصريحات جوزيف بايدن. وليس خافيا أنّ التصريح يسعى إلى تصوير مأساة غزّة على أنّها مجرّد "وضع" في حاجة إلى وسائل جديدة للتعامل معه. أي أنّ ما تتناقله وسائل الإعلام حول الكارثة التي سبّبها الحصار الظالم والكارثة التي سبّبتها الحرب الظالمة على القطاع ليس سوى مبالغات إعلاميّة أو ادّعاءات لنشطاء ودعاة سلام ومناضلين أصبحوا يصنَّفون منذ أيّام باعتبارهم "إرهابيّين" يحاولون خرق الحظر وكسر الحصار لإيصال الأسلحة إلى قطاع غزّة المحاصَر.

إنّ الإدارة الأمريكيّة التي لا تكفّ عن تأكيد التزامها بأمن "إسرائيل" لا تتوقّف في أيّة مناسبة عن إظهار استهتارها بحقوق العرب وإنكارها لتطلّعاتهم المشروعة. ومن المؤلم أن نعيد القول إنّ الذين تَوجّه إليهم جو بايدن سيطيعون ويلتزمون ويمتثلون لأنّنا ما عهدناهم إلاّ حرّاسا أوفياء وحلفاء موثوقين وأصدقاء حريصين على تعهّداتهم.. طبعا كلّما تعلّق الأمر بخدمة الصهاينة والأمريكيّين. وعليه فإنّ من غير المنطقيّ أن نعوّل على أيّ منهم في رفع الحصار أو التخفيف منه أو الدعوة إليه إلاّ بالقدر الذي يسمح به الأمريكيّون.

الإدارة الأمريكيّة تتحرّك هذه الأيّام بهدف تعطيل الإجراءات الدوليّة الرسميّة والشعبيّة المتضامنة مع غزّة.. وهو تحرّك يمثّل درجة عالية من الانحياز إلى "إسرائيل" وإسعافها بطوق نجاة، في وقت بدأ الكثيرون يفيقون من غفوتهم ويبصرون الوجه الحقيقيّ البشع لها.

إنّ التعويل على منّة تأتينا من هنا أو من هناك يعني تفريطا في كلّ المكاسب التي تحقّقت من خلال وقوف المتضامنين الدوليّين في وجه القرصنة الصهيونيّة، وقبل هذا فإنّه يُعتبر استهتارا بدماء أولئك الشهداء الذين دفعوا حياتهم ثمنا لحرّيّة غزّة وصمود أهلها.

ولهذا فإنّ المطلوب من العرب اليوم مواصلة الضغوطات الشعبيّة لكسر الحصار عن غزّة ودعم الحملات التضامنيّة البحريّة والبريّة القادمة من كل أنحاء العالم إلى القطاع الصابر الأبيّ.
دون ذلك أو خلافه، سيكون كلّ ما حدث في مياه المتوسّط جولة أخرى من صراع ما زلنا بعد لا نُحكم إدارته ولا نمتلك آليّات الانتصار فيه.


عبد الكريم بن حميدة
akarimbenhmida@yahoo.com





الجمعة٢٨ جمادي الاخر ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ١١ / حزيران / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب عبد الكريم بن حميدة نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة