شبكة ذي قار
عـاجـل










ثورة النَموذَج القّومِي

 

د. نضال عبد المجيد

 

   تشكل ثورة ١٧ تموز القومية الاشتراكية، علامة مضيئة في سفر النضال القومي، مثلما هي صفحة ناصعة في سجل نضال حزب البعث العربي الاشتراكي، مثلما هي صفحة النضال الوطني لشعب العراق، وهنا يسطع سؤال جوهري، هل هذه الثورة هي ثورة عراقية فحسب؟ أم هي ثورة النموذج القومي الذي يمثل حزب البعث العربي الاشتراكي أحد أعمدته وهل بالإمكان أن تكون ثورة قطرية فحسب همها الأساس حدود قطر العراق الجغرافية.

وللإجابة على هذه التساؤلات، التي ما انفك العديد من الباحثين أو الكتاب يثيرونها بحسن نية أو سوئها، ينبغي الركون الى الحقائق الموضوعية التي كانت تحيط بالأمة في النصف الثاني من ستينات القرن العشرين.

 

الأوضاع القومية عند قيام الثورة

 وسنعرض لهذه الاوضاع بمحاور ثلاث:

الأول: حالة الوطن العربي- كان الوطن العربي يئن تحت سياط النكسة القومية في ٥ حزيران ١٩٦٧، فقد احتل الكيان الصهيوني الضفة الغربية لنهر الاردن وسيناء والجولان بحرب خاطفة استمرت ستة أيام، مما تسبب بغضب شعبي عارم، ابتدأ بخروج الجماهير العربية الى الشوارع منددة بهزيمة النظام الرسمي العربي، ومؤكدة على التصدي للعدوان الصهيوني بكل الوسائل، واولى هذه التظاهرات كانت في بغداد حيث سار في مقدمة التظاهرة قيادة الحزب القطرية، وهكذا كان الحال في العواصم العربية، حيث فرضت جماهير الخرطوم اللاءات الثلاث على الحكام العرب المجتمعين فيها اب ١٩٦٧. وكذلك كانت جماهير مصر العربية يومي ٩ و١٠ حزيران ١٩٦٧، في هذه الاوضاع الكارثية، نشطت المقاومة الفلسطينية التي استقطبت الشباب العربي المتحمس للثأر للكرامة المهدورة واسترجاع الارض العربية المحتلة. 

هذه هي باختصار شديد اهم ما ميز الحالة العربية قبل ثورة تموز.

الثاني: الاوضاع في قطر العراق

     على الرغم من ان العنوان يتعلق بالحالة القومية الا ان الوضع في قطر العراق كان يكتسب اهمية بالغة، وهي جزء من الحالة العربية الا انها تتميز بوضع خاص، فالقطر كان ساحة مريحة لتغلغل اجهزة المخابرات الغربية، مستفيدة من وجود شركات النفط، كما ان النظام لم يشارك في التصدي للعدوان الصهيوني كما كان مؤملا من جيش العراق، حيث يشكل عمق الجبهة الشرقية مع الكيان الصهيوني، يضاف لذلك الغرق في المشاكل اليومية التي كانت تنذر باحتمال وصول أي من القوى المعادية الى سدة الحكم، بسبب هشاشة الوضع السياسي، مما يعني ان النضال الوطني سيصاب بنكسة جديدة قد تؤخر تحقيق اهداف الشعب لأمد غير معلوم .

الثالث: الحزب- تعرض الحزب في ٢٣ شباط ١٩٦٦ الى ردة شنعاء ادت الى حدوث تصدع كبير، فبعد ان استولت الزمرة الشباطية على السلطة في القطر السوري، تعرض مناضلو الحزب الى حملة شعواء من القتل والتشريد والسجن، ولم يكتف النظام السوري بذلك بل قام بتسليم الجولان للصهاينة،

وأعلن عن سقوطها قبل ١٨ ساعة، مما اضاف الى جرائمه بحق الحزب جريمة جديدة بحق الامة العربية، فقد كان واضحا ان التآمر على البعث سيقود حتما الى التآمر على الامة.

في ظل اوضاع الردة والانشقاق هذه انعقد المؤتمر القومي التاسع للحزب في شباط ١٩٦٨، والذي أقر استراتيجية قومية طويلة الامد للكفاح الشعبي.

أما في قطر العراق فقد تصاعد نضال الحزب للتهيؤ والاعداد لتفجير الثورة وأستلام السلطة، وتحقيق اهداف الحزب، بالتغيير الجذري وانهاء حالة التردي والضعف، وبناء القاعدة المحررة للنضال القومي على ارض العراق.

 

العراق قاعدة النضال القومي

فور قيام ثورة  ١٧ _ ٣٠ تموز المجيدة، شرع الحزب بإقامة البناء المادي الذي سترتكز علية هذه القاعدة النضالية المحررة، واتخذت لذلك جملة من الاجراءات التي تمثلت بتنظيف ساحة القطر من شبكات التجسس والعمالة، بعد ان كان مرتعا لهذه الشبكات، وقامت بتنقية الاجواء السياسية وارساء قواعد الديموقراطية من خلال اصدار بيان ١١ اذار ١٩٧٠، ولحقه اصدار قانون الحكم الذاتي في المنطقة الشمالية من القطر، واقامة الجبهة الوطنية التي ضمت القوى السياسية في القطر، وشرعت بإنجاز القاعدة التنموية العملاقة ابتداء بتأميم الثروة النفطية اعتبارا من الاول من حزيران ١٩٧٢، مما يعني حصول الاستقلال الاقتصادي العنصر المكمل للاستقلال السياسي، والذي ستنعكس عوائده المادية على القيام بخطط التمية القومية ببناء المدارس والمصانع والطرق والجسور، والسدود وشبكات الري، والأهم بناء الأنسان في العراق بناء قومياً، لأنه الوسيلة والغاية في اي بناء مادي، فتم القضاء على الامية بوقت قياسي. ولاستكمال القدرة القتالية، شرعت ببناء القوات المسلحة العراقية، بناء يمكنها من الدفاع عن العراق، واداء الواجب القومي في اي ساحة من ساحات الصراع مع اعداء الامة ومغتصبي ارضها، فشارك جيش العراق الباسل في حرب تشرين ١٩٧٣، على الجبهتين المصرية والسورية، فحمى دمشق من السقوط بيد الصهاينة.

أما على الصعيد السياسي، فقد أسست الثورة نظرتها للعلاقات الدولية وفقا للمصلحة القومية العليا وليس على اساس المصلحة القطرية الضيقة، وخاصة الموقف من قضية العرب المركزية قضية فلسطين، فقد وجهت الثورة كل جهودها المعنوية والمادية لخدمة هذه القضية، ودعم صمود الشعب العربي الفلسطيني، وثورته المسلحة، التي لم يبخل عليها بكل ما تحتاجه من مقومات الصمود والاستمرار في مواجهة الكيان الصهيوني. فالدعم بالسلاح والاموال والرجال، وفتح ساحات التدريب، اوجد للمقاومة الفلسطينية عمقاً استراتيجيا استطاعت من خلاله الصمود والبقاء. رغم العدوان الايراني على النموذج القومي في العراقي، فقد استمر الدعم والاسناد الفعال للمقاومة الفلسطينية ودعم صمود شعبنا الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال الصهيوني.

  وهكذا وظفت القيادة في العراق كل الامكانيات السياسية والعسكرية والاقتصادية، بدعم اقطار المواجهة مع الكيان الصهيوني، وفي الدفاع عن عروبة الخليج العربي، سواء ايام الشاه بعد احتلال الجزر العربية الثلاث، او في مواجهة الخمينية ومشروعها بتصدير الثورة للأقطار العربية، وخاضت من اجل ذلك القادسية الثانية التي تكللت بالانتصار في الثامن اب ١٩٨٨. كما دعم وحدة اليمن، ووحدة السودان، والوقوف مع موريتانيا في مواجهة عدوان ساحل العاج. وكان تصديها للحلول الاستسلامية للقضية الفلسطينية وخاصة بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر الساداتية والكيان الصهيوني، وعقد مؤتمر قمة بغداد في تشرين ثاني ١٩٧٨، لوقف التداعي في الموقف العربي، بعد غياب مصر عن ساحة الصراع مع الكيان الصهيوني.. وهكذا وظفت الامكانيات المادية للقطر في خدمة اقطار الامة، والتي تعتبر علامة فارقة في السياسة الخارجية العراقية وقد تعدى هذا الدعم الى دول العالم الثالث، وشكل انعطافة ملموسة في العمل العربي المشترك الذي تصاعد الى مستويات عالية في العديد من القطاعات، بفضل الرعاية والدعم المباشر، لأي تعاون بيني بين الاقطار العربية. فكانت بغداد مقرا للعديد من المنظمات والاتحادات العربية السياسية منها والمهنية..

وفي صفحة المواجهة مع العدوان الايراني في ايلول ١٩٨٠ والذي استمر لسنوات ثمان، والذي مثل واحدة من صفحات التآمر المباشر على العراق كقاعدة محررة للامة، بهدف تحطيم بناءها المادي، واشغالها بصراع اخر بعيدا عن الصراع الاساسي في مواجهة الكيان الصهيوني.

    فإشعاع ثورة تموز المجيدة وإحباطها لكل المؤامرات الداخلية والخارجية، دفعت القوى المعادية للأمة والمتربصة بأي نموذج قومي يخرج عن خطوطها الحمراء، بالبناء الحضاري او بالموقف السياسي المستقل، دفع هذه القوى للبحث عن وسائل اخرى لتدمير هذا النموذج حتى تمكنوا بعد عدوان مباشر وحصار غاشم استمر ١٢ عاما من اجهاض هذا النموذج بغزو العراق وأسقاط دولته الوطنية.

لقد كانت السنوات الخمس والثلاثين من عمر الثورة والتي كانت بحق سنوات حافلة، تمكن خلالها حزب البعث العربي الاشتراكي من وضع افكاره ومبادئه موضع التنفيذ، فكانت نظرية العمل البعثية التي أرسى اسسها القائد الخالد صدام حسين رحمة الله، التي تناولت كافة الجوانب السياسية والاقتصادية وللاجتماعية، ورغم هذه الانجازات الا ان اي عمل بشري يشوبه النقص والخطأ، فلم يحصل الافتراق بين المبادئ وبين السياسة اليومية. ولم تترك الفرصة للثورة لتنجز العديد من أهدافها على صعيد تفعيل الممارسة الديمقراطية، ورغم هذا كانت المشاركة الشعبية واسعة من خلال المجلس الوطني ومجالس المحافظات المنتخبة، ولو قيض للثورة ان تحقق كامل أهدافها لتغيرت طبيعة الحياة السياسية نحو الافضل والأرقى.

نعود الى السؤال هل كان بالإمكان ان تكون ثورة ١٧_٣٠ تموز، ثورة قطرية، فحسب؟

نقول إن الموقع الجغرافي للعراق، وعمقه الحضاري والتاريخي، وما جبلت عليه الشخصية العراقية من صفات ومزايا، تتطلع دائما نحو الأمة، وقضاياها المصيرية، وتمد اليد القوية والبيضاء لكل ما يمت للعروبة بصلة، وتنتخي لتهب دفاعا عن أي شبر من الأرض العربية، رافق هذا كله قيادة البعث للثورة، وما خطته على أرض الواقع، لا يمكن إلا أن تكون الثورة قومية الاهداف، تهدف لتحقيق تطلعات الامة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية، من خلال السعي لبناء قاعدة محررة للأمة. تقدم نموذجاً قومياً يحتذى به..

 

 

 






الاثنين ٢٩ ذو الحجــة ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٧ / تمــوز / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. نضال عبد المجيد نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة