شبكة ذي قار
عـاجـل










عقدان من الغربة

محمد عبد المحسن الخفاجي

 

وأنا أطالع تاريخ هذا اليوم استوقفني التاريخ وعاد بي إلى الوراء.

التاسع والعشرون من أيار.. إنه يعني مضي عقدين من الزمن على مغادرة الوطن!

قبل عشرين عاماً.. في مثل هذا اليوم من العام ٢٠٠٣ غادرت، على الكراهة، كما قال الجواهري، بغداد العمر والأمل. في صباح ذلك اليوم راحت السيارة تدرج بي صوب عمّان، إذ لم يكن السفر جواً متاحاً، وفي الطريق كانت الأفكار تتزاحم، واحتمالات الغد تتراءى وتلوح وترسم صوراً متعددة لمستقبل يبدو غائماً.

عند الحدود كانت المفارقة أنني اجتزت أرض الوطن دون ختم جواز السفر بختم المغادرة، إذ كان مكتب الجوازات العراقي فارغاً، ولم يكن هناك سوى عسكري قام بتفتيش السيارة؛ وعند نقطة الحدود الأردنية أخذ الموظف جواز السفر وغاب دقائق ثم عاد ليسلّمني وصل استلام ويبلغني بمراجعة الجهة الأمنية لغرض المقابلة بعد ثلاثة أيام سائلاً عن المدة التي أزمع قضاءها في البلد فأخبرته أنني قادم بقصد المرور وصولاً إلى وجهتي النهائية.

بعد ثلاثة أيام من الانتظار القلِق، ومقابلة تعدّد فيها السين والجيم، استعدت جواز السفر، ومكثت شهراً ونصف الشهر حتى اكتملت إجراءات سفري إلى مقصدي.

حين بلغت وجهتي والتحقت بالعمل بدأت رحلة متاعب جديدة لتأمين التحاق العائلة بي وتهيئة السكن وتوفير مستلزمات الاستقرار، حيث لم يكن الحصول على الموافقة اللازمة للإقامة يسيراً.

رغم الذهول مما جرى للوطن كان هناك قدر من الأمل والتفاؤل يخيّل لي معه أنني عائد إلى العراق بعد زمن لن يطول.. سنة أو سنتين بعد أن يعود الهدوء وتعود الحياة إلى إيقاعها الطبيعي، لكن، مع تتابع الشهور والسنين اكتشفت أنني أبعد ما أكون عن القدرة على قراءة المستقبل وتحليل الظروف والتنبؤ بالقادم من الأحداث، فبدأ شريط الأحداث السوداء يدور.. تطاحن وصراع فئوي بين السياسيين لم يلبث أن امتد إلى عموم المجتمع، ودماء تسيل، وفساد ونهب، ومشاكل وأزمات وظواهر اجتماعية تنوعت في خطورتها وطبيعة فتكها وتخريبها لمجتمع صارت الفوضى صفته الملازمة، حتى أصبح مجرد التفكير في العيش في الوطن من جديد ضرباً من التضحية والإقدام على خطوة غير محسوبة العواقب.

هكذا مضت السنوات العشرون وانتقلت من مهجر إلى مهجر ثانٍ وأنا غير مصدّق أنّي قضيتها بعيداً عن الأهل وربوع النشأة والذكريات.

رغم سنوات طويلة مضت ظلت أحلام اليقظة والمنام تسافر إلى هناك حيث وطن لم يكن يدور في خلدي أنّي سأهجره أو يهجرني. ورغم قطار العمر الذي يتسارع ويجتاز محطات الزمن فإن حلم معانقة الوطن من جديد يظل يراود النفس ويحيي الأمل بأن يعود إليه شيء من الألق الذي كان.






الثلاثاء ١٠ ذو القعــدة ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٣٠ / أيــار / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب محمد عبد المحسن الخفاجي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة