شبكة ذي قار
عـاجـل










قانون الحكم الذاتي، هدية الثورة لشعبنا الكردي

د. نضال عبد المجيد

 

يحتفل العراقيون وأبناء الأمة العربية المجيدة في هذه الأيام المباركة، بالذكرى الرابعة والخمسين لثورة 17تموز القومية الاشتراكية، تلك الثورة المعطاءة التي فجرها حزب البعث العربي الاشتراكي، والتي استلهمت مبادئه وأفكاره النيرة، ونقلتها إلى ساحة التطبيق، لتشهد أرض العراق ، إنجازات تاريخية ستظل إلى الأبد، وبرغم كل حملات  التشويه والتآمر والتي توجت بالاحتلال الغاشم في 9 نيسان 2003، شاغلة تاريخ العراق العظيم بأحرف من نور، وإن الخيرين من العراقيين والعرب الشرفاء سيذكرون بمداد من  الفخر والاعتزاز هذه الثورة المجيدة، وإنجازاتها الخلاقة، التي أحدثت  تغييراً جذرياً وشاملاً في المجتمع العراقي وواقع الإنسان فيه، فقد أممت النفط، وحققت الاستقلال السياسي والاقتصادي، وأحدثت تنمية في شتى جوانب الحياة.  والحديث عن السفر الخالد لمكتسبات هذه الثورة وإنجازاتها الخلاقة لا يتوقف.

 وفي أريج هذه الذكرى العطرة نستذكر واحداً من أهم إنجازات ومكتسبات هذه الثورة العملاقة، ألا وهو إقرار الحكم الذاتي للمنطقة التي غالبية سكانها من العراقيين الأكراد.

 فقد عانت هذه المنطقة من صراع دموي طويل الأمد، انعكس على طبيعة الإنسان فيها، مثلما أثر هذا الصراع على مستوى الخدمات المقدمة للمواطن فيها.

 انطلقت نظرة الثورة في معالجة هذه المسألة وإيجاد الحلول الناجعة لها، إلى مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي، ومقررات مؤتمراته القومية والقطرية، فقد تضمنت هذه الأدبيات نصوصاً عديدة، تؤكد على النظرة الإنسانية للأقليات القومية في الوطن العربي، وأن هذه الأقليات تعاني شأنها  شأن أشقائها العرب  من الاستعمار والاستغلال والاضطهاد، وأن البعث في نضاله  لتحقيق الوحدة والحرية والاشتراكية، يستهدف تحرر وتقدم الإنسان في الوطن العربي مهما كانت قوميته، وأن الصفة "العربية" في البعث، ليست صفة عرقية، فالعروبة في ثوبها الإنساني تستوعب كل القوميات التي تقيم على أرض الوطن العربي،  والتي شاركت أشقاءها العرب السراء والضراء طيلة قرون عديدة كما وتشاركهم الاهداف والمستقبل الواحد.

 وأولى محاولات حل هذه المسألة، جاءت بعد أسابيع قليلة من قيام ثورة الثامن من شباط 1963، والتي فجرها حزب البعث العربي الاشتراكي، فقد ورد في البيان الصادر عن المجلس الوطني لقيادة الثورة في 17 آذار 1963 "أنه يقر الحقوق القومية للشعب الكردي على أساس اللامركزية ..."، إلا أن قصر مدة الثورة، والمشاكل والصعوبات الجمة التي واجهتها، وحدوث ردة 18 تشرين الثاني 1963، حال دون استكمال الجهود التي كانت تسير في خطوات عملية بهذا الاتجاه.

 

ولما قامت ثورة 17تموز المجيدة، وضعت نصب أعينها، إيجاد الحل الجذري لمعاناة الشعب في شمال الوطن.

 فقد جاء في مقررات المؤتمر القطري السابع المنعقد في أيلول 1968 "إن الحقوق القومية للأكراد هي حقوق ديمقراطية في جوهرها، ومن مواضيعها الرئيسية إحياء التراث الثقافي واللغة والتقاليد وممارسة الإدارة الحرة"، وهكذا شرعت الثورة في تمهيد الأرضية اللازمة لإقامة الحكم الذاتي في شمال العراق.

 ومن الجدير بالذكر أن بعض مطالبات الاخوة الكرد كانت محدودة واغلبها تتسم بالطابع الاقتصادي او المرحلي او المساهمة السياسية المحدودة، إلا أن أفق الثورة ورؤيتها الاستراتيجية، لحل المسألة الكردية، كان أكبر بكثير من طموحات بعض القيادات الكردية آنذاك، حيث جسدت رؤية القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي وما عبرت عنه بقانون وهياكل الحكم الذاتي الذي تم انجازه آفاقاً أعمق وأكثر جذرية وشمولاً.

 وبدأت المفاوضات مع القيادات الكردية، وشهدت المنطقة زيارات مكوكية وحثيثة للرفاق في قيادة قطر العراق والتي توجت بإعلان بيان 11 آذار 1970، والذي نص على منح الحكم الذاتي للمنطقة الكردية في شمال العراق، بعد أربع سنوات ففتح بذلك صفحة جديدة ومشرقة من تاريخ العراق المعاصر.

 وشهدت هذه السنوات الأربع سلسلة من القرارات، والإنجازات، فمن احلال السلام في ربوع شمال الوطن الغالي إلى الشروع ببناء البنى التحتية لإحداث النهضة التنموية والعمرانية وإيصال الخدمات الأساسية كشق الطرق وايصال الطاقة الكهربائية، اضافة إلى المشاركة الفاعلة في كافة مؤسسات الدولة وقياداتها ، والمشاركة في الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، إلى رفع المستوى المعاشي للسكان وازدهار الاقتصاد والسياحة، إلى استحداث محافظة دهوك، و انشاء دار الثقافة الكردية، و إقامة محطة تلفزيون وقناة إذاعية باللغة الكردية، إلى انشاء جامعة السليمانية وفتح المدارس، إلى جعل الدراسة باللغة الكردية، وتدريسها في كافة مدارس العراق إلى جنب اللغة العربية إلى غيرها من المنجزات التي لا مجال لحصرها في مقال قصير.

 وإيفاء بالعهد الذي قطعته الثورة، بمنح الحكم الذاتي بعد أربع سنوات من بيان 11 آذار 1970، واستناداً لمقررات المؤتمر القطري الثامن للحزب المنعقد للفترة من8-12 كانون ثاني 1974، فقد صدر القانون رقم 33 لسنة 1974 قانون الحكم الذاتي لمنطقة كردستان.

 وفي خلفية هذا القانون، نصت المادة من دستور 16تموز 1970 المؤقت على أن "يتكون الشعب العراقي من قوميتين رئيسيتين هما القومية العربية والقومية الكردية، ويقر هذا الدستور حقوق الشعب الكردي، والحقوق المشروعة للأقليات كافة ضمن الوحدة العراقية "وعدل الدستور المؤقت في 21 أذار 1974 بإضافة فقرة جديدة (ج) إلى المادة الثامنة تنص على أن "تتمتع المنطقة التي غالبية سكانها من الأكراد بالحكم الذاتي وفقاً لما يحدده القانون".

 ويمكن القول إن الحكم الذاتي يمثل الدرجة القصوى للامركزية، وفي أغلب الأحيان، إن لم يكن دائماً، فإن الحكم الذاتي هو الحل المفضل لمناطق لها خصوصية قومية أو لغوية أو الاثنين معاً. فالمسألة القومية ليست ببعيدة عن هذا التصور لممارسة السلطة السياسية في هذه المناطق ذات الخصوصية العرقية أو اللغوية. والحكم الذاتي وإن تم في إطار اللامركزية، وبالتالي في إطار الدولة الواحدة (ولا نقول الموحدة) فإنه يمثل درجة متقدمة من إدارة الشؤون المحلية لمثل هذه المناطق (الشاوي، النظرية العامة، ص 118 – 119).

 وعودة للقانون رقم 33 لسنه 1974 قانون الحكم الذاتي لمنطقة كردستان، نقول إن طريقة تحضير هذا القانون دلت على الأهمية السياسية له، فبعد أن استغرق تحضير مشروع القانون مدة طويلة، عرض المشروع على جماهير الشعب العراقي بعربه وأكراده وأقلياته، فعقدت في أيلول 1973 عدة ندوات لمناقشة مسودة مشروع قانون الحكم الذاتي لمنطقة كردستان، أسهمت فيها الشخصيات الوطنية، والقوى التقدمية، وممثلو المنظمات الشعبية والمهنية، ثم عرض بعد ذلك على الشخصيات الممثلة للأقليات، وكرست ندوة خاصة للشخصيات الكردية لمناقشته، وبعد أن أخذ بالعديد من الآراء والملاحظات، صدر قانون الحكم الذاتي لمنطقة كردستان (الشاوي، فلسفة الحياة، ص 65).

 ينبغي أن نؤكد للتاريخ أن المفاوضات التي أثمرت بيان 11 آذار 1970 والإصرار على منح الحكم الذاتي بوقته المحدد، وأن المناقشات والندوات المشار إليها فيما سبق قد كانت بإشراف مباشر وحضور فاعل للرفاق في القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي من خلال اللجان المتخصصة المشكلة واهمها لجنة شؤون الشمال.

 وبرغم بعض المحاولات لتأخير إصدار القانون، تحت حجج وذرائع واهية، فإن إصرار القيادة السياسية لحزب البعث العربي الاشتراكي على إصدار القانون في وقته المحدد.

شهدت المنطقة بعد ذلك حملة إعمار واسعة، عوضت عن سنوات الصراع، وهيمنة القوى الانفصالية المرتبطة بالأجنبي، على أبناء شعبنا الكردي، فأجريت انتخابات المجلس التشريعي لمنطقة كردستان للحكم الذاتي. كما أصدرت القيادة العديد من القرارات، لإعادة بناء المنطقة وتأهيل بنيتها التحتية والخدمية بعدما عانت من جراء الاحتراب والتمرد.

 وعند الحديث عن قانون الحكم الذاتي، لابد من إعطاء نبذة مختصرة عن هذا القانون، وعن هيكليته، فقد نصت الفقرة (أ) من المادة الثانية من قانون الحكم الذاتي على أن "تكون اللغة الكردية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية في المنطقة" وبالتالي "تكون اللغة الكردية لغة التعليم للأكراد في المنطقة" (المادة 2، فقرة ب).

 ولكي تتمكن هيئات الحكم الذاتي من ممارسة اختصاصاتها فقد نصت المادة الخامسة من القانون على أن" المنطقة وحدة مالية مستقلة ضمن وحدة مالية الدولة"، وحددت المادة السادسة (فقره أ) على أن " للمنطقة ميزانية خاصة ضمن الميزانية الموحدة للدولة ".

 وأقر القانون هيئات الحكم الذاتي التي تمارس السلطة المحلية وفقا لما حدده القانون، وهذه الهيئات هي المجلس التشريعي والمجلس التنفيذي. والمجلس التشريعي، هو الهيئة التشريعية في المنطقة (المادة 10) ويتكون من ثمانين عضواً بطريق الاقتراع الحر المباشر، وينتخب المجلس بطريق الاقتراع السري رئيساً ونائباً للرئيس وأميناً للسر من بين أعضائه.  وأهم اختصاصاته هي اتخاذ القرارات التشريعية اللازمة لتطوير المنطقة والنهوض بمرافقها الاجتماعية والثقافية والعمرانية والاقتصادية ذات الطابع المحلي في حدود السياسة العامة للدولة، واتخاذ القرارات التشريعية التي تتعلق بتطوير الثقافة والخصائص والتقاليد للمواطنين في المنطقة. وله مناقشة ومساءلة أعضاء المجلس التنفيذي في الشؤون التي تدخل في اختصاصاتهم، وطرح الثقة بالمجلس أو بواحد أو أكثر من أعضائه. وهذا يدل على أن المجلس التشريعي عبارة عن مجلس نواب خاص بالمنطقة، يمارس صلاحيته ضمن الدستور والقانون.

 أما المجلس التنفيذي، فهو الهيئة التنفيذية لإدارة الحكم الذاتي في المنطقة، ويتكون من الرئيس ونائبه وعدد من الأعضاء لا يقل عن عشرة ولا يزيد على اثني عشر ويكونوا بدرجة وزير. ويكون رئيس المجلس التنفيذي أحد أعضاء المجلس التشريعي، ويتم اختيار رئيس وأعضاء المجلس التنفيذي من بين أعضاء المجلس التشريعي أو ممن تتوافر فيهم شروط العضوية فيه. وترتبط محافظات المنطقة برئيس المجلس التنفيذي كما يرتبط بالمجلس التنفيذي عدد من الإدارات يتولى مسؤوليتها أعضاء من المجلس التنفيذي، يدعون الأمناء العامين. وأهم الاختصاصات التنفيذية التي يمارسها المجلس هي ضمان تنفيذ القوانين والأنظمة وحفظ النظام العام وتنفيذ موازنة المنطقة، وهكذا فالمجلس عبارة عن حكومة محلية تتولى شؤون المنطقة كافة.

 ومعذرة من القارئ الكريم أني أدخلته بتفاصيل عن قانون الحكم الذاتي الذي صدر قبل 48 عاماً، وذلك لإثبات ان ذلك القانون شكل سابقة حضارية متقدمة في الوطن العربي وفي المنطقة عموما إذ انه كان متطور جدا بمقاييس عصره، ومن المسلم به أن القانون ابن زمنه ومرحلته وهو يتغير ويتماشى مع التغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

 ولو أعدنا قراءته اليوم لتوضحت لنا حكمة القيادة السياسية للثورة التي أنجزت هذا القانون، الذي كان واحداً من المنجزات الكبرى التي حققتها الثورة لأبناء الشعب، والتي لم ترض أعداءه، بل وحتى جيرانه، فالحقوق التي تمتع بها المواطن العراقي الكردي، لم يحصل على عُشرها المواطنون الأكراد في البلدان المجاورة، التي حرمت على الأكراد من مواطنيهم حتى التكلم بلغتهم، ناهيك عن منحهم حقوقاً سياسية خاصة بهم.

 في هذا الصدد يقول الرفيق القائد الشهيد صدام حسين في حواره مع الصحفي فؤاد مطر في عام1980 " أن شعبنا الكردي كان يريد الحكم الذاتي... وما دام الحكم الذاتي يقوي من صلة الوحدة في علاقة الشعب الواحد بين العرب والأكراد، فإن عدم رؤية هذه الحقائق والتصرف على أساسها يجعل المرء يبتعد عن مبدئيته ويجعله لا يقدم خدمة جدية للموقف الثوري" (مطر، ص 99).

 إن قانون الحكم الذاتي لم يكن لمعالجة حالة ظرفية، بل هي في عقل ووجدان الثورة وقائدها حزب البعث العربي الاشتراكي، "أما من الناحية السياسية فقد استطاع البعث أن يجد حلاً سلمياً ومتوازناً لقضية نزوع الأكراد نحو التطور الثقافي والاجتماعي الخاص في إطار الدولة الواحدة من خلال تجربة الحكم الذاتي التي قامت في القطر العراقي والتي هي إحدى الأسس التي يقوم عليها الكيان السياسي للدولة، وأن هذا الحل يصلح لمعالجة كل قضايا القوميات في الوطن العربي" (الموصلي، ص 4).

 فالمعالجة المبدئية التي قامت بها ثورة 17 تموز المجيدة للقضية الكردية، من خلال إصدار قانون الحكم الذاتي، هي المعالجة المستندة لفكر حزب البعث العربي الاشتراكي ونظرته الإنسانية لكافة الأقليات في الوطن العربي والتي تشكل جزء مهم من الأمة العربية. كما أن قيادة ثورة 17 قد منحت حقوقاً ثقافية للتركمان، إذ " أن ما يجمع هذه القوميات المتآخية في العراق ليس النصوص الدستورية أو الاتفاقات الإدارية بل روح المواطنة ووحدة الهدف الذي هو بناء وطن حر مستقل لا أثر للاستغلال فيه" (الموصلي، ص 3).

 تحية لقيادة ثورة 17تموز التي أقرت الحكم الذاتي وأنجزت مؤسساته حتى أصبح واقعاً حياً، فوضعته إلى جانب ما سطرته من إنجازات كبرى، لتسجل به ريادة حضارية وتقدمية وإنسانية على مستوى الأمة العربية والعالم الثالث أجمع.

 

المصادر:

1.    فؤاد مطر، صدام حسين هكذا حالي وأحوال العراق، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2017.

2.    نشرت الحوار وزارة الثقافة والإعلام بكتاب عنوانه البعث والثورة والإنسان، بغداد، 1980.

3.    منذر الشاوي، النظرية العامة في القانون الدستوري، دار ورد للنشر، عمان، 2007.

4.    منذر الشاوي، فلسفة الحياة السياسية، الذاكرة للنشر والتوزيع، بغداد، 2015.

5.    منذر الموصلي، نضال البعث في سبيل حل ديمقراطي للقضية الكردية، منشورات الطليعة، تونس،2002.






الاثنين ١٩ ذو الحجــة ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٨ / تمــوز / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. نضال عبد المجيد نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة