شبكة ذي قار
عـاجـل










البَعْثُ والإسْلَامُ.....

اسْتِلهَامٌ رُّوحِيٌّ وأخْلَاقيٌّ

 

د. محمد رحيم آل ياسين

 


ينطلق البعث في نظرته إلى عوامل تكوين الأمة، من رؤية ومنهج جديد، فهو يرى أنَّ اللغة والتاريخ والدين والعوامل الأخرى التي تُشكِّل مقوّمات الأمة الأساسية، لا يمكن أن تُؤخَذ بشكلٍ منفصلٍ، ومُجرّدٍ عن بُنيَة الأمَّة عبر العصور المختلفة، وخارج استمرارية وحيويَّة الوجود العربي، والشخصية الحضارية للأمة. وفي هذا يقول القائد المؤسِّس رحمه الله في كتابه (في سبيل البعث)، ص180: المهم هو المعنى الذي نستخرجه من كل ذلك في مرحلتنا الحاضرة، مرحلة انبعاث وخلق المستقبل العربي.... فالصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل هي قاعدة الانطلاق في تحديد دور ووظيفة كل عامل من عوامل تشكيل وتكوين الأمة، تحديداً علمياً، وثورياً شاملاً.

والبعث أعطى اللغة العربية دورها البارز، وربط هذا الدور بالمعيار الأساسي لتحديد فعَّالية عوامل تكوين الأمة. وهو معيار حيويَّة واستمراريَّة التطور التاريخي والحضاري للوجود القومي للأمة، وعبَّر عن هذا المفهوم للغة، القائد المؤسس عندما قال: إنَّ القومية العربية هي قومية عربية. (قومية)، بمعنى أنَّ فيها الشروط الابتدائية لكل قومية. و(عربية)، بمعنى فيها التطور الخاص بالأمة، عبر مختلف العصور والحضارات والأزمنة، وكانت اللغة العربية أبرز عنوان له الاستمرار.

 

القوميّة العربية والدين

ومما يجدر ذكره هنا، أنَّه ومنذ بداية الأربعينيات، فإنَّنا نجد في نصوص فكر البعث محاولة لتطبيق هذا المنهج على العلاقة بين القومية العربية والدين، فقد دعا البعث إلى نقل هذه العلاقة من صيغ البحث العام المُجرَّد إلى صيغة البحث الميداني المباشر، حيث يقول المؤسس: لنهجر اللفظ قليلاً، ولنُسَمِّ الأشياء بأسمائها وصفاتها المميَّزة، فنستبدل بالقومية(العروبة)، وبالدين(الإسلام).... في سبيل البعث.

فإذا أخذنا علاقة "العروبة" بالإسلام في ضوء الأمة العربية واستمراريتها، لاحظنا أنَّ هذه العلاقة تكتسب طابعاً خاصاً مميَّزاً. فإذا كان الدين قد دخل على أوروبا من الخارج، ولم ينزل بلغات شعوبها، ولم يُفصح عن حاجات مجتمعاتهم، فإنَّ الإسلام كما يقول المؤسس: هو أجلى مُفصح عن شعوب العرب، ونظرتهم إلى الحياة، وأقوى تعبير عن وحدة شخصيَّتهم التي يندمج فيها اللفظ بالشعور والفكر، والتأمّل بالعمل، والنفس بالقدَر، وهو فوق ذلك كله أروع صورة للغتهم وآدابهم، وأضخم قطعة من تاريخهم القومي.... في سبيل البعث، ص131-132. وبعد ذلك نقول، إذا كانت اللغة العربية قد مثَلت دوراً حاسماً في استمرارية الوجود القومي، وفي الحفاظ على الشخصية القومية، وعلى وحدة تراثها ووجدانها وتطلعاتها، وكانت كما يراها المؤسس (أبرز عنوان) لهذه الاستمرارية، فإنَّ العامل الأقوى حضوراً وبروزاً في التعبير عن روح الأمة ومكانتها وعبقريَّتها، والأعظم دوراً في بعثها حضارياً، وتزويد قوميَّتها برسالة انسانية، قد تجسَّد كل ذلك في الإسلام.

ومن خلال هذه النظرة التحليلية الشاملة، جاء تقيِّيم البعث لمرحلة الجاهلية في مقولة مؤسس البعث، حيث يعتبرها (تمثِّل وسَطاً عربياً صُرفاً، كثُرت فيه التقاليد، والمبالغة بالاستسلام للماضي وللقيَم الموروثة)، فالجاهلية بالنسبة للبعث، هي مرحلة ممهدة لثورة شاملة في حياة العرب، كانت فيه العروبة جسداً، وكان الإسلام روحاً. فالإسلامُ، كان واقعه عربياً، وفي مراميه المثالية انسانيَّاً، فرسالة الإسلام هي خلق انسانية عربية، بمعنى أنَّ الإسلام لم يكن مقصوراً على العرب، ولكنَّ العرب شأن كل أمة عظيمة، عميقة الاتصال بمعاني الكون الأزلية، تنزع إلى القيَم الخالدة الشاملة (حول الرسالة العربية)، في سبيل البعث، ص128. فالعلاقة بين العروبة والإسلام هي علاقة وجود وخلود، أمةٌ ورسالة، ثورةٌ وحضارة، فالإسلام خرج من العروبة ليصبح سماءً لها وللعالم.

انَّ هذا الانقلاب الذي أحدثه الإسلام في حياة العرب وفي أنفسهم، كما يقول المؤسس، قد حكم على الجاهلية حكماً حيَّاً، وكانت تلك مهمته التاريخية، وهذا يعني أنَّ الدين قد أحدث ثورة شاملة في حياة الأمة العربية. على أنَّنا هنا لا نقصد بالجاهلية(العربية) فقط، دون جاهلية(العالم) في القرون الوسطى، الذي كان يعيش في دياجير الظلام والجهل والخرافة.

يتبيَّن لنا مما سبق أنَّ قضية التراث، وعلاقة القومية بالدين، والعروبة بالإسلام، لم تكن مجرَّد قضايا مركزية في فكر البعث حسب، بل أنَّها اتخذت شكل محور أساس، ومنطلق جديد لتحديد الهوية، والتعريف بالنهضة القومية الحديثة. وهذا يتجلَّى بشكل واضح في مقولة القائد المؤسس: إنَّ الفكر القومي بصيغته البعثية، ولد ونشأ في جوِّ الحُبّ للعروبة، والقومية العربية وللإسلام، كأثمن وأغلى ما في العروبة والقومية العربية.... مجلة الإعداد الحزب ي1985م، عدد2، ص7-8.

 

البعث يستلهم روح التراث

لقد كانت رؤية البعث واضحة منذ البداية، بأنَّ طريق الثورة والنضال هو الطريق الذي يسلكه البعث في النهوض بالأمة من واقعها المتردي، والتغلّب على مخلَّفات عصور الانحطاط. وأنَّ التقدم الذي لا يستند إلى التراث الروحي والحضاري للأمة، لا يمكن أن يكون تقدماً صادقاً وناجعاً، لأنَّه يعجز عن ملامسة روح الشعب، وكسب ثقته، وتفعيل طاقاته. فكان على الحزب أن يشقّ لنفسه طريقه الخاصّ الذي يستلهم روح التراث، من خلال الاستيعاب العلمي الواقعي لروح العصر ومتطلبات ثورة الأمة، وانبعاثها، ونهضتها الحديثة. 

يتبيَّن لنا مما تقدَّم، أنَّه تلخيصاً للمنطلق الفكري والمنهج(البعثي) الذي حدَّد النظرة إلى الإسلام وإلى العروبة، وإلى علاقة الماضي القومي بالحاضر، وعلاقة النهضة القومية بروح العصر، وهو المنطلق نفسه الذي رافق مسيرة الفكر البعثي منذ بدايات التأسيس في الأربعينيات، وتالياً فهذا يؤكِّد لنا أنَّ مؤسِّس البعث الذي كان من روَّاد الفكر القومي المعاصر، هو أوَّل من اكتشف وأدرك أهميَّة الإسلام ودوره الثوري، ليس في ماضي الأمة وحسب، بل وفي حاضرها اليوم.

انَّ النظرة إلى القومية وإلى الدين، هي جزء من منظور أعمّ وأشمل في فكر البعث، وهو منظور الانبعاث الحضاري المعاصر للأمة العربية، الذي يمنحه التراث أصالة، ويفتح أمامه كلّ مقوّمات الابداع والتجدد. وفي ضوء هذا المنظور للحياة العربية، ولحاجات النهضة المعاصرة، تتَّخذ تجربة الإسلام معنى الاستعداد الدائم في الأمة العربية، إلى التَجدّد وحمل الرسالة الانسانية، وأنَّ الإسلام في هذه الحقبة التاريخية وإن لم يكن مقصوراً على العرب، هو كما يرى القائد المؤسس: أنْ تُوَجَّه كلّ الجهود لأمة العرب، وأن تُحصَر هذه الجهود في نطاق القومية العربية.... ذكرى الرسول العربي، ص125.

ويبقى المحرِّك الأساسي للعرب في هذه المرحلة من حياتهم، هو(القومية)، وكما استجابوا في الماضي لنداء الدين(الإسلام)، ما استطاعوا أن يحقّقوا الاصلاح الاجتماعي، فإنَّهم يستطيعون تحقيق العدالة الاجتماعية، والمساواة بين المواطنين، وضمان الحرية بين العرب جميعاً نتيجة للإيمان القومي وحده.

 يرى البعث أنَ التناقض الأساسي الأكبر في حياة العرب اليوم، يكمن في التجزئة، والضياع الأكبر هو في الانقطاع بين حاضرهم(المتخلّف) والمتردي، وماضيهم (الحضاري) الراقي، وكذلك في المسافة بين حاضرهم، وحاضر الأمم المتقدمة. لذلك فإنَّ طريق النهضة، يبدأ من الطريق إلى تحديد الصلة الحيَّة بالماضي، والتغلب على تحديات النهضة، وبناء المستقبل الحضاري الجديد للأمة. من هنا فقد ربط البعث القومية والدين بمنطق الحياة العربية المنبعثة من جديد، وفي ضوء نظرة جديدة إلى حياة الأمة، قوامها: الإيمان بالقيَم الروحية الانسانية، وبقيمة الروح العربية الأصيلة، كما جاء في (العرب بين ماضيهم ومستقبلهم) في سبيل البعث، ص164.

فالدين والثورة حقيقتان متكاملتان حسب هذه النظرة التي يراها البعث، وإذا كانت الثورات الروحية في الماضي، هي ثورات مطلقة قادها الرُسُل والأنبياء، وكانت ثورات دينية، فإنَّ الثورات المعاصرة، هي ثورات نسبية، لذلك فإنَّ ما في الإسلام من ثورة على الواقع العربي، ومن تعبير انساني عن روح الأمة، يُمثَّل في عصرنا بـ(القومية العربية). وفي هذا يقول المؤسس: إنَّ قوة الإسلام قد بُعثَت وظهرت بمظهر جديد هو القومية العربية، فالقومية العربية هي إذن، الاستلهام الحيّ الثوري والحضاري لتجربة الإسلام، والبعث لروحه، والتجسيد المعاصر لقيَمه، من خلال النضال الذي يُعبِّر عن المعاني المُتَجدِّدة للرسالة العربية......كما جاء في المصدر السابق، ص130. وهكذا جاء التعامل مع المسألة القومية، والمسألة الدينية، وفق منهج علمي ثوري حضاري، وهو بالتالي يقود إلى تحديد المعاني الراهنة للرسالة العربية الخالدة (فالرسالة العربية اليوم، هي أن يتطلَّع العرب إلى بعث أمتهم).

 

رسالة الأمة الإنسانية

وفي ضوء هذه النظرة الشمولية للبعث، والتي تعطي الرسالة العربية معنى فهم الحاضر العربي، وتلبية نداء الثورة الشاملة في المجتمع العربي، والاستجابة لضرورات المرحلة التاريخية التي تعيشها الأمة العربية، وفي ضوء ذلك يطرح البعث نظرته إلى مهمات المرحلة التاريخية الراهنة، ومعنى الرسالة الخالدة، حيث يرى أنَّ الدين قد أفصح في الماضي عن الرسالة العربية التي تقوم على مبادئ إنسانية، وهي رسالة تتجدَّد وتتكامل مع الحياة باستمرار، فالأمة الحيَّة هي التي تخدم ماضيها بتفعيلها له، واستخدامها إيَّاه، لا باستسلامها له، والأمة الحيَّة أيضاً تنمو وتتكامل ويكون ماضيها مهما ارتفع وسما، هو دون حاضرها، ويكون مستقبلها أمامها، لا أن يكون وراءها!. ففكرة الرسالة تقود حتماً إلى تكوين نظرة إلى الماضي وعلاقته بالحاضر والمستقبل. وعلى هذا الأساس وجدنا الرفيق القائد المؤسس يؤكِّد على الربط بين الوحدة العربية، والرسالة الحضارية الإنسانية، وعلاقة التكامل بين القومية والدين، بالرغم من استقلالية كليهما في المجالات التي تخصّ كل منهما. فحول علاقة الدين بالدولة، وبالسياسة، يقول المؤسس: ما دام الدين منبعاً فيَّاضاً للروح، فالعلمانية التي نطلبها للدولة، هي بتحريرها الدين من ظروف السياسة، وملابساتها، بحيث تسمح له أن ينطلق في مجاله الحُرّ في حياة الأفراد والمجتمع، وبأن تبعث في روحه العميقة الأصيلة، التي هي شرط من شروط بعث الأمة، كما جاء في سبيل البعث، ص167. من هنا لابدّ من وضع مسألة العلاقة بين الدين والدولة ضمن مجالها الأوسع، وهو (علاقة الأمة بماضيها وموقفها من مستقبلها).

على أنَّنا ينبغي أن نعلم بأنَّ مفهوم البعث للعلمانية، يختلف كليَّاً عن الفهم الغربي للعلمانيَّة، ومع بعض المفاهيم في الوطن العربي، تحت تأثير النظرة الغربية. لأنَّ مفهوم البعث قد جاء ضمن إطار تصور حركي وجدلي، يقوم على تفاعل مستمر بين حاضرنا المتخلّف، وبين ماضينا الأصيل والعريق، الغني بمفردات الحياة الراقية، وبين المستقبل المنشود الذي نرجوه، ونتطلع اليه.

وفي ضوء هذا الفهم النابع من اعتبار الدين، تعبيراً صادقاً عن انسانية الفرد، وأنَّ الدين هو في صميم القومية العربية، والمواطن العربي، الذي يعمل حزبنا المناضل على تكوينه تكويناً أصيلاً وفاعلاً، وكذلك من اعتبار أنَّ الإلحاد يشكِّل موقفاً زائفاً ومُباهِتاً في الحياة، وأنَّ القومية العربية ليست مجرَّد انتماء شكلي، بل هي عملٌ يتوازى مع الثورة العربية، وعقيدة تؤمن بأنَّ تراث الأمة العظيم لا يمكن فهمه إلَّا بالنضال. ويظهر ذلك المعنى من خلال تأكيد المؤسس: بأنَّ ظهور الإسلام يُشكِّل في حياتنا القومية (حادثاً قوميَّاً وانسانيَّاً وعالميَّاً خطيراً، حادثاً ثورياً، وحركة ثورية، وأنَّ الإسلام لا يفهمه حقّ الفهم، إلَّا الثوريون) البعث والتراث، ص204.

انَّ موقع الإسلام في حياتنا اليومية، هو موقع الدافع المُحرِّك للثورة الشاملة، فهو دينٌ وثورةٌ، وهو يمثِّل مكانة خاصة في حركة القومية العربية، التي تتوجَّه إلى كلّ العرب، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، والتي تُقدِّس حريَّة الاعتقاد، وتنظر إلى الأديان نظرة مساواة في التقديس والاحترام. فالإسلام من حيث هو دين صُرف، مساوٍ لغيره من الأديان في الدولة العربية المُؤمَّلة، التي نتطلع اليها، دولة الوحدة والحرية والاشتراكية، التي تُساوي بين جميع مواطنيها، وتحترم حريَّة معتقداتهم. أمَّا من حيث المكانة الخاصة للإسلام في القومية العربية، فإنَّ هذه المكانة لا تُفرَض فرضاً، بل تولد من الحرية، وبهذا المعنى نستلهم البعث من الإسلام، تَجدّده وثورته، والفضائل النضالية والخُلُقية التي تنقذ العرب في هذه المرحلة من ضعفهم وتفرّقهم، وانخفاض مستواهم الروحي والاجتماعي، المصدر السابق، ص164.

 

الخلاصة

  نخلص مما سبق، أنَّ البعث يعتبر القومية العربية مرادفة لوجود الأمة العربية، فهي أي القومية قديمة وخالدة خلود الأمة، وهي وجودٌ قديمٌ وفكرةٌ متجدّدةٌ. كما يُشدِّد البعث على أهميَّة اللغة كعامل أساسي في تكوين الأمة، وأنَّ الإسلام روح القومية العربية، كما يؤكّد البعث على أنَّ اكتشاف حقيقة الأمة كان من خلال الإسلام، فالإسلام ثورةٌ كليَّةٌ مطلقةٌ، وهو يكشف عن استعداد دائم ومُتَجدِّد في الأمة لحمل رسالتها الانسانية. وأنَّ النظرة العلمانية تتَّخذ لدى البعث معنى تحديد موقف تتكامل فيه العلاقة بين الدين والدولة، يقوم على مبدأ الاستقلالية مع التشديد على وحدة المنبع والهدف، فالقومية والدين هما تعبيران متكاملان عن البُعد الروحي لحياة الأمة العربية.


 






الاثنين ٩ رمضــان ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١١ / نيســان / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. محمد رحيم آل ياسين نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة