شبكة ذي قار
عـاجـل










أجيال متعاقبة مرَّت على لبنان، وقرون أطول مرَّت على الأمة العربية، كان الشعب ينهل من ينابيع ثقافة ضعيفة الأسس والأركان.ثقافة كانت السبب في إنتاج أنظمة سياسية متخلفة، تفكر في مصالحها، والتي اعتبرت الشعب موظفاً لخدمتها.وعلى الرغم من أن الشعب كان يعاني من تلك الأنظمة الشيء الكثير، ظلَّ صامتاً عن المطالبة بحقوقه بفعل اعتقاده بطاعة أولي الأمر كما حثَّت عليه ثقافة تدّعي الوهية رجال الدين المغلقة تلك.فاستناداً إلى ذلك،لم يعتبر الشعب أن له حقوقاً على حاكميه، وأن على حاكميه واجبات عليهم أن يقوموا بها تجاه الشعب المحكوم.

بعد العام ٢٠٠٣، فرض الاحتلال الأميركي على العراق دستوراً طائفياً مشابهاً للدستور اللبناني.وكان من بين الاهداف الغير معلنة لذلك هو تفادي حقيقة غياب اية قاعدة جماهيرية للاحزاب التي أتى بها الاحتلال الامريكي الى العراق ( وكما اعترفوا هم به لاحقاً ) ، لذا فقد عمد الى الاستناد الى المعتقدات الطائفية والعرقية والاثنية كبديل لخلق قاعدة جماهيرية يسود من خلالها ، فبدأ باشاعة انماط من الثقافة التي تكرس كل ذلك كبديل مفتعل للهوية الوطنية الجامعة.

ونتيجة لذلك عانت أكثرية الشعب العراقي من ثقافة ضعيفة الأسس والأركان، استباحت فيها السلطات المركبة على مقاييس التحالفات الحاكمة كل الحقوق الشعبية.وعلى الرغم من ذلك، استكانت شرائح واسعة من الجماهير العراقية للأمر الواقع ولم تتطالب بحقوقها، نتيجة اعتقادها بصحة فتاوى رجال الدين التي ارتبطت بكل ذلك وكرّسته.

ولأن بنية تلك الثقافة الشعبية التقليدية المغلقة في القطرين تستند إلى قيم ومسلّمات بثَّها تحالف رجال الدين مع الطبقة السياسية اساسها تكريس سلطتهم ، فقد لعبت ثقافة "الوهية" رجال الدين المغلقة هذه ، دوراً سلبياً في استسلام قطاع واسع من تلك الجماهير لمشيئتهم وعظاتهم وفتاواهم؛ فسكتوا عن مظالم الأنظمة السياسية.فكان السبب في نتائج ما هو موجود الآن، ثقافة شعبية تسهم بانتشار قواعد الخضوع والتسليم الشعبي للفتاوى ، وبالتالي لأوامر وقرارات الطبقات الحاكمة.فما هو تعريفنا لتلك الثقافة؟

حماية رجال الدين للسلطات السياسية :
عرف تاريخ البشرية الطويل تحالفاً وثيقاً بين رجل السياسة ورجل الدين.كان رجال الدين فيها يلعبون دور الوسيط بين الحاكم والمحكوم، وقلَّما ظهر من بين المؤسسات الدينية داعية يحثُّ الشعب على المطالبة بحقوقه، بل حثِّهم على طاعة الحاكم.وبدورهم، كان رجال السياسة يتقربون من رجال الدين ويقدمون لهم الامتيازات ليسهل عليهم توظيفهم لإصدار الفتاوى التي تصب في مصالحهم السياسية والاقتصادية.

تأثير رجال الدين في خضوع الشعب لسلطة الحاكم :
بدأنا بوصف أسباب العلة في الثقافة المغلقة، التي عممتها بعض المؤسسات الدينية، وألزمت بها مقلَّديها، وتخويفهم من مخالفة ما يزعمون أنها شرائع إلهية لأنها تؤثِّر سلباً على مصير أنفسهم بعد الموت، لتساعدنا على تفسير أسباب انتشار تلك الثقافة، وعمق تأثيرها السلبي على التغيير في المجتمعات.كما تساعدنا بشكل خاص على تفسير ما يجري في العراق ولبنان في هذه المرحلة بالذات.فعلى العكس من المبادئ السامية للدين والايمان الحقيقي ، ساهم الكثير من رجال الدين بدور كبير في تثبيت ثقافة رسخت الجمود والرضوخ في أذهان الناس، معتبرين أنه لا يحق لغيرهم بأن يفتوا بها ويجتهدوا.فجمَّدوا الثقافة الدينية ( رغم ان جوهر الدين ليس كذلك ) ، لتصبح مغلقة بهدف ان تبقى لهم السلطة المؤثرة على الشعب مستغلين ان المعتقدات الدينية هي مسألة مقدسة.فاستغلَّ رجال الدين هؤلاء تلك المشاعر ليصوروا أنفسهم أنهم الأكثر حرصاً على مصالح عامة البشر.

ومنذ قرون طويلة، كانت الأسس المعرفية، التي تنبنى عليها الثقافة الشعبية الراهنة، تقوم على أساس تقديس فتاوى رجال الدين.وعلى أن المؤسسات الدينية بعيدة عن الوقوع في الخطأ.وإذا نظرنا إلى المجتمع العربي، ، لوجدنا شرائح واسعة ممن ينظرون إلى رجال الدين بعين القداسة لكونهم، كما يزعم رجال الدين انفسهم انهم يمثلون الله تعالى على الأرض.

سمات الثقافة الشعبية المغلقة، ومصادر تأثيرها :
تتميز هذه الثقافة الدينية لدى قطاع واسع في العراق بعد الاحتلال الامريكي في العام ٢٠٠٣، بشكل خاص، وكذلك في لبنان منذ عشرات السنين، بالسمات التالية :

• أنها معرفة تسليمية : تتوقَّف على مدى إيمان الشخص وتسليمه لرجال الدين بأنهم وحدهم من يستطيع معرفة القضايا الروحية غير المنظورة.

• وهي معرفة تواكلية : لأن السلوك الفعلي لأعداد كبيرة من الناس، ينطوي على تشويه الإيمان بالمكتوب والمحتوم، معتقدين أن أية محاولة لتدخُّل الإنسان في تحديد مصيره ، بمعزل عن المؤسسات الدينية القائمة، انما هي خروج على المشيئة الإلهية.

• وهي معرفة تقليدية : لأنه تمَّ احتكار المعرفة من قبل تلك المؤسسات الدينية المتنفذة، وما على التابعين لهذه المؤسسة أو تلك سوى تقليدهم.وعلى الرغم من أنهم يزعمون بإعطاء دور لمنهج ( الاجتهاد ) ، أي بمعنى أنهم يجددون في أسس المعرفة، الّا انه في الواقع يُحرَّم غالباً مناقشتهم والشك بهم، وبذلك أصبح تقليدهم علامة بارزة في هذه الثقافة المغلقة.

إن مبادئ المعرفة الدينية التقليدية تلك ، اي التسليم والتقليد والتواكلية، أدَّت إلى تجميد قدرة العقل البشري، وبالتالي إلى تجميد الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وترديها بشكل مروع.وبمثل تلك السمات، استطاع تحالف السلطة، ومنهم طبقة الأغنياء، والمؤسسات الدينية أن يحوِّلوا أوسع الجماهير الشعبية للانقياد والإذعان لأوامر هذا التحالف ونواهيه.فاستكانت تلك الجماهير، وغابت ظواهر الاحتجاج والنقد والمطالبة بالحقوق المشروعة، تحت مزاعم ما يكرسه رجال الدين هؤلاء في أن هذا ما كتبه الله تعالى على عباده.وكل من يحتجّ على ذلك، فكأنه يخالف أوامر الله ونواهيه.

وهذا ما نستطيع أن نعلِّل به استسلام الأجيال السابقة، حتى هذه اللحظة، في بعض اقطار الوطن العربي بشكل عام، وفي العراق ولبنان بشكل خاص.ولكن حصل ما كان يعتبره البعض مستحيلاً، وجاءت المفاجأة في ثورة الأول من تشرين في العراق، والسابع عشر منه في لبنان.

وإنه على الرغم من أن حركة التحديث الثقافي كانت تتوقع تغييراً ما يحدث في اختراق أسس هذا الواقع في الثقافة الشعبية المغلقة، جاءت اللحظة التاريخية في كل من العراق ولبنان، وانفتحت الأبواب أمامها بشكل أذهل حتى الذين كانوا ينتظرونها.

حركة التغيير والثورة تعود إلى الدوران في العام ٢٠١٩ :
مما تقدم، وبإيجاز، كان الهدف من تعميم الأنظمة الطائفية السياسية، هو نشر ثقافة التسليم والتقليد والتواكلية وتعميقها بين صفوف الشعب، لأنها كما ذكرنا سابقاً أقصر الطرق إلى خلق قواعد اجتماعية لاحزاب جديدة لا قواعد لها ، وكذلك اقصر الطرق الى التجهيل الثقافي.كما أنها أقصر الطرق لتفتيت المجتمع العربي وهي أيضاً تمنع الثورة على الحاكم حتى ولو كان فاسداً.

وإذا كانت موجة الانتفاضات التي حصلت في بعض الأقطار العربية، منذ العام ٢٠١١، قد اختُرِقت من قبل تيارات الإسلام السياسي في سعيها لنشر ثقافة تفتيت النسيج الاجتماعي العربي، ونشر الصراعات المذهبية، فقد بدأت موجة أخرى من الربيع العربي منذ العام ٢٠١٩، تمتاز بالوعي والدخول في مرحلة التوحيد كرد على مرحلة التفتيت.فما هي تلك الظاهرة؟

ظاهرتا العراق ولبنان بداية الخروج من الانسداد الثقافي :
وإذا كنا نركز على ظاهرتي العراق ولبنان، فهذا لا يعني أن ظاهرتي السودان والجزائر غير مشمولتين بالمرحلة الجديدة، بل لأن البلدين، العراق ولبنان، يعانيان من مشروع تصدير ما يزعمون أنه ( الثورة الإسلامية في إيران ) ، وبناء نظام ( ولاية الفقيه ).وخاصة ما رافقه من إسباغ الهالة القدسية التي أحاطت مرجعيته الدينية نفسها به.وهذا يعني تعميق ثقافة اللاهوت الأكثر تخلفاً.والأخطر منها أن يتم تعميمها في بناء أنظمة سياسية تنسب لنفسها القداسة مما افضى الى بناء أنظمة أشد ديكتاتورية من مثيلاتها المدنية.

لقد أسست ثورة السودان، وانتفاضة الجزائر المرحلة الأولى للانتصارات بعد سلسلة من الانكسارات التي ارتكبتها انتفاضات ما زُعم أنها ( ثورات الربيع العربي ).فجاءت ثورة العراق وانتفاضة لبنان، لتعمل على تعميق المرحلة الجديدة لأنها تزرع بذور ثورة ثقافية تلحق الهزيمة بثقافة اللاهوت المتخلِّفة.ولهذا السبب قمنا بتخصيص العراق ولبنان، في هذا المقال، لما يجمعهما من خصائص تصب في هدف ما أردنا الوصول إليه في مقالنا هذا.

ما نود إبرازه في هذا المقال، أيضاً، هو أن الظاهرتين معاً أخذتا تشقان طريق التغيير الجذري بجدية وزخم وثورية لافتة.فقد جمعتا مساري التغيير الثقافي والتغيير السياسي والاقتصادي، للبدء في تهديم جدران أنظمة الطائفية السياسية.وهو بداية النهاية لتهديم تحالف المؤسسات الدينية مع طبقة السلطة السياسية والاقتصادية، الذي استغلَّ عرق الجماهير المقهورة وجهدهم وحريتهم واستعبدهم لمئات من السنين شارفت على الانقراض.

لقد كان سكوت قطاع واسع من الجماهير الشعبية، في كل من القطرين، عن المطالبة بحقوقها المشروعة، محكوماً بتأثير فتاوى رجال الدين التي كانت تحمي السياسيين بحجج ( حماية الطائفة، أو حماية المذهب ).وتلك سمات شكلت السبب في استمرارية النظامين المذكورين.

كان الهدف أكثر وضوحاً على الساحة العراقية، وأكثر حدَّة ضد طرفيْ التحالف لأن دور رجال الدين المبارِكين للنظام الذي اتى به المحتل الاجنبي كان أكثر سوءاً من دور رجال السياسة لأنهم كانوا يعمقون ثقافة التسليم والتواكل والتقليد عند أوسع قطاع من الجماهير الشعبية، في الوقت الذي كانت سرقاتهم ومفاسدهم أكثر إيلاماً مما فعله السياسيون.

فقبل ثورة الشباب في العراق، وطوال مرحلة الاحتلالين الأميركي والإيراني، كان رجال الدين هؤلاء هم الممسكين بزمام الأمور.ولم يعقدوا تحالفاً مع الشرائح السياسية بشكل تقليدي بل كانوا هم الرأس المدبر في كل ما حصل من كوارث، بدءاً من التحالف مع الاحتلال ، وانتهاءاً بتأسيس منظومات الفساد.فكانوا هم القائد والموجِّه، بينما كانت الاحزاب السياسية تستمد القوة من المؤسسات الدينية التي هادنت الاحتلال وتخضع لتأثيرها، وتستفيد من الفتاوى العجيبة الغريبة التي كانوا يبررون بها رعاية تلك المنظومات.

وأما في لبنان، فكان تحالف المؤسسات الدينية والمؤسسات السياسية الطائفية، يمثل الرأس فيه الرموز السياسية، ويتخذون من المؤسسات الدينية غطاءاً لمفاسدهم وجرائمهم.ففي لبنان قلَّما عُرِف عن مؤسسة دينية تنحاز بشكل جدي لمصالح الفقراء بأكثر من دعوتهم للصبر على الفقر والحاجة، والعمل على خلاص أنفسهم بعد الموت.

وبالإجمال جاءت ظواهر الثورة الشبابية في القطرين لتُنبئ بفجر جديد في عمقه، وهو التمرد الاستراتيجي على ذلك النمط من الثقافة الشعبية التقليدية المغلقة التي كان آباؤهم أسرى لها، ويقبعون في سجونها.فقفزوا فوق تابوهات التربية الطائفية السياسية، ونزلوا إلى الشوارع متحدين متضامنين، أمام استغراب آبائهم ودهشتهم.وأمام دهشة حتى من كانوا يتوقعونها من المفكرين والباحثين والأوساط الحزبية التي كانت تنتظر هذه الظاهرة.

لم يكن الاعتقاد بنزول فئة الشباب إلى ساحات التغيير حلماً رومانسياً أطلقه العديد من المفكرين، وقد أكَّدت ظاهرتا العراق ولبنان واقعية التغيير الثقافي.وعن ذلك، قال جبران خليل جبران منذ أكثر من قرن من الزمن : ( أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة ).كما أكَّدت التجربة مصداقية حلم غاندي الذي آمن بان الشعب سوف يثور للمطالبة بحقوقه، مهما طالت كبوته.

وهذا ما يطفح الآن في ساحات العراق ولبنان، التي يشارك فيها الفقراء على شتى مستوياتهم العمرية لأن بعضهم كواه الجوع، والبعض الآخر كوى الفساد كل جوانب حياته ومعاشه.ولعلَّ فيما قاله المفكران تكمن الحقيقة التي تحث على إنتاج قواعد فكرية تتناسب مع ما عبَّرا عنه.وهذا ما يقودنا إلى الاستنتاج بأن الأجيال الجديدة، والفقراء والمحتاجين لن ينتظروا، ولن يصبروا ليأتيهم رجال الدين بقصور في الجنة، وهم لا يستطيعون أن يجدوا لقمة الخبز ليأكلوها.

استناداً إلى كل ذلك، وبالمعنى الفكري يمكننا الاستنتاج أن ما يحصل في القطرين، لهو ثورة ثقافية، يقودها الشباب، بشكل أساسي، ستعيد تشكيل الكثير من المفاهيم.ومن واجب جميع المؤسسات الفكرية والثقافية والحزبية الوطنية والقومية أن تعد لها العدة الفكرية اللازمة لرعايتها وتنميتها وتعميقها، وابتكار منظومات فكرية ترتقي من سطحية الثقافة التقليدية المغلقة التسليمية التواكلية السائدة، والقائمة على مسلمات تستغل الدين والدين الحقيقي منها براء ، إلى سقف الثقافة القومية والوطنية المدنية، وذلك بتعميم الخطاب القومي والوطني بقطع صلة الوصل بين الثقافة القديمة إلى رحاب الثقافة المنفتحة التي تخترق كل تلك المسلمات.وان تتولى المؤسسات التربوية العمل على الارتقاء بمستوى تلك الثقافة المغلقة من سطحية المعرفة الدينية الاستسلامية التواكلية إلى عمق الايمان الحقيقي والظاهرة الروحية القائمة على بنية القيم العليا.وعن ذلك اعتبار الخيار الديني الروحي مسألة فردية تخص الفرد نفسه لا تدخل للسياسة وللدولة فيها بأكثر من ضمان حرية الاعتقاد الديني وحمايته.





الاربعاء ٥ جمادي الاولى ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠١ / كانون الثاني / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المنبر الثقافي العربي الدولي / حسن خليل غريب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة