شبكة ذي قار
عـاجـل










إن مجمل العمليات السياسية التي مارستها سلطات الاحتلال الأمريكي ومن بعده الاحتلال الإيراني تدل على سوء دراية بكيفية تسيير الوضع العراقي، وهو دليل استهانة واستهزاء بالواقع العراقي، واستسهالها لسبل معالجة الأمور اليومية الحياتية.

هذا الاستهزاء والاستهانة خلق عند العراقيين انطباعاً قوياً أن أمريكا وإيران تنظران بكثير من الاحتقار والاستصغار للسياسيين العراقيين الحلفاء، وأيضاً إلى مجمل الواقع العراقي السياسي والثقافي والاجتماعي ...

تكشف ذلك بوضوح في وثائق السفارة الأمريكية في بغداد وفي قانون إدارة الدولة "البريمري" والذي تم تشكيل الدستور الجديد بناء على ما تضمنه هذا القانون البريمري.

لقد وُلد الدستور الجديد مشوهاً أخلاقياً وخَلقياً، فقد وضعه نوح فيلدمان الصهيوني وتمت ترجمته وإجراء بعض التعديلات الطفيفة عليه، وكان ذو صبغة مناطقية وعرقية وطائفية، وقد عكست وثائق الدستور في مسوداته الأولى والمعدلة والختامية ظاهرةً خطيرة جداً يشترك فيها كل من ساهم في صياغة الدستور وشارك في العملية السياسية، وهي ظاهرة فقدان الأفق الوطني، بصورة نموذجية وقحة، هذا الوليد المشوه لم يكن إلا نسخاً معدلة من قانون إدارة الدولة الذي مارس بريمر صلاحياته بموجبه، وهي نسخ تفتقد صياغةً ومضموناً المحتوى الوطني.

لقد جاء البناء العقلي للنص مفككاً مشوهاً، يعكس بشكل جلي وواضح شدة تجاذب الأطراف العراقية المختلفة وتنافرها، ويدل تفكك البناء العقلي للنص على تفكك العقلية التي صاغته أو شاركت في صياغته، فاتضح انها عقلية طائفية، وعقلية محاصصة، وليست عقلية ذات انتماء وطني عروبي، وما يميزُ نص الدستور العراقي الجديد هو احتواءه على كم هائل من الدلالات العرقية والطائفية والجهوية والحزبية، ما أفقد النص روحه الجامعة كوثيقة معبرة عن إرادة شعب وأمة.

يتحدث واضعو الدستور عن العراق باعتباره بلداً حراً مستقلاً، ولكن الحقيقة تمكن فيما قاله بريمر في كتاب مذكراته، حيث ذكر في أكثر من موضع أنه يمثل سلطة احتلال، ويتحدث بصراحة عن العراق كبلدٍ محتل، فيكون أكثر صراحة وواقعية من العراقيين الذين شاركوا في وضع الدستور.

إن وثيقة الدستور بصيغها المختلفة لم تأت بناء على رغبةٍ وطنية جامعة، بل جاءت بناء على رغبات طائفية وعرقية تمثل هذه القِوى السياسية أو تلك، وإن تفحص نصوص الدستور ومقارنتها بنص قانون إدارة الدولة "البريمري" يكشف الأحزاب الطائفية والعرقية لم تكن قادرة على الهروب من طائفيتها وعرقيتها القومية، فهذه القِوى محكومة طائفياً وعرقياً بما حدده الاحتلال الأمريكي مسبقاً، وألزمها بالتحرك طائفياً وعرقياً ضمن هذا المجال، ومن يحاول اختراقه يعامل معاملة الأعداء دون النظر إلى حجم ضلوعه في تنفيذ المشروع الأمريكي الاحتلالي، أي أن القوى الطائفية والعرقية لا تمتلك حرية اختيار طائفيتها وعرقيتها ووطنيتها المفقودة أصلاً، فقد قامت سلطة الاحتلال الأمريكي بمهمة تحديد القضايا التي يتم على أساسها التحاصص عرقياً وطائفياً، و في المقابل تركت سلطة الاحتلال للقِوى السياسية حق التصارع فيما بينها بحسب مقدراتها من أجل تقاسم الغنائم طائفياً وعرقياً.

إن ما تقدم يؤشر بوضوح إلى مستوى مزرٍ من مستويات فقدان الإرادة الوطنية، وأن القوى سياسية العراقية بعد 2003 ليست بعيدة عن مشروع الاحتلال، وأن الطائفية والعرقية جنين مشوه يحملُ فيروساً خطيراً يؤدي إلى الموت، وقد استخدمت الطائفية والعرقية من قبل قوى سياسية عديدة بسبل شتى، ولكن ما أضافته سلطة الاحتلال فهو تصعيد الطاقة السياسية والتنظيمية للعناصر العرقية والطائفية، بمعنى تسييس الطائفة والعرق ومنحهما شرعية دستورية، وكان قد سبقها خطوة التسييس الجغرافي لمناطق العراق كخطوة من خطوات الصناعة الأمريكية في تقسيم العراق ليكون معترفاً به نفسياً واجتماعياً وجغرافياً ومذهبياً ودستورياً، وبناء على ذلك يكمن خطر غياب المشروع الوطني، الذي يعني صياغة الأهداف بروح وطنية تأخذ المصالح الأساسية للشعب والأمة باعتبارها الهدف الأول والرئيس للمجتمع.





الجمعة ٦ محرم ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٦ / أيلول / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ناصر عبد المجيد الحريري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة