شبكة ذي قار
عـاجـل










لم تكن الظروف معقدة وأكثر سوءاً بالنسبة للحزب الحاكم في مصر، أو في تونس أو في الجزائر أو السودان منه عن الظروف والحالة المركبة التعقيد التي رافقت الحرب على العراق وقانون الحاكم الأمريكي آنذاك ( برايمر ) باجتثاث حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق.

فلم يصدر بحق أي حزب في تلك الأقطار ما صدر بحق حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق، وما رافقه من حملات تشويه وتحشيد طائفي والقتل والتهديد بالقتل أو التصفية لقادته ومنتسبيه، ولكن وعلى الرغم من ذلك فقد كان تأثير ما حلَّ بالبعث أضعافاً مضاعفةً لما حل بغيره من الأحزاب التي كانت في السلطة في دولٍ عربية، إن لم يكن أكثر أو لا مثيل له.

فعلى الرغم من مرور أكثر من أربعة عشر عاماً على قانون ( اجتثاث البعث ) ، إلا أنه ما زال يشكل حالة استثنائية لا مثيل لها في الحياة العامة العراقية والعربية، وليس فقط في الحياة السياسية، فرغم كل التهويل والرعب الذي يستخدمه أصحاب العملية السياسية في المنطقة الخضراء وحلفائهم ضد البعث، إلا إنه ما زال يشكل لهم تهديداً وجودياً، وليس فقط تهديداً ورعباً يومياً وخوفاً من مشاركتهم العملية السياسية التي رفضها الحزب منذ البداية.

( اجتثاث البعث ) ، كان الخطأ الأكبر الذي ارتكبه المحتل وأعوانه، وخوفهم حد الموت، من عودته للساحة السياسية العراقية، رغم أنه لم يغب عن المشهد العراقي حتى في أشد الظروف صعوبة وأكثرها تهديداً لقادته.

ومن خلال مراجعة شاملة لما مرت به عملية ( اجتثاث البعث ) خلال الأربعة عشر عاماً الفائتة، نجد أن البعث لم يغب يوماً واحداً عن الساحة العراقية، إن كان من طرف أصحاب العملية السياسية التي جاءت بعد الاحتلال، أو من خلال الحياة اليومية للمواطن العراقي، وطَرَح ( اجتثاث البعث ) الكثير من التساؤلات التي تترافق دائماً مع الأحداث العراقية اليومية، ومن جملة هذه التساؤلات:

- هل ما يحدث في العراق صراع سياسي طبيعي نظيف منزه من المصالح الخاصة، أم هو صراع بين باحثين عن أدوار سياسية؟

- هل هناك أي تطابق بين حاجات الناس اليومية، وبين رغبات سياسيي العراق، حكماً ومعارضة؟

- هل كان مفهوم الاجتثاث بما يتضمن من مفاهيم مخيفة، لغرض الابتزاز والدعاية من قبل السياسيين المحليين، وبأوامر من القوى الخارجية التي تدير العملية السياسية، أم هو حاجة سياسية وطنية موضوعية ملحة؟

- هل هو استثمار لمشاعر الخوف، وتجنيد للتوتر الاجتماعي والنفسي هدفه الكسب السريع، وتأزيم الوضع الداخلي لغاية تمرير مشاريع خارجية أكبر حجماً وأكثر خطورة على العراق ككل؟
- هل الاجتثاث ضرورة لأطراف العملية السياسية لتبرير أعمال العنف التي تقوم بها الميليشيات وقوى الإرهاب والقوات الحكومية وقوى الاحتلال الإيراني؟

مجموع هذه التساؤلات المتعلقة بـ ( اجتثاث البعث ) ، تتعلق أيضاً بجوهر الصراع السياسي والثقافي والاجتماعي الحاصل في العراق، فهي تمتد لأبعد من حدود البعث وقضية اجتثاثه، إنها تتصل مباشرة بحقيقة المشروع السياسي في العراق، إنه لا يتعلق فقط بمستقبل البعث، بل يتعلق أيضاً بمستقبل وطن.

إن مجموع الإجابة عن هذه التساؤلات تُلخص حقيقة المشاريع المتداولة يومياً، من قبل أركان العملية السياسية الحالية في العراق، وتُظهر حقيقة الصراع بينها والدول ذات المصالح في استمرار الأزمة في العراق.

إن ( اجتثاث البعث ) يكاد لا يغيب عن الساحة السياسية العراقية منذ صدور قانون الاجتثاث قبل أربعة عشر عاماً، إنه يعود بشكل مستمر إلى الواجهة السياسية، كلما اشتدت حدة كل موجة من موجات الصراع السياسي على السلطة، فقد عاد الموضوع إلى السطح عند مناقشة الدستور العراقي، وطفا مرة ثانية عندما طرح ما عُرف بـمعالجة موضوع المهمشين، الذين عرضوا إلغاء قانون ( اجتثاث البعث ) كشرط للدخول في العملية السياسية، والمساهمة في صياغة الدستور العراقي.

ثم عاد مرة أخرى إلى الظهور بقوة عند تشكيل حكومة الجعفري الثانية، ووضعه بعض السياسيين كشرط لا مساومة فيه من أجل الاشتراك في تشكيل حكومة عراقية قادمة، وهناك سياسيون نادوا علناً أن ( اجتثاث البعث ) سيتم إلغاؤه من برنامج الحكومة، وأن ذلك حدث باتفاق الكتل السياسية، وأن هناك ضغوطاً أميركية محتملة إلى حمل الكتل الشيعية على الإقرار بشروط معارضيهم، بما في ذلك موضوع ( اجتثاث البعث ) .

وعاد الموضوع إلى الظل مع انفراج أزمة المحاصصات، وإرغام الجعفري على التخلي عن منصب رئاسة الوزراء لصالح نوري المالكي، ثم عاد بقوة عند تعثر مساعي المالكي الرامية إلى تعيين وزراء الدفاع والداخلية والأمن، واختلط فجأة بموضوع المصالحة الوطنية، وأضحى حلقة أساسية من حلقات مشروع المصالحة، وربما الحلقة المحورية والجوهرية فيه.

لقد شيَّد أزلام الاحتلال مشروع التحرير بقوة الحرب والغزو، وأقاموا سلطتهم على عاتق لعنف لذي مارسوه، كما لعبوا الدور المساعد والشريك للمحتل الإيراني في تدمير البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وحتى النفسية، وعبثوا فيها ممارسين سياسة تضليلية تجاه المجتمع العراقي.

لقد كان ( اجتثاث البعث ) عملية فوقية وخطأ استراتيجياً وتاريخياً، وبات مصدراً لولادة تناقضات داخل المجتمع العراقي غير قابلة للاحتواء، لأن الاجتثاث كان جزءاً من خطة خارجية ضد العراق، وتحمل أهدافاً خفية لا صلة لها بعملية التغيير، لقد كان الاجتثاث صيغة سياسية مخادعة، وليست جزءاً من عملية التغيير الاجتماعي الذي تحدث في أي مجتمع بعد تعرضه للنكسات والنكبات والاحتلال، إنه يعكس تفكك وضحالة فكر ومصالح القوى السياسية التي جاءت مع المحتل وكان أداته في العملية السياسية القذرة.





السبت ٢ ذو الحجــة ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٣ / أب / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ناصر عبد المجيد الحريري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة