شبكة ذي قار
عـاجـل










من أهم سمات الهجمة الشرسة التي تتعرض لها الامة العربية في المرحلة الراهنة هو الإمّعان في في تجزئتها ، لتحقيق أهداف استعمارية شتى ببعديها الاستراتيجيين الاقليمي والعالمي. ويأتي استهداف العروبة ومقومات الهوية القومية والتشكيك بها ومحاربة الفكر الوحدوي الجامع في طليعة الاستراتيجيات لتحقيق تلك الاهداف الشريرة، باعتبار ان المرحلة هي مرحلة تقسيم المقسَّم وتفتيت ما تبقى منه بشتى الطرق وتحت مختلف الحجج والذرائع.

ولتحقيق ذلك تنشط عملية استهداف وتشويه فكرالامة القومي، والبعثي في المقدمة منه فتستعِر حملات شيطنة حزب البعث العربي الاشتراكي واجتثاث وتزييف فكره الموحِّد باعتباره فكراً جامعاً للأمة، اذ قدّم قضية وحدتها فجعلها تتبوأ أولوية مطلقة بين أهدافه الاستراتيجية، كما عبّر عنها في شعاره المركزي.

ولأن البعث كان من الرواد الاوائل في تاريخنا المعاصر في الربط بين العروبة والاسلام سواء على صعيد الفكر وبلورة الهوية ، او على صعيد حشد قوى الامة وتوحيدها ضد اعدائها ، فلا غرابة ان يكثر الحديث بين الحين والاخر عن تلك العلاقة، فنجد البعض يقوم بشن حملات شعواء تستهدف فكر البعث الذي عبر عنه قادته وفي المقدمة منهم قائده المؤسس المرحوم أحمد ميشيل عفلق.

واليوم وفي ذكرى رحيل القائد المؤسس نستلهم من تلك الينابيع ونسترشد بتلك الانارات التي اضاءت طريق النهضة المعاصرة للامة العربية في مواجهتنا للتحديات التي تعترض نزوعها الانساني من اجل نيل حريتها وتحقيق تقدمها .

فما هي منطلقات تلك العلاقة بين العروبة والاسلام وكيف ساهمت في نهضة الامة المعاصرة؟

بالعودة الى الينابيع الاولى لمنطلقات ذلك الفكر بهدف إلقاء الضوء عليها وتحليلها نجد أن القائد المؤسس قد عاش طيلة حياته مؤمناً بالربط العضوي بين العروبة والإسلام ، وقد عبر عن ذلك في مواقفه وسلوكه وفي اغلب احاديثه وطروحاته الفكرية منها والسياسية .والمتتبع لذلك العطاء الفكري والإرث النضالي يستخلص ان القائد المؤسس كان ينطلق في ذلك من وعيه التام بتاريخ الأمة المجيد وعناصره، اضافة إلى إدراكه العميق للعديد من المفاهيم ومنها معنى علاقة العبد بربه، ووعيه التام لمحاولات البعض استغلال الموقف من الدين ، والثأثير الذي من ممكن ان يحدثه ذلك على جماهير الامة العربية.

ومن جهة اخرى فان تلك الطروحات انسجمت مع طبيعة شخصيته الصريحة والجريئة، فقد عرفته امته عبر مسيرته النضالية الطويلة، رجل افعال لا اقوال، حيث تسامي خلقه ونَبُلَتْ مقاصده، وترفَّع عن المغريات والمطامح الدنيوية الفانية ، وتحدى الظروف الصعبة التي واجهته فلم يركع يوماً ولم يهادن. وكان جريئا في الدفاع عن العروبة وعن جوهر الدين وحقيقته. فكان الايمان بالنسبة له ليس في المظاهر بل يتجسد بالفعل والعطاء والابداع والايمان بقدرات الامة التي انجبت الرسول محمد، صلّى الله عليه وسلّم. لذا فقد اكسبه كل ذلك مصداقية جعلته قدوة لجيله وللاجيال التالية من بعده.

وقد عبر عن ذلك خير تعبير في مواقفه وفي احاديثه وخطبه.

ففي مقالته التي حملت عنوان " ذكرى الرسول العربي" التي كتبت عام 1943 يقول :

" إن الإسلام بالنسبة إلى العرب ليس عقيدة أخروية فحسب، ولا هو أخلاق مجردة، بل هو أجلى مفصح عن شعورهم الكوني ونظرتهم إلى الحياة، وأقوى تعبير عن وحدة شخصيتهم التي يندمج فيها اللفظ بالشعور والفكر، والتأمل بالعمل، والنفس بالقدر. وهو فوق ذلك كله أروع صورة للغتهم وآدابهم، وأضخم قطعة من تاريخهم القومي، فلا نستطيع أن نتغنى ببطل من أبطالنا الخالدين بصفته عربياً ونهمله أو ننفر منه بصفته مسلما".

ثم يضيف قائلاً :
"قومتينا كائن حي متشابك الأعضاء، وكل تشريح لجسمها وفصل بين أعضائها يهددها بالقتل فعلاقة الإسلام بالعروبة ليست إذن كعلاقة أي دين بأية قومية. وسوف يعرف المسيحيون العرب، عندما تستيقظ فيهم قومتيهم يقظتها التامة ويسترجعون طبعهم الأصيل، أن الإسلام هو لهم ثقافة قومية يجب أن يتشبعوا بها حتى يفهموها ويحبوها فيحرصوا على الإسلام حرصهم على أثمن شيء في عروبتهم".


وعلى الرغم من ان الطبيعة التكوينية لحزب البعث العربي الاشتراكي وايديولوجيته ليست دينية، وتأكيده المستمر على ضرورة الفصل بين السياسة والممارسات الدينية، ونضاله من اجل ترسيخ الدولة المدنية، الا انه يؤكد دائماً وعبر مراحل نشأته ونضاله على انه حزب مؤمن، فهو ( مع الايمان ضد الالحاد ) ، كما انه يربط ربطاً عضوياً بين العروبة والإسلام. وقد عبر عن ذلك قائده المؤسس بالقول (لولا العرب لما انتشر الاسلام ولولا الاسلام لما وُجِدَ العرب) معتبراً ان العلاقة بين الاثنين هي علاقة وجود وتكامل لا تنافر وتناقض.

ولم يقتصر ذلك الربط على ترسيخ الهوية العربية وحسب، وانما تعدّاها لتشمل صعيداً اخراً وهو شمولية التغيير المنشود وعمقه.

فايماناً من البعث بثورية رسالة الاسلام التي حملها العرب إلى أمم الارض وشعوبها، فقد عمل على استلهامها وبعثها من جديد معتمداً النهج الثوري ومعتبرا العمل على تحقيق هذا الانبعاث الجديد للامة وتحقيق نهضتها المعاصرة هو الرسالة الخالدة لأجيالها الصاعدة. وجسد كل ذلك في شعاره ( امة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة ).

وقد اكد مؤسس البعث دائماً على الرسالة الحضارية للامة، موضحاً ان هذا الفهم القومي العروبي للإسلام لا يتنافى مع عالميته وإنسانيته، فيقول :

"كل امة عظيمة عميقة الاتصال بمعاني الكون الأزلية تنزع في اصل تكوينها الى القيم الخالدة الشاملة. والإسلام خير مفصح عن نزوع الأمة العربية الى الخلود والشمول، فهو اذاً في واقعه عربي وفي مراميه المثالية إنساني، فرسالة الإسلام انما هي خلق إنسانية عربية".

بل يضيف بأن الطابع الإنساني العالمي للإسلام، المقترن بروح القومية العربية، هو ما يشكل خصوصية هذه القومية فيقول :

"العرب ينفردون دون سائر الأمم بهذه الخاصة وهي: ان يقظتهم القومية اقترنت برسالة دينية، او بالأحرى كانت هذه الرسالة مفصحة عن تلك اليقظة القومية، فلم يتوسعوا بغية التوسع ولا حكموا البلاد استناداً الى حاجة اقتصادية مجردة، او ذريعة عنصرية، او شهوة للسيطرة والاستعباد ... بل ليؤدوا واجباً دينياً كله حق وهداية ورحمة وعدل وبذل.

هكذا، وبمثل هذا الارتباط الوثيق بين العروبة والإسلام اصبحت العروبة جسماً روحه الإسلام لذا فلم يشتط العرب في قوميتهم، وتميزوا عن غيرهم فلم ينزلقوا الى هوة العنصرية او العصبية".

ولا شك من أن إيمان القائد المؤسس وربطه بين العروبة والإسلام قد انطلق من استلهامه لسيرة الرسول الاعظم، صلى الله عليه وسلم، استلهاماً حقيقيا لا غبار عليه وقد عبر عن ذلك في مقاله المعنون ( ذكرى الرسول العربي ) بقوله :

"يجب أن تتحد الصلاة مع العقل النير مع الساعد المفتول، لتؤدي كلها إلى العمل العفوي الطلق الغني القوى المحكم الصائب".

كما يعبِّر قول القائد المؤسس أعلاه على مدى تأثره بسيرة السلف الصالح من القادة العرب المسلمين الاوائل الذين حملوا راية السماء بسواعدهم واوصلوا الفتوحات على ظهور خيولهم، تقودها قبل كل ذلك عقولهم النيرة وتفكيرهم العقلاني ومعالجاتهم الواقعية وتفاعلهم الحيّ مع متغيرات زمنهم ومتطلبات عصرهم .

كما ان في قوله هذا تشخيص لمقومات النهوض الثلاثة، فالفكر النيِّر وحده لا يكفي بل لابد أن يتَّحِد مع الايمان ومع الفعل الشجاع من اجل الوصول الى الاهداف.

وفي معرض تشخيصه لأهم اسباب انتصار الامة العربية وتقدم دورها الحضاري يقول :

"كانت الشخصية العربية كلاً موحداً، لا فرق بين روحها وفكرها بين عملها وقولها بين أخلاقها الخاصة وأخلاقها العامة، وكانت الحياة العربية تامة، ريانة، مترعة يتظافر فيها الفكر والروح والعمل وكل الغرائز القوية".

والقائد المؤسس بهذا القول يحدد بذلك العناصر الاساسية للنهوض بما يلي :

1. استلهام الماضي المجيد في النهضة المعاصرة للامة، اي ان لا تنشأ هذه النهضة بمعزل عن ذلك التراث المجيد او تكون متناقضة معه .
2. ضرورة الجمع بين الروح والفكر ، بين المشاعر والعقل .
3. لا تكفي الدعوة بالكلام لتحقيق التغيير وانما يجب ان يقترن القول بالعمل.
4. ان تتوحد الاخلاق العامة مع الاخلاق الخاصة فيجسد الفرد سمات الامة الناهضة السليمة ، وتنسجم اهداف حياته الخاصة مع طموحات امته في التطور والتقدم.
5. أن تتسم الحياة بالحيوية والتفاعل القوي مع روح عصرها وسماته ، فلا تكون بعيدة عنه او معزولة عما يجري فيه.

وبقدر ما حدد القائد المؤسس مقومات النهوض هذه فانه شخَّصَ بالمقابل امراض المجتمع الفتاكة ، وخاصة تلك التي تهدد وحدته وتقدمه. لذا فقد اكد على ان الانبعاث الجديد كما يراه لايأتي على اسس طائفية كما تتبناها حركات الاسلام السياسي في وطننا العربي في زمننا الراهن وكما أفرزته بشكل واضح وجليّ تجربته في العراق بعد الاحتلال الأميركي الغاشم عام 2003.

كما شخص القائد المؤسس الأمراض الموجودة في الشخصية العربية المعاصرة التي تتسم بازدواجية التفكير، والتناقض بين القول والعمل، وانفصال العاطفة والايمان عن التفكير العقلاني النيِّر. تلك الازدواجية وذلك التناقض الذي نجده في البعض ممن يتسترون بالدين لكنهم في الواقع لا يجسدون الاسلام حق تجسيد، لا في روحه ولا في قيمه ولا في مبادئه.

وعلى العكس من ذلك نجد ان الكثيرين، وربما الاغلبية من العرب المسلمين وغير المسلمين يعتزون بانتمائهم القومي ويجسدون الاسلام الحقّ في سلوكهم وتعاملهم بعيداً عن التبجح والتظاهر والتعصب الاعمى. فيقول في ذلك :

" أما نحن، فلا نعرف غير الشخصية المنقسمة المجزأة، ولا نعرف إلا حياة فقيرة جزئية، إذا أهلها العقل فإن الروح تجفوها، وإن داخلتها العاطفة فالفكر ينبو عنها: إما فكرية جديبة، أو عملية هوجاء، فهي أبدا محرومة من بعض القوى الجوهرية، وقد آن لنا أن نزيل هذا التناقض فنعيد للشخصية العربية وحدتها، وللحياة العربية تمامه".

ولقد اغاظ هذا الربط المعاصر أعداء العروبة والاسلام معاً، مما جعل البعث وقادته يواجهون هجمة شرسة تتسم بكونها مركبة ومضاعفة ، من قوى عالمية استعمارية تريد اجتثاث الفكر العروبي ، وذلك إمعاناً بالتفتيت والتقسيم ، حيث تلتقي مصالح تلك القوى الفاعلة وتتكامل مع قوى اقليمية طائفية تهدف الى الهيمنة على مقدرات الامة. وقد عزز كل ذلك وجود قوى شعوبية وغير شعوبية، تتسم بالضلامية والتحجر، ممن حملت وتحمل حقداً دفينناً على البعث ومؤسسيه.

لذا فان انتصار الامة على مؤامرات تفتيتها لا يتم الا بديمومة الفكر العروبي الموحِّد الجامع لقدراتها وامكانياتها، وهو الذي يمثله البعث وفكره القومي وانتصاره في معركته التي يخوضها ضد الشيطنة والاجتثاث .

كما ان انتصار الأمة لا يأتي الا عبر تمسكها بما دعا اليه القائد المؤسس حين قال : " لقد كان محمد كل العرب فليكن كل العرب اليوم محمدا".

لقد حقق القائد المؤسس بهذا الربط العضوي بين العروبة والإسلام ريادة تاريخية لا على صعيد التحليل والوصف فقط وانما على صعيد التشخيص الدقيق للطريق السليم لتحقيق نهضة الامة العربية في العصر الحديث، وهذا ما جعل جماهير الامة العربية
ومفكريها ومثقفيها يحتفون به كأحد أهم رواد الفكر القومي في تاريخ الامة العربية المعاصر.

واليوم وفي ظل ما تواجهه الامة العربية من هجمات شرسة تستهدف هويتها ووجودها في الصميم، علينا التصدي لكل حملات اجتثاث وشيطنة الفكر العربي الموحِّد لهذه الامة والذي يأتي فكر "البعث" في طليعته، من خلال استلهام أحاديث وأقوال قائده المؤسس ورفاقه الرواد والقادة عبر مسيرة الحزب النضالية ، وإغناءات الرفيق الشهيد صدام حسين، وتوجيهات الرفيق الامين العام عزة ابراهيم حفظه الله ورعاه ، وتحويلها الى واقع حي وصولا الى انتصار الامة الحتمي على اعدائها.


مكتب الثقافة والاعلام القومي
٢٣ / حـزيران / ٢٠١٩





الثلاثاء ٢٢ شــوال ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٥ / حـزيران / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب غالب فهد المولى نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة