شبكة ذي قار
عـاجـل










قدم علي الوردي الكثير من الآراء بشأن تجربة بناء علم اجتماع عَربي على الصعيد النظري وعلى مستوى الممارسة التاريخية، وذلك في سياق مشروعه النقدي للعقل العربي، الذي استحضر فيه سلطات مرجعية ومنهجية متعددة، مروراً بفلسفة الأنوار المكافِحة، وانتهاء ببعض مفاهيم فوكو وألتوسير وغرامشي، من دون أن يغفل الدرس الماركسي،كما أنه أخضع المرجعية الفكرية الغربية للنقد، وأردفها بنقد المنظومة الفكرية العربية والإسلامية، إلى أن توصل إلى دعوته الشهيرة "الانتظام داخل التراثية"، لإتمام ما بدأه ابن رشد وابن خلدون والشاطبي، وكذلك كشرط لا بد منه للنهضة والتجديد، والتحرر من هيمنة الفكر الأوربي من دون القطيعة معه، وأيضاً من دون الخضوع للتراث.

ولعل الإشكالية الرئيسة، التي نواجهها مع الأطروحات الاجتماعية للوردي، هي: هل استطاع أن يقدّم صياغة نظرية وشواهد تجريببة تاريخية لأطروحته عن ضرورة انتظام المفاهيم التحديثية لعلم الاجتماع في الثقافة العربية كشرط للتجديد والتحديث؟

هذا ما سيجيب عنه سلام الشماع في كتابه الموسوم "خفايا من حياة علي الوردي"، لذا تتشكل معمارية كتاب "خفايا من حياة علي الوردي"، الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت – ٢٠١٥، إلى مباحث فرعية متنوعة، مشكّلاً بذلك انزياحاً عن الأنماط الكلاسكية للمداخل من قسمين: يتكون القسم الأول من المقدمة. أما القسم الثاني فقوامه "22"، عنواناً تناولت معظم سيرة علي الوردي.

يحمل القسم الأول مقدمة مثيرة للتساؤل، إذ يقول الكاتب الشماع: ( إن هناك الكثير مما بقي مخفياً في حياة هذا المصلح الاجتماعي ورجل التنوير الكبير، الذي أراد لمجتمعنا أن يحتل المكانة اللائقة به بين مجتمعات العالم فظّل طوال حياته يقارع أمراض المجتمع العراقي المتمثلة ببعض تقاليده البالية ومعتقداته المتخلفة ص11".

شاء الشماع الاّ تكون قراءته لخطاب الوردي المعاصر قراءة تقليدية، ولذلك سنسلك معه ما سلكه مع أغياره من أسلافنا في تاريخ الأفكار النقدية، تجاه علم الاجتماع.

عمل الشماع على تسييج مقدمات عمله ونتائجه بمجموعة من الآراء الاجتماعية بصفتها أدوات ومفاتيح استباط وتحليل أسس التنظير الاجتماعي للوردي، ومن بينها نذكر: ( إن الشرق مفهوم جغرافي ليس له صلة مباشرة بعلم الاجتماع. إن الذي يهتم به علم الاجتماع في شأن المقارنة بين الشعوب وهو ما يطلق عليه بالانكليزية مصطلح ( cutlure ) ، والذي أميل أنا إلى ترجمته في العربية بـ( التراثية )، ويقصد به مجموعة المعتقدات والاعراف والقيم والتقاليد، التي يتميز بها مجتمع عن آخر، إن أهمية التراثية في علم الاجتماع تأتي من كونها لها تأثير كبير في تكوين شخصية الإنسان منذ طفولته في تراثية معينة ص70".

يُعتمد أسلوب النمذجة في مجموعة من العلوم، مثل علم النفس وعلم الاجتماع، للتمثيل لخصائص الظواهر المدروسة، ولصوغ التعميمات ووصف اشتغال مكونات النظرية. فالتفسير والاستدلال والتمثيل ومختلف مسارات الصياغة العقلانية لعلم الاجتماع تؤدي فيها النمذجة أدواراً جوهرية، كما أشار الشماع في رصده لنمذجة الوردي، عندما عاد من أمريكا إلى العراق: ( أنا لست مع القائلين إن الوردي عاد إلى العراق ناقماً على كل شيء، ففي هذا الوصف تسفيه لثورته على القيم القديمة للمجتمع العراقي واستهانة بدعوته إلى التغيير والتنوير ص82".

ما من شك أن الرؤى، التي قدمها الوردي كانت رؤى جديدة وطازجة، في وقت انخفض صوت النقد للقيم الاجتماعية كثيرًا، وتراجع الاهتمام بها حتى وسط النخب، وقد تعدّدت رؤاه النقدية الجريئة في الوقت ذاته، إذ ذكر: ( لم يتحمسّ له القوميون كثيراً، لرفضه فكرة الوحدة السياسية بين الأقطار العربية من دون دراسة معمّقة لخصائص وتكوينات كل بلد على حدة، بغية تجنب انتكاسة وحدوية كتلك، التي حصلت بين مصر وسوريا ص121 ).

يعرّج الشماع، كذلك، إلى علم الباراسايكولوجي، الذي كان للوردي رأي مهم وجدلي فيه، فهو يسميه علم الخارقية، ويقول : ( إن علم الخارقية، أو الباراسايكولوجي، كما يسمونه في اللغات الأجنية، له صلة وثيقة بالظواهر الاجتماعية ولاسيما في المجتمعات المتخلفة والنامية. فقد اكتشف هذا العلم أن بعض الأفراد لديهم قدرات نفسية خارقة. ولكن هذه القدرات كانت في الماضي، ولاتزال حتى الآن، يفسرها العوام بأنها من أفاعيل الجن أو السحر أو ما أشبه، وكانوا يحيطونها بالخرافات المبالغ فيها ويحاولون اتقاء شرها بالتعاويذ والطلاسم! ص159 ).

غير أن أفكار الوردي، على قوتها ومتانة حجتها، تصبح مربكة، بل ربما تشير إلى خلاف معنى الوجود الإنساني، بخاصة عندما يستخدم كلمة ( العوام )، وهو فصل اجتماعي، ومعنى ظل المثقف النخبوي يشيده عبر الحقب، ولربما أمكننا التساؤل: هل ملك المثقف، في أي يوم من الأيام في تاريخه، ان ينفك عن رؤية ذاته كمخلوق متميز؟! وهل هو يملك غير أن يفكر في نفسه بهذه الصفة أم أنها رؤية محض وهم؟!.

ولكن هل دفع على الوردي بالتنوير إلى أفق جديد، وجذب التفكير النقدي إلى منطقة جديدة؟ نعم، لقد فعل ذلك من دون أدنى شك.

ولايمكن سوى الإقرار، في الختام، أن سلام الشماع أبدع في كتابة سيرة الوردي، على النحو، الذي نقرأه في كتاب "خفايا من حياة علي الوردي".
 





الخميس ١٢ رمضــان ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٦ / أيــار / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب سليم النجار نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة