شبكة ذي قار
عـاجـل










المقدمة : يعتبر البحر الأبيض المتوسط مهدَ الحضارات، وشكَّل منذ القدمِ طريقاً هامّاً للتجارة والسفر. أُطلق على هذا البحر قديماً عدّة أسماء منها: بحر الروم، والبحر الشامي، والبحر المتوسط اعتقاداً بأنّه يتوسّط العالم. تبلغ مساحته حوالي 2.5 مليون كم2، وأعمق نقطةٍ فيه تصل إلى 1500 متراً. يتصل بالمحيط الأطلسي عبرَ مضيق جبل طارق الذي يبلغ عرضه 14 كم، و بالبحر الأحمر عبرَ قناة السويس، وكذلك بالبحر الأسود عبرَ مضائق الدردنيل والبوسفور مروراً ببحري مرمرة وإيجه. بعد اكتشاف النفط والغاز فيه ارتفعت درجة الصراع على النفوذ بين الدول المحيطة به، وبين الدول الكبرى والشركات للسيطرة على تلك الموارد، وتأمين خطوط النقل منه وعبره ممّا أضاف عبئاً جديداً على الدول العربيّة الواقعة على شواطئه رغم المكتسبات الإقتصاديّة التي يمكن لهم أن يستثمروها، كما أحدث ذلك تأثيراً في مديات الصراع العربي الصهيوني ودرجة التدخل الدولي.

حقول الغاز في شرق المتوسط
قدّر المسح الجيولوجي الأميركي في آذار 2010 الإحتياطات الممكنة في منطقة شرق المتوسط التي يطل عليها مصر وفلسطين المحتلة ولبنان وسوريا وتركيا وتقع في مجالها قبرص ب 3450 مليار م3 من الغاز الطبيعي، و 1.7 مليار برميل من النفط، وتتوزع حقول الغاز كما يلي :

- مصر : تمّ اكتشاف عدّة حقولٍ في دلتا النيل وشروق حيث يوجد حقل "ظهر" الذي أعلنت شركة "إني" الإيطاليّة في أواخر عام 2015 عن اكتشافه على بعد 180-190 كم من السواحل المصريّة الشماليّة وهو ملاصق للحدود البحريّة القبرصيّة. تُقدر إحتياطاته من الغاز ب 850 مليار م3 . كما تتميّز مصر بامتلاكها محطتين لإسالة الغاز في محافظتي البحيرة ودمياط ممّا يرفع من درجة استفادتها من مصادر الغاز في المتوسط المنتجة داخل وخارج حدودها البريّة والبحريّة.

- فلسطين المحتلة : إضافة إلى حقل غزّة الذي يبعد 36 كم عن الساحل وباحتياطات تقدر ب 30 مليار م3 ، والذي لم يبدأ استغلاله حتى الآن بسبب العراقيل التي يضعها العدو بلغ عدد الحقول قبالة سواحل فلسطين المحتلّة عشرة حقول ( نوح، ماري، تمار،ليفياثان، داليت، سارة وميرا، تانين،دولفين،شمن، كاريش ) . أقرب تلك الحقول إلى الحدود اللبنانية هما حقلي تانين وكاريش، وأهم الحقول هي تمار الذي اكتشف عام 2009، وتقدر إحتياطاته ب 274 مليار م3، وليفياثان الذي اكتشف عام 2010، وتقدر إحتياطاته ب 460- 566 مليار م3. وبشكل عام تقدر إحتياطات الغاز الكليّة في مياه فلسطين المحتلة ما بين 796 و 902 مليار م3.

- لبنان : اكتشفت حقول الغاز في السواحل اللبنانيّة عام 2012 باحتياطات تقدر ب 707.9 مليار م3، وهي موزعة على عشرة بلوكات على طول الساحل، ومن المفترض أن تبدأ اعمال الحفر هذا العام ( 2019 ) .

- سوريا : سعت سوريا لمنح تراخيص التنقيب عن الطاقة في مياهها الإقليميّة عام 2007 ولكنها لم تمضِ قدماً في ذلك حتى عام 2013 حيث وقّّعت عقوداً طويلة الأمد مع شركات روسيّة. جدير بالذكر أن احتياطات الغاز في البر والبحر السوري قدّرت بحوالي 28500 مليار م3، وإذا ما كانت تلك التقديرات صحيحة فإن سوريا تصبح ثالث دولة في العالم بعد روسيا وإيران من حيث احتياطات الغاز.

- قبرص : تمتلك قبرص حقلي غاز أفروديت الذي اكتشف عام 2008 باحتياطات تقدر ب 84-254 مليار م3 ، وحقل غاز قبرص أ الذي اكتشف عام 2011 وتقدر إحتياطاته بحوالي 198 مليار م3، وقد بدأ الإنتاج منه عام 2015. وأعلن مؤخّراً عن اكتشاف حقل غاز "بشاي" في المياه الإقليميّة الفلسطينيّة القبرصيّة المشتركة على أن يتم تقاسمه بين الكيان الصهيوني وقبرص.

غاز المتوسط عامل صراع وتعاون
إنّ تداخل الحدود البحريّة بين مصر وفلسطين المحتلّة ولبنان وسوريا وقبرص وتركيا واليونان وإيطاليا، وتسابق الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وبعض دول الإتحاد الأوروبي على السيطرة والتحكّم في المنطقة رفع من وتيرة الصراع بين تلك الأطراف، وأحدث معايير جديدةً في أنماطه ومدياته، وكذلك في طبيعة التحالفات، ودرجة التنسيق أو العداء والتباعد بينها، وتعدُّد شركات الطاقة ( توتال الفرنسيّة، أكسون موبيل و نوبل إنيرجي الأميركيتين، وبريتيش بتروليوم البريطانيّة، وشلّ الهولنديّة، ووود سايد الأستراليّة وغازبروم الروسيّة وإني الإيطاليّة ) المتنافسة على التنقيب والإستخراج والتسييل والنقل. إنّ أبرز حالات الصراع على الطاقة في المتوسط هو الخلاف بين تركيا وقبرص حول المناطق الإقتصاديّة الخالصة، إذ لا تقرّ تركيا بشرعية إتفاقيّات ترسيم الحدود بين قبرص وكل من مصر والكيان الصهيوني، خاصّةً وأنّ تركيا كما الكيان الصهيوني لم يوقّّعا على قانون البحار للعام 1982 الذي إذا ما طبّق رسميّاً بين مصر وقبرص واليونان سوف يحرم تركيا من مياهها الإقليميّة من أقرب جزيرة يونانيّة حتى سواحل قبرص، ممّا دعا مصر إلى التواجد العسكري في منطقتها الإقتصاديّة الخالصة لحماية منصّّات الغاز في حقل "ظهر". ويوجد خلاف بين لبنان والكيان الصهيوني على مساحة 854 كم2 حدّدها لبنان جزءاً من منطقته الإقتصاديّة الخالصة الواقعة في البلوك 9. من جهة أخرى برز تعاون بين مصر وقبرص واليونان من خلال إعلان القاهرة عام 2014. وازداد التعاون بين كل من مصر والأردن من جهة والكيان الصهيوني من جهة أخرى، حيث وقّع الأردن في أيلول 2014 إتفاقاً مع الكيان الصهيوني لشراء الغاز من حقل "ليفياثان" على مدى 15 عاماً وذلك بعد اتفاق آخر مع شركة حقل "تمار" بحيث أصبح يعتمد الأردن في وارداته من مصادر الطاقة بنسبة 40%. وكانت مصر قد أخذت فرعاً من خطّ الغاز العربي، الذي أنشئ عام 2003 ويمتد بين مصر والأردن وسوريا ولبنان، إلى الكيان الصهيوني عام 2008. ومن خلال هذا الخطّ وتفرعاته صدّرت مصر الغاز إلى الدول العربيّة والكيان الصهيوني حتى عام 2011 والذي توقّف نتيجةً للهجمات عليه. وقد توقف التصدير تماماً عام 2014، ممّا أدّى الى بدء مصر باستيراد الغاز بدل تصديره بسبب تراجع الإستثمارت والزيادة على الطلب وصولاً إلى توقيع عقد استيراد الغاز من الكيان الصهيوني ( حقلي تمار وليفياثان ) بحجم 64 مليار م3 عام 2018. وقد تمّ نقل الغاز من الكيان الصهيوني إلى مصر عبر الخطّ نفسه الذي كانت مصر تصدّر الغاز عكسيّاً قبل عام 2014. والملفت للنظر أنّ الإعتداءات على الخطّ قد توقفت تماماً!؟؟. وحديثاً أنشئ "منتدى غاز شرق المتوسط" في 14 كانون الثاني 2019 ومقرّه القاهرة بعد اجتماع وزراء الطاقة من مصر والأردن والسلطة الفلسطينيّة والكيان الصهيوني وقبرص واليونان وإيطاليا. وأُعلن أنّ من بين أهداف المنتدى إنشاء سوق إقليميّة للغاز، وترشيد تكلفة البنية التحتيّة، وتقديم أسعار تنافسيّة. كما تضمّن الإعلان إمكانيّة إنضمام أيّ من دول شرق المتوسط المنتجة أو المستهلكة، أو دول العبور لعضويّة المنتدى لاحقاً. لم تقتصر مديات الصراع والتعاون على التنقيب والإستخراج بل شمل ذلك خطوط النقل عبر البحر المتوسط مباشرة، أو عبر تركيا إلى أوروبا. في هذا السياق وقّع اتفاق بين إيطاليا واليونان وقبرص زالكيان الصهيوني عام 2017 لإنشاء خط لنقل الغاز من حقول شرق المتوسط إلى جنوب أوروبا بكلفة 6.2 مليار دولاراً أميركيّا ممّا يقلّل من اعتماد دول أوروبا الغربيّة على الغاز الروسي.

ألخلاصة : أظهرت إكتشافات مصادر الطاقة من النفط والغاز في شرقي البحر الأبيض المتوسط أنّها أضافت عاملاً جديداً في الصراع على النفوذ بين الأطراف المتشاطئة، وبين الدول التي تستثمر شركاتُها في المنطقة. وسوف يستخدم ذلك من قبل العدو الصهيوني لرفع وتيرة سيطرته على الموارد، والسعي مدعوماً بالقوى الدوليّة المساندة له خاصّةً الولايات المتحدة الأميركيّة لتوسيع مروحة التطبيع العربي معه من المستوى الرسمي على صعيد الأنظمة إلى المديات الشعبية والربط الإقتصادي كون أنّ استهلاك الطاقة هى حاجة ماسّة في حياة الناس. لقد تبيّن ذلك بدءاً باستيراد الغاز منه من قبل الأردن ومصر بدل استيراده من الدول العربيّة المنتجة للنفط والغاز، ومحاولة فرض تفاهمات بينه وبين لبنان وسوريا لاحقاً. كل ذلك يشير إلى هشاشة العلاقات العربيّة الإقتصاديّة البينيّة، وعدم تطبيق مقرّرات مؤتمرات القِمة العاديّة والإقتصاديّة-الإجتماعيّة خاصّةً إنتاج ونقل واستهلاك الطاقة.





الخميس ١١ جمادي الاولى ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٧ / كانون الثاني / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. علي بيان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة