شبكة ذي قار
عـاجـل










في عشية الذكرى المئوية لثورة أكتوبر الروسية 1917 يتخلى الشيوعيون العراقيون عن بعض عاداتهم لأول مرة ، وهم كانوا من السباقين إلى الاحتفالات بثورة أكتوبر، باعتبارها كانت "الثورة البلشفية العظمى" ، على حد توصيفها في الأدبيات الشيوعية ، وهي التي مهدت الطريق لوصول الحزب الشيوعي الروسي إلى السلطة، وبعدها لظهور الاتحاد السوفيتي كأول دولة اشتراكية يقودها حزب شيوعي، سقطت تلك الدولة في بداية التسعينيات تاركة الحركة الشيوعية العربية منها والدولية يتيمة وحائرة ، خصوصا عندما تخلى الحزب الشيوعي الصيني عن احتضانها، سائرا بدولة الصين نحو مسار تنموي وسياسي دولي هو اقرب للرأسمالية منها إلى الاشتراكية رغم حرص الحزب الشيوعي الصيني على بعض ملامح الدولة الاشتراكية في التمسك بسلطة وحكم الحزب الواحد والصرامة المتشددة في ما يسمى "المركزية الديمقراطية" للحزب ، وبذلك فان قيادة الحزب الشيوعي الصيني لا تختلف عن ما كان عليه وضع الحزب الشيوعي السوفيتي المنحل، الذي تآكل وسقطت تجربته لأسباب عديدة أهمها تغول البيروقراطية الحزبية الحاكمة، وتردي التسيير الاقتصادي، والفشل والعجز في مجاراة الاقتصاد الرأسمالي في غزو منتجات التصنيع للأسواق العالمية ،وانعدام عدد من الحريات ومنها فرص الديمقراطية والنشاط السياسي لغير الشيوعيين للوصول إلى الحكم، كما عجز الاتحاد السوفيتي عن تسديد فواتير التسلح الباهظة في مجاراة دول الغرب بقيادة الولايات المتحدة.

وفي العراق ما بعد السقوط السوفيتي وبعدها احتلال العراق لا تخلو المفارقة من بقاء ووجود تنظيمات عراقية ظلت تحمل عنوان "الحزب الشيوعي العراقي" وتبرر لنفسها البقاء بهذا العنوان رغم تحالفها مع الاحتلال الأمريكي والارتباط مع القوى الرجعية ومشاركة السلطات الثيوقراطية والطائفية التي جلبها وسلطها الاحتلال الأمريكي والنفوذ الإيراني على مقاليد السلطة في العراق المحتل.

وفي ظل دستور كرس المحاصصة الطائفية والاثنية وتنعدم فيه فرص التكافؤ الديمقراطي ظلت قيادة "الحزب الشيوعي العراقي" واهمة بالحصول على فرصة ديمقراطية حقيقية للفوز ولو بعدد من المقاعد، بتعداد أصابع اليد الواحدة، طوال السنوات الماضية التي أعقبت الاحتلال فكان حليفها الفشل والتشرذم ، وانشطار الحزب الشيوعي الرسمي إلى عنوانين، الأول كردي شوفيني وانفصالي التوجهات والهوى، والأخر فتح مقره ببغداد ببغداد يستجدي الفرصة من تركة بول بريمر في المحاصصات التي قبلها الحزب في قبوله الانضمام إلى مجلس الحكم بشخص أمينه العام حميد مجيد موسى ولو تحت بتصنيفه الفرعي تحت عنوان طائفي شيعي لإخلال الكفة الطائفية التي رتبها الأمريكيون بزائد واحد بين عدد المنتدبين لسلطة الاحتلال من ممثلي الشيعة والسنة الذين اختارهم بول بريمر وعينهم في مجلس الخمس والعشرين عميلا من عملاء الاحتلال ووضعهم كأداة تنفيذية تحت سلطة وإدارة الاحتلال.

ومنذ ذلك الوقت وبين فترة وأخرى تخرج علينا شخوص ومجموعات من شتى العناوين والكتل والتجمعات السياسية تحمل أسماء شيوعية أو شبيهة متداولة، وقد استهلكت من فرط الاستعمال المبتذل لمضامينها : كالتقدمية واليسار والديمقراطية والمجتمع المدني واغلبها ظلت تدور بفلك طلب الوجاهة والارتباط مع ذلك الحزب الشيوعي الذي تخلى قادته وبمن ارتبط بهم عن جوهر مبادئه السياسية، وتضحيات رفاقه حينما تخلى علنيا عن شعاراته السابقة وأخطأ عندما أدان مقاومة الاحتلال، وارتضى ان يكون جزء من أدوات العملية السياسية المشبوهة و في ما يسمى لعبة الديمقراطية في العراق ألتعددي الذي مزقته أحزاب المحاصصة الدينية متبوعة بذيول الحزب الشيوعي كديكور محنط يستغل اليوم بنشاطاته التضليلية تحت واجهة من التحالفات المسماة " العابرة للطائفية" ، وما تجربة التظاهرات المشتركة والتنسيق مع رموز الاستبداد الثيوقراطي في العراق ومليشياته إلا حالة تؤكد مدى الإفلاس الذي وصلته كل تلك العناوين الشيوعية التي تسمي نفسها اليوم " القوى الديمقراطية العراقية"، تمييزا لها عن بقية مثل: القوى الكردستانية وقوى الائتلاف الشيعي واتحاد تحالف القوى وغيرها من عناوين التكتلات الطائفية الاسلاموية بوجهيها الشيعي والسني.

ولم يتعظ أصحاب مثل هذا المشروع من مجمل خيباتهم وبما حصدوه من نتائج مفلسة في جميع الانتخابات المحلية والبرلمانية، وفي جميع الدورات الثلاث، هاهم يروجون من جديد لانبثاق تحالف انتخابي جديد بعد مؤتمر لهم عقد ببغداد بمبادرة من ( اللجنة التحضيرية لمؤتمر القوى والأحزاب والشخصيات المدنية ) على قاعة فندق فلسطين ميريديان، تحت شعار:
[ الديمقراطية والمدنية صمام الأمان لمستقبل العراق الزاهر].

وانبثق عنه تنظيم جديد يدعي أصحابه انه : ( محطة أولى على طريق بناء تحالف مدني أوسع وعابر للطائفية ) , وبعنوان جديد [ تحالف القوى الديمقراطية المدنية] ومختصره ( تقدم ) الذي أعلن عن تشكيله ببغداد يوم السبت الماضي 28 تشرين الأول/ أكتوبر 2017 .

سبقت عقد المؤتمر مجموعة من والتحضيرات المعلنة منها والسرية ،عبرت عنها التصريحات التي تؤكد بشكل جلي ان التنظيم المزمع تشكيله لا يخرج عن كونه مولودا مسخا يخرج من رحم العملية السياسية القائمة، ولم يراجع أصحابه مواقفهم المخزية من الاحتلال وإدانته، ولم يراجعوا دروس ارتباطاتهم بالعملية السياسية القائمة، بل لازالوا يتمسكون بدستورها الكسيح، كتصريح عضو اللجنة التحضيرية للمؤتمر، عضو المكتب التنفيذي للتيار الديمقراطي، د.حسان عاكف، لـ"طريق الشعب" : ( ... كانت هناك لقاءات وحوارات متواصلة مع عدد من الأحزاب والشخصيات الوطنية بهدف التوصل إلى تقاربات وائتلافات سياسية يمكن ان تنبثق عنها قوائم انتخابية لاحقا. ائتلافات وتحالفات لها دورها المهم في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، مبنية على أسس مدنية وديمقراطية وتعمل ضمن سقف الدستور، و تشكل رقما مهما قادرا على كسر احتكار السلطة ) .

المهم الملفت للانتباه ان القاسم المشترك في كل تصريحات القائمين على المؤتمر هو إقرارهم بالتمسك بسقف الدستور.

وبما ان الإناء ينضح بما فيه وان المسكوت عنه أحيانا قد يتسرب من فلتات اللسان عبر د. حسان عاكف دون لن ينتبه ان هذا التنظيم لا يخلو من أهداف تكوينه ودعمه المالي والسخي من أطراف في السلطة معروفة بأنه يريد المتاجرة بأصوات " القوى الديمقراطية" ووضعها في سلال القوى الدينية المتنفذة بالانفتاح عليها لاحقا في خطوة تالية بعد الإعلان الرسمي عن " تقدم" فيصرح د. حسان عاكف ( التحضير للمؤتمر والمشاركة فيه اقتصر على أحزاب وتجمعات وشخصيات سياسية مدنية من ديمقراطيين يساريين وليبراليين وقوميين تقدميين ) ، مستدركا ( إما بالنسبة للأطراف والشخصيات الإسلامية التي تؤمن بالقيم المدنية وتدعو إلى دولة المواطنة والمؤسسات الدستورية بديلا عن دولة المكونات وترفض نهج المحاصصة، والتي لدينا لقاءات وعلاقات يمكن اعتبارها طيبة مع بعضها، فان العلاقة معها متروكة لحجم التوافقات التي يمكن ان تتبلور بينها وبين القوى المدنية والديمقراطية في الإطار الوطني العام ) .

ومن ذلك يتجلى بأن لا أمل من هذا التحالف، ولن يكون أداة تغيير حقيقي لما ابتلي به العراق بقدر ما يكون احد أدوات المحاصصة القادمة اعترف أصحابه في كلماتهم في المؤتمر التحضيري ان : ( .. هدفه المباشر الدخول في ائتلاف انتخابي سواء على مستوى انتخابات مجالس المحافظات أو الانتخابات البرلمانية، وهدفه الاستراتيجي تشكيل قطب سياسي فاعل وقوي قادر على كسر احتكار السلطة من قبل القوى الحالية المتنفذة" ) .

لقد حضر المؤتمر شيوعيون سابقون ومتقاعدون من العمل السياسي هادوا بعناوين قديمة وجديدة مثلوا قوى وحركات سياسية سموها "مدنية" ومنهم حميد مجيد موسى السكرتير السابق للجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، والدكتور غسان العطية راعي ما يسمى حركة "عدالة" وحضرت عمامة سوداء واحدة بشخص السيد رحيم أبو رغيف وغيرهم.

ومن الكلمات التي ألقيت في افتتاح المؤتمر كلمة اللجنة التحضيرية للمؤتمر ألقاها د. احمد إبراهيم وكلمة الأمين العام للحزب الشيوعي العراقي رائد فهمي عبرت عن مضامين رؤية أحزابهم لهذا التحالف الجديد التي لم تخرج عن التمسك بالبقاء تحت سقف الدستور وما ورد في ثنايا الكلمات بشكل عام لا يحتاج المرء إلى الخوض فيه كونه يعترف بكل صراحة بدعمه العملية السياسية ولم يخجل البعض منهم عن الإشادة والتغني بانتصارات الحشد الشعبي وعن ارتباطه بالعملية السياسية وتوجهاتها العامة والخاصة ويتضح ذلك من قول رائد فهمي :

( ... فنحن الأحزاب والقوى والشخصيات المشاركة في إخراج هذا المولود السياسي الواعد، تحالف القوى الديمقراطية المدنية ( تقدم ) ، عازمون على توحيد جهودنا وحشد طاقاتنا وتكريس كل إمكانياتنا، في سبيل جعل الانتصارات الباهرة لقواتنا المسلحة البطلة، والتشكيلات الشعبية الباسلة المختلفة المساندة لها، ضد تنظيم داعش الإرهابي، محطة أمل ورافعة لإحداث الإصلاح والتغيير، اللذين تنشدهما جماهير شعبنا، من اجل تحقيق الأمن والاستقرار والتلاحم الوطني والتقدم والرفاهية، في ظل عراق ديمقراطي اتحادي ) . وينهي رائد فهمي سكرتير الحزب الشيوعي العراقي كلمته لترديد شعاراته وهتافاته ومنها:

( ...النصر لشعبنا وللقوات المسلحة ولتشكيلات المتطوعين المساندة لها يضم التحالف الجديد : الحزب الشيوعي العراقي، وحزب التجمع الجمهوري العراقي، والتيار الاجتماعي الديمقراطي، والحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الأمة العراقية، والحزب الوطني الديمقراطي ( الأول ) ، وحزب الشعب والإصلاح، والتجمع الديمقراطي العربي، وحزب اتحاد بيث نهرين، وقائمة الوركاء الديمقراطية، وحزب التجمع من أجل الديمقراطية، والمنبر الديمقراطي الكلداني، وتنسيقيات حركة الاحتجاج الشعبي، والحزب الوطني الآشوري، وتيار نداء الرافدين، إضافة إلى عدد من الشخصيات من مختلف التوجهات.

ان التوقف عند كلمة البيان الختامي التي ألقاها د. علي ألرفيعي تسترعي الانتباه بشكل جلي انه لا يخرج بمجمله عن دائرة النفاق السياسي ومحاباة القوى الفاسدة في النظام السياسي الجديد الذي أقامه الاحتلال ورعته تدخلات الدول الإقليمية، وخاصة الموقف من تدخلات حكومة ايران الصفوية وممارسات أتباعها في العراق.

وقد أشاد البيان بصريح العبارات بالحشد الشعبي وتجنب إدانة جرائمه ومسؤوليته عن الانفلات الأمني، وجرى تجاهل مجمل الأخطاء والجرائم التي ارتكبت على مدى أربعة عشر عاما، ولم يدن البيان الختامي ولا حتى الكلمات التي أدلى لها بعض المتحدثين الاحتلال الأمريكي ولا التدخل الإيراني ، وتم تجاهل أسباب سقوط المحافظات بيد داعش بطريقة التسليم المباشر على يد نوري المالكي ، وتفادى التشخيص المباشر والدقيق لمنظومات الفساد الإداري والمالي ووجود المليشيات المنفلتة واستمرار حالات الاعتقالات الكيفية والاحتجاز الظالم لعشرات الألوف من الوطنيين العراقيين وانعدام كامل لسلطة القانون إضافة إلى تجاهل أحوال اكثر من ثلاث ملايين نازح ومهجر، ومنعهم من العودة إلى ديارهم ، كما جرى التغافل عن التدخل الإيراني في شؤون العراق وعودة القواعد الامريكية المنتشرة في شمال وغرب الوطن والموقف المطلوب حسمه من قضية انفصال شمال العراق.

كما ان التطرق إلى خيار التمسك بالتغيير من خلال نفس أدوات السلطة الفاسدة يعكس مدى القبول والتراضي مع مخططات الكتل والتحالفات الطائفية والاثنية التي تلغي تماما مفهوم المواطنة والخيار الديمقراطي الحر والمتكافئ لكل العراقيين من دون إبعاد واستبعاد واجتثاث لأي قوة أو طرف أو حزب أو شخصية عراقية .

وختاما وعلى ضوء ما اشرنا إليه أعلاه فان ولادة مثل هذا التحالف وغيره وفي هذا الظرف السياسي والاجتماعي المعقد في العراق لا يعدو ان يكون تحالفا موسميا وظرفيا حتمته ظروف التهيئة والاستعداد لانتخابات قادمة ،يحتمل تأجيلها في أي وقت، نظرا لظروف العراق المعقدة، ولكن سعي المال السياسي والتحالفات المضطربة مع أقطاب الإسلام السياسي الحاكم التي باتت تتبادل بأدوارها محاولة التشبث بامتيازاتها ولو بإعادة وتدوير وتوزيع بقية قواها في قائمتين أساسيتين أو تحالفين أو اكثر، يسعى كل تحالف منها في استباق الأوضاع بعد تفكك ما يسمى ببيضة ألقبان التي كان يمثلها التحالف الكردستاني الموحد ، بعد تسوية ما لوضع شمال العراق، ولا يستبعد استعمال القوة لتحجيم البرزانيين لصالح قوى الطالبانيين الذين يعانون من تفكك وخسارة كبيرة لقواعدهم في خضم الصراع الكردي الكردي.

وما لم تتوقف كل هذه القوى إلى ان محاولاتها بتجاهل وتغييب قوى المعارضة الوطنية خارج العملية السياسية القادمة فان مطبخ هذه العملية السياسية لا زال يعمل وفق مبدأ بريمر في سلق الأمور دون نضج، وتداهن مبدأ ولاية الفقيه بأكل لحوم العراقيين، ولو كانت نيئة، رغم كل محارق الشواء والمذابح القائمة على قدم وساق في العراق.

ان تحالفات مثل هذه تجري صفقاتها أمام كاميرات التلفزة تنفرط حال خروج أصحابها من قاعات الفنادق الفخمة، تحالفات لا تحمل من مضمون مسمياتها شيئا ستكون ردة وانتكاسة لأصحابها حتى وان اختصرت عناوينها بكلمة " تقدم"؛ طالما ان هؤلاء يديرون ظهورهم لواقع شعب العراق ومعاناته الناجمة عن تبعات الاحتلال والعملية السياسية التي يجب ان تردم والى الأبد ولا بد من الشروع بحوار وطني مسئول وواع للانطلاق بالعراق نحو الأمن والاستقرار والسلام.





الاحد ١٦ صفر ١٤٣٩ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٥ / تشرين الثاني / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب خالد احمد زكي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة