شبكة ذي قار
عـاجـل










ها هي السنوات تمضي ولا أمل لنا بعودة بهاء أيامنا الباذخة، التي مرت كنسمةً في صحراء، وهذا طائر التم يراودنا عما تبقى من أحلام مؤجلة ومجهضة ليحلّق بنا الى ما لا نتمناه من غياب، وما كسبنا من دنيانا سوى محبة الناس وفعل الخير لبني جنسنا، طاردتنا الأوطان ولم نكن نرغب بمفارقة مساءاتها الجميلة وذكرياتها العاطرة، فالتبست علينا أمورها، وتنابزت ألسنة القدح بما لم يكن من خصالنا، وتلك هي محنة الزمن الرديء وانحسار القيم الفاضلة وشيوع مفاهيم النميمة والعقوق والجحود. وما خارت قوانا ولا هانت نفوسنا نحن الذين وردنا من سلسبيل الفرات وتفيأنا ظلال نخيل بساتين الحلة المزيدية، وصرنا كما كنا ابناءً بررة لوطن جدير بالمهابة والعظمة، وسنظل ما حيينا في موكب طموحاته القتيلة إلى أن يأذن الله لنا بغير هذا، ومن حسن الحظ أن الأمل مازال يورق في نفوسنا الظامئة للمستقبل، وكان لنا صحاب أجلاء وأخوة نبلاء أفاضوا على محبيهم بكرمهم، الذي لم ينقطع حتى في أقسى الظروف، لا بل غمروا مبدعي مدينتهم بما يستحقون من رعاية واهتمام وكانوا لهم العون في الملمات والشدائد، وفي الصعاب يتجلى الجوهر الإنساني لمن يستطع معاونة المحتاجين من أبناء أرومته الكثر، وكان هو لا يكفّ عن سؤالي كلما التقيته في مكتبه أو في دارة شقيقه عن أحوال فلان الشاعر وعلاّن الفنان، وحين يطلع على أوضاعهم المزرية يحملني مبالغ قيمـة لأكثر من مستحق، ولست في معرض استعراض موافقة الإنسانية النبيلة، فهو ليست به حاجة لإطراء مني، ولكن ما قلت إلا لكي أصحح ما يتناقله عنه بعض ضعاف النفوس من جوقة الأدعياء والكذابين، الذين كانوا ــ ويشهد الله ــ يتمنون منه كلمة تحية عابرة، ويا ما تدافعوا على باب مكتبه تملقاً واستجداءً، وقالوا عنه في حينه من النعوت والعبارات، التي لا يحتاج إلى عشرها، ولم يرد أحداً جاء لمناشدته طلب مساعدة ما، على الرغم من أن بعضهم على غير انسجام معه في الرأي والتفكير، لكنه إنسان من لحم ودم، وصاحب ضمير نابض بالحب والكرم اليعربي المعروف ...

مرة سألني، وأنا كنت ازوره بين آونة وأخرى كلما هبطت إلى العاصمة، عن أحد فناني الحلة، فنقلت إليه واقع حاله وكثرة عياله وشح موارد أمواله.. تنهد وقال: علينا ان نحفظ ماء وجه الرجل، وبعد أقل من عشرين يوماً هاتفني مدير مكتبه زافاً إليّ بشرى تخصيص راتب شهري لهذا الخطاط المبدع، ومرات كان يفيض عليَّ بكرمه وجمال نصحه ويسألني إن كنت محتاجاً فأشكره على حسن اهتمامه مكتفياً بما أجده من اصدارات حديثة في مكتبته، وذات صباح، اتصل بي هاتفياً أبو داليا الصديق الصدوق وقال لي إن ابا مصعب يود التحدث معك ــ إذ كنت حينها رئيساً لفرع اتحاد ادباء محافظتي بابل ...

قلت له: تفضل أستاذي الكريم ..
قال: عليك ان ترشح عشرة أسماء من شعراء الحلة وترسل ذلك بما تستطيع من عجالة ..
قلت: وما الأمر؟
قال: ان شاء الله خيراً !!
واخترت الاسماء المطلوبة بمشاورة أخي المعموري ناجح لكني أضفت اسمين على الأسماء المقترحة ...
وفي صباح اليوم التالي، اتصل بي مباشرة وقال، بلغة جازمة، إن المطلوب عشرة أسماء فِلم ارسلت أكثر من المطلوب ...
قلت: لعلك تستطيع تمرير الاسمين المضافين ...

لكنه اعتذر بعبارات مقنعة جعلتني أتوقف عن مناشدته المساعدة وختمت مكالمتي بوضع أحد الاسماء المضافة بدلاً من اسمي وفي يوم مفعم بالأمل زف أبو داليا بشرى تخصيص راتب شهري لعشرتنا، هذه التداعيات والذكريات الجميلة كلها نهضت في ذاكرتي وأنا اقرأ [سنين عمّان]، الذي اهداه إليّ مؤلفه الفلسطيني الكريم سليم النجار، الذي يرافق، عبر ثلثمائة صفحة من كتابه، شاعرنا الإنسان في حلّه وترحاله، منذ أن وطأت روحه المكابرة أرض عمّان سكناً وملاذاً من جور المحتل، الذي غزا العراق ودمرّ بنيته التحيتة تحت ذريعة أسلحة الدمار الشامل ونشر الديمقراطية !!!

في [سنين عمّان] تعرفت، أكثر فأكثر، على حميد سعيد الإنسان والشاعر والمثقف الجدير بالاعتزاز، وكان سليم النجار أميناً في تقديم صورة جلية تليق بقامة إبداعية كبيرة، من حوارات متواصلة مع الشاعر الإنسان، كشف، من خلالها، عن عمق معرفي وثقافة راقية تنهل من موروث أصيل، ثقافة غير منغلقة تتلاقح مع ثقافات الشعوب المختلفة، وهذا ما اتضح من خلال ما عبرّ عنه من آراء وملاحظات دوّنها النجار سليم في المنجز الفخم الغني بجديده، الكاشف عن الوجه الآخر لشاعرنا الكبير واسهاماته الجادة في تأصيل المعرفة ونشر كل ما يليق بإنساننا المعاصر، ولست هنا بصدد الاشادة بمنجزه الشعري وعطائه المعرفي ،وأنا الذي ادعي القرب منه، وعدّه المثال والانموذج في ما أرى، فمهمة الإشادة بالمنجز ليست من مهماتي، فهي للنقاد والباحثين والدارسين أصحاب التخصص، وكل ما أقوله هنا هو نثار ذكريات ــ لا حاجة به لها ــ توجب أن أشير إلى بعضها، فهي جزء من تاريخ مشرق أحترمه وأبجلّه، وعلىّ واجب الإشارة إليها والتنويه عنها.

واللافت للانتباه أن شاعرنا الكبير حميد سعيد وعلى امتداد صفحات الكتاب لم يشر، ولو مرة واحدة، إلى ما كان يتعلق بحياته الشخصية وعلاقاته ( العراقية ) ، وهذا يدل على نبل اخلاق أصيلة في منشأ كريم وكان بمقدوره الإضافة إلى صفحات ( سنين عمان ) الثلثمائة بما يساويها أو يزيد من الصفحات، فحياته حافلة بالأحداث وأيامه الغابرة ملأى بالنشاطات واللقاءات والمؤتمرات، التي تفصح عن سلوك إنساني رفيع في محطات عمره المديد، وتلمست، وأنا القارئ المعجب بإبداعه، أن معظم شواهده الشعرية، التي كان يزين بها حواراته الجميلة، هي من عمق تراثنا العربي المشرق الباعث على التشبث بالأمل والنظر الى المستقبل بعيون وقلوب مفعمة بالإرادة ...

وقبل أن أطوي هذه الصفحات لابد من القول أن [سنين عّمان] أضاءت جوانب مهمة من تجربة شاعر كبير أسهم مع جيله الستيني بالحراك المنتج الذي أرسى ثقافة وطن مازالت ثمارها يانعة ورموزها وشخوصها فاعلة في المشهد الثقافي العراقي والعربي. وعلى الرغم من أن عشرات الكتب، التي صدرت، من قبل، أضافت إلى معارفنا الكثير عن حياة الشاعر الكبير حميد سعيد وابداعه، لكن من الإنصاف الإشارة إلى ( الشمعة والدرويش ) كتاب الصديق هشام عودة، الذي تناول سيرة الشاعر ورؤاه للمعرفة والحياة.. على أن سليم النجار في ( سنين عمّان ) ساح بنا كما نشتهي ومنحنا الأمل ببزوغ فجر جديد، فله الثناء والتقدير على ما انجزه، ولحميد سعيد الإنسان الشاعر العمر المديد فما زال اصحابه كثر واحبابه على امتداد أرض الوطن لا يرددون إلا ما قاله الشاعر الشعبي العراقي:
يا كثرة أصحابي من كان ظرفي بي دبس
يا قلة أصحابي من يوم ظرفي يبس
  





الجمعة ٢١ رمضــان ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٦ / حـزيران / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب شكر حاجم الصالحي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة