شبكة ذي قار
عـاجـل










ارتفعت في الآونة الأخيرة حدة السجال السياسي والإعلامي حول أبعاد الوجود الروسي في سوريا وباختلاف التقويمات بشأنه، ذهب بعض أول إلى ربطه باختلال ميزان القوى لغير مصلحة النظام مما اقتضى من حاضنته الدولية رفع وتيرة مساعدته علّه يعيد بذلك بعضاً من التوازن إلى سياقات الصراع، وبعض ثانٍ رأى فيه رداً روسياً مباشراً على اتساع مروحة التدخل الدولي الذي تقوده أميركا تحت عنوان مواجهة الإرهاب وبعض ثالث رأى في تظهير حجم الحضور السياسي واستطراداً العسكري مؤشراً على بداية ولوج مرحلة البحث الجدي في آلية حلٍ للصراع المتفجر وكل لاعب في الصراع يريد ان يحفظ موقعاً له على طاولة الترتيبات نظراً لأهمية الموقع السوري في الجغرافيا السياسية العربية.

إن كل التقديرات المشار إليها تحتمل جانباً كبيراً من الصحة ويمكن أن يؤخذ من كل احتمالٍ، بعضاً، لتكوين صورة واضحة عن أبعاد الدور الروسي في سوريا.

فروسيا منذ انفجر الوضع في سوريا، قدمت نفسها رافعة وحاضنة وأبرز المتكئات الدولية للنظام، وعلاقة روسيا بسوريا ليست حديثة العهد بل تمتد إلى عقود وتربطهما شبكة علاقات اقتصادية وعسكرية وسياسية، وأن سوريا كانت تحتسب في إطار تقاسم مواقع النفوذ الدولي بأنها من الحصة السوفياتية سابقاً والحصة الروسية حالياً. وبالتالي لا يمكن لموسكو أن تقف متفرجة، وهي ترى تداعي وانهيار آخر حبة في عقد النظام الإقليمي الذي بلغ مراحل متقدمة في انفراطه ويجري العمل على إعادة تركيب نظام إقليمي ( والمقصود عنا عربي ) يحاكي المتغيرات الدولية والإقليمية التي نتجت عن سقوط مرتكزات النظام الدولي الذي كان قائماً على ثنائية استقطابية.

إن الروس يدركون جيداً، أن انهيار النظام الإقليمي الذي كان متكيفاً مع النظام الدولي السابق أصبح حقيقة قائمة خاصة بعد إسقاط الموقع العراقي بتدخل خارجي، اتخذ شكل الاجتياح والاحتلال. وبالتالي فإنهم ليسوا بعيدين عن قراءة التداعيات السياسية والناتجة عن هذا الإسقاط.

وكما كان مقدر لهذا الإسقاط للموقع العراقي أن يؤدي إلى جعل مواقع عربية مشابهة في تركيبها البنيوي تقع تحت تأثير الهزات الارتدادية للزلزال العراقي وأولها الموقع السوري، كان مقدر أن يؤدي هذا الإسقاط إلى توسيع مساحة الفراغ في الواقع القومي وبما سهل لقوى الإقليم المتاخمة للوطن العربي من التقدم والتدخل بأشكال مختلفة لملء هذا الفراغ.

كما انه بقدر ما أدى إسقاط الموقع العراقي إلى انكشاف المواقع العربية التي حسبت نفسها أنها ستكون بمنأى عن التأثيرات السلبية لذلك الحدث الكبير وأدركت مؤخراً بأنها "أكلت يوم أكل الثور الأبيض" كان انتفاخ أدوار قوى الإقليم، الإيراني أولاً والتركي ثانياً نتيجة طبيعية لذلك الإسقاط.

وانطلاقاً من هذا المعطى، بادر النظام الإيراني لتقديم نفسه وفي وقت مبكر، بأنه لاعب أساسي في الداخل العربي، ليس استناداً إلى ميزات الموقع الجغرافي وحسب، بل بتقديم نفسه مرجعية ( مذهبية – سياسية ) لمكونات مجتمعية عربية وتوظيفها كجاليات سياسية لتنفيذ أجندته الخاصة والتي تستمد باعثها من استراتيجية قديمة – جديدة ترى بأن العمق العربي هو مدى حيوي للنفوذ الفارسي والمعبر الأقصر إلى المتوسط.

لقد جاءت التطورات المرتبطة بالصراع على الأمة العربية وفيها لتخدم الدور الإيراني بصيغة أو بأخرى، ومعها بات النظام في طهران يعيش وهم أن إيران هي "قوة عظمى" وعليه يجب أن تكون شريكاً أساسياً في الترتيبات السياسية والأمنية في سياق إعادة صياغة النظام الإقليمي الجديد، ومما خدم هذا الاتجاه هو المفاوضات حول الملف النووي التي جاءت لتصب في حوض تكبير حجم الدور الإيراني.

ومن سوء طالع النظام في طهران أنه وقع أسير هذا التضخيم الإعلامي لحدود دوره، وعبر عن ذلك على لسان أرفع المسؤولين فيه، بالقول أن إيران باتت تسيطر على أربعة عواصم عربية – بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت وأن بغداد ستعود عاصمة للإمبراطورية الفارسية كما كانت في التاريخ.

لقد بقي هذا الخطاب السياسي يتصدر عناوين الموقف الرسمي للنظام خاصة في الفترات التي اندفع فيها النظام أصالة ووكالة للعب دور محوري في الصراع في العراق واليمن وسوريا والبحرين ولبنان، إلى أن حصل الاستحقاق الذي تمثل بدخول الاتفاق حول الملف النووي مراحله النهائية، والتي بدأت كتابة بنوده قبل عام من التوقيع النهائي عليه.

هذا الاتفاق الذي اختلفت التقويمات بشأنه أيضاً حول حدود الدور الإيراني، فإنه وأن أعطى لإيران حقوقاً بالأساس حقوق وطنية لها سواء لجهة تحرير الأرصدة المجمدة أو حيازة التكنولوجيا النووية ضمن الضوابط الدولية التي تحول دون امتلاك إيران للسلاح النووي.

فإن كل المعطيات تبين أن النظام الإيراني لن ينال أكثر مما هو مسموح له دولياً. وهذا مرده جملة عوامل:

أولها: أن ميزان القوى في مفاوضات الملف النووي ليست في مصلحة الطرف الإيراني، وثانيها: ان الساحات التي كانت تعتبرها إيران مسرح عمليات سياسية وأمنية لها في العمق العربي بدأت بالارتجاج تحت إقدامها منذ دخول المفاوضات حول الملف النووي المرحلة الأخيرة من الاتفاق. فمن اليمن انطلقت "عاصفة الحزم" لتحاصر عناصر التأثير الإيرانية أصالة ووكالة ولتعيد ترتيب الوضع اليمني ضمن ضوابط القرار الدولي والمبادرة الخليجية ومندرجات الحوار الوطني.

والى العراق الذي كان النظام الإيراني يتدخل في كل تفاصيل أوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والدينية ويتصرف قاسم سليماني وكأنه حاكم ظل للعراق انتفض شعبه تحت عنوان القضايا المطلبية وأولها محاربة الفساد، عمد حراكه إلى استحضار عناوين المسألة الوطنية التي تؤشر على مصادر الخطر الفعلي على العراق انطلاقاً من ربط الفساد والإفساد بالاحتلال الأميركي وإفرازاته، والوجود الإيراني وتدخلاته.

ومن البحرين التي همدت فيها موجة التحريض السياسي والإعلامي، إلى سوريا الذي يعتبرها النظام الإيراني قاعدة ارتكازية لنفوذه السياسي في المشرق العربي، بدأت دفاعات النظام مع كل أشكال الإسناد الإيراني المباشر وتلك التي استقدمت إلى سوريا بقرار إيراني تتهاوى ومعها بدأت تضيق المساحات التي تسيطر عليها قوات النظام وتلك المشاركة في القتال معه.

إنه من خلال قراءة تطورات الوضع الميداني وما أفرزته من نتائج سياسية، تكشفت صورة أن النظام الإيراني قد غرق وأغرق معه القوى التي استحضرها في المستنقع السوري، وأن وضعه الراهن لا يحسد عليه وأن كابر بالاعتراف بذلك.

في ضوء هذه المعطيات التي أفرزتها وما تزال الساحات التي ينخرط النظام الإيراني في صراعاتها، لا تبدو أن الكفة تميل لصالحه بل العكس هو الحاصل، وهذا أن دل على شيء فإنما يدلل على أن دوره قد بدأ بالارتجاج وهي المرحلة التي تسبق عادة السقوط أو التهاوي. وبالتالي فهو سيعود إلى حجمه الطبيعي بعد أن يكون قد أدى وظيفته وكان موضع تزيين لمن كان يراقب أبعاد الدور الذي أضعف التماسك الوطني العربي وأجج المشاعر المذهبية والطائفية وساهم في خلق بيئة لنمو حركات مذهبية وطائفية تمارس الترهيب السياسي والديني انطلاقاً من مفهوم التكفير.

وعندما يرتج دور النظام الإيراني الذي كان يعتبر من ضوابط الإيقاع السياسي في الساحات المنخرط في صراعاتها، فهذا لا يبقي تأثيره منحصراً فيه وحسب بل يطال كل المنظومات التي كان يتكئ عليها ويعمل على تقوية مرتكزاتها، ومنها النظام الحاكم في سوريا.

إذاً، أن وضع النظام السوري قد ضعف جداً، وعندما يضعف هذا النظام، تضعف أوراق القوى الإقليمية والدولية التي تستند إليه في تبرير تدخلها السياسي أو غيره في الصراع في سوريا، ومنها روسيا.

إن روسيا تدرك جيداً أن تدخلها في سوريا لم يكن ليصل لهذا الحجم لولا العلاقة الخاصة مع النظام، وهي منذ اندلعت الأزمة كانت في حالة جهوزية عالية سواء على صعيد المتابعة السياسية وأخيراً على صعيد تفعيل الدعم العسكري، والتطور النوعي الذي طرأ على الموقف الروسي مؤخراً أملته جملة مبررات:

المبرر الأول : ان روسيا تريد أن توجه رسالة للغرب الدولي وخاصة أميركا بأن النظام في سوريا أو ما تبقى منه ما يزال يحظى بتغطية قوية من روسيا.

المبرر الثاني : ان روسيا لا يمكنها أن تقف متفرجة أمام توسع دائرة المشاركة الدولية ولو الرمزية في الحملة على "داعش"، والتي يمكن أن تطال بشظاياها المنظومة الحاكمة أو مواقع حيوية لها، وسوريا مصنفة اساساً ضمن ما يعتبر مناطق نفوذ روسية وللأخيرة قواعد عسكرية فيها.

المبرر الثالث : أن الذي حفز تفعيل الدور الروسي وتسليط الضوء على المستشارين وهم موجودون أصلاً، باعتبار أن روسيا هي مصدر التسليح الأساسي لسوريا وتوسيع المطارات وزيارة الشحنات العسكرية وتنفيذ عقود تسليح كانت مجمدة، هو الدور العسكري الذي بدأت تلعبه تركيا والذي تعتبره روسيا الأخطر باعتباره يمارس دوره على الأرض وبتغطية من حلف الأطلسي التي تركيا عضو فيه.

المبرر الرابع : ان روسيا وهي التي تمسك منذ فترة ملف المفاوضات حول الأزمة السورية، تعرف جيداً أن هذا الصراع لن يبقى مفتوحاً إلى ما لا نهاية، وهو بالتالي لا بد وأن تنفتح أبوابه الموصدة. وأن ضعف المتكئ الداخلي الذي تستند إليه الأطراف الخارجية في تدخلها يضعف من أدوار الأخيرة وبالتالي حصصها في الامتيازات السياسية والأمنية والاقتصادية. وطالما أن هذا الصراع قد أصبح مدولاً بامتياز فإن روسيا هي الطرف الدولي الذي يمكنه ممارسة حق نقض واقعي في مقابل الاصطفاف الدولي الذي تقوده أميركا، وبالتالي فإن روسيا كطرف دولي هي من يجب أن يقبض الثمن الأساسي في تظهير حل سياسي وليس أي طرف آخر ممن هو محسوب على هذا المحور وتحديداً النظام الإيراني.

وإذا، كانت روسيا تريد أن تقبض ثمناً بما يتعلق بنتائج الحل السياسي، فلأنها أقدمت مسبقاً على دفع ثمن بما يتعلق بالملف النووي الإيراني والملف الكيماوي السوري.

إن هذين الملفين، أنجزا قبل ولوج طريق الحل السياسي وهما حصة "إسرائيل" المستعجلة من الترتيبات التي ستفرض في إطار إنتاج النظام الإقليمي الجديد. وأميركا التي قبضت مسبقاً من الروس موقفاً حول هذين الملفين واللذين يعتبران من ثوابت استراتيجيتها القائمة على حماية أمن النفط وأمن "إسرائيل" لا تجد غضاضه في منح الروس دوراً في ترتيبات سياسية لإنتاج نظم لم تعد مواقعها تشكل في المدى المنظور تهديداً للأمن الإسرائيلي، طالما أن المواقع الأساسية قد جردت مما يعتبر سلاحاً استراتيجياً وطالما الجيوش العربية قد جرى تدميرها أما بالاحتلال وأما بزج الجيوش في صراع داخلي تنفيذاً لإرادة سياسية لم تستجب للإرادة الشعبية بالإصلاح والتغيير.

على هذا الأساس، فإن الحضور الروسي لا يزعج أميركا كثيراً وسيكون عاملاً مساعداً في تسريع إنتاج حل سياسي، وإذا كان من كلام يقال فيه، فإن هذا التدخل وهو الموجود أصلاً لم يكن ليصل إلى هذا المستوى لولا حالة الانكشاف الوطني الذي تعيش سوريا تحت وطأته، والتي حولها من موقع فاعل إلى موقع منفعل، ومعه تحولت إلى ساحة جاذبة لكل أشكال التدخل الإقليمي والدولي.

وإذا كان هناك من سجال يدور حول صيغة الحل السياسي، فالصيغة الأكثر مقاربة والتي ما تزال تحظى بالتغطية الدولية هي صيغة جنيف واحد. وهذه الصيغة يلاحظ فيها شيئان، أنها لا تلحظ حضوراً إيرانياً على طاولة الترتيبات وأن جرت الاتصالات معها في القاعات الخلفية، كما انه لا حل متاح إلا عبر هيئة الحكم الانتقالي. فالنظام قد سقط وأن كان لم يزل موجوداً بقوة الأمر الواقع، وإذا كان من إيجابية تسجل للدور الروسي وأن زاد من حضوره العسكري والسياسي فهو الحد من الاندفاع لفرط ما تبقى من هياكل الدولة السورية. والتي يجب أن يبقى كي يتم إعادة إكسائها بثوب سياسي جديد والتأسيس على ذلك لإطلاق عملية شاملة لإعادة البناء السياسي على قاعدة التعددية والديموقراطية وإعادة البناء الاقتصادي التي تحتاج إلى مشروع "مارشال" مجازاً.

إننا لا نرى في الدور الروسي الجديد عملاً سلبياً، إلا إذ اندفعت الأمور نحو الأسوأ ودخلت قوى دولية أخرى مباشرة على خط الصراع وخاصة العدو الصهيوني، فالعدو الصهيوني وأن كان يعتبر نفسه قد قبض "نصيبه" من التركة، وهو يراقب مغتبطاً ما آلت إليه الأوضاع في سوريا، إلا أن ترقبه لا يعني أنه لا يحضر نفسه للتدخل بقرار ذاتي أو بقرار دولي إذا ما تطورات الأمور نحو نتائج غير محسوبة.

لذا فالإسراع نحو تظهير حل سياسي يضع حداً لهذه المأساة الإنسانية التي يقف العالم على مشهدياتها الكارثية بشرياً واقتصادياً، كما هو التي يحد من تمادي الخسائر ويحول دون سيلان لعاب الدول للتدخل في لعبة تقاسم المصالح في لعبة الأمم بجولتها الجديدة.





الجمعة ٤ ذو الحجــة ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٨ / أيلول / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المحامي حسن بيان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة