شبكة ذي قار
عـاجـل










كنت قد آليت على نفسي أن لا أشتم أحداً من العملاء والمأجورين من حرس الاحتلال، الذين سُلِّحوا بألسنة حداد، يفترون على الله وعلى الناس هيازعاً من الأكاذيب والتلفيقات، والمزورين الذين تتلمذوا على مكر الشعوبية وأضاليلها؛ الذين جندوا أقلامهم يصارعون بها الحقيقة إرباكا للتاريخ من أجل تزييف وثائقه، والذين جُهزوا بأسلحة الغدر والضغينة، من المتعطشين للدماء والرذيلة، ينحرون بها رقاب الأبرياء، ويغتصبون، بفعل سطوتها وطغيانها، شرف العفيفات الماجدات، والأخساء الأدنياء الذين تكالبوا كالذباب على حقوق الغير يأكلونها سحتاً حراماً غصباً وعدوانا، والذين عشقوا التسول واتخذوه حرفة، فأول ما فقدوا قطرة الحياء، ثم باعوا شرفهم قبل وطنهم. فأما الرعاع الجهال الراكضين خلف كل ناعق فلا شأن لي بهم، فهم كالأموات.


وما دفعني إلى هذا أني وجدت ذكر أحدهم بخير أو شر، يجعل له قيمة وقدرا، وهم بكل الأعراف لا قيمة لهم ولا قدر، إلا ما كان من إنسانيتهم المجردة من الملحقات والمتممات، ومن لا تتسربل إنسانيته بمتمماتها وملحقاتها من فطرة سوية ووعي يختطان لها منظومة سلوكية، ويمنحانها قدرة على إدراك الحقائق الكونية، فليس لها إلا الرفق كأي كائن حي؛ لا يعذب ولا يجوَّع ولا تنتهك حرماته، وليس له غير هذا من حق على غيره.


لكني اليوم مستثار بما يجعلني أحتال على إرادتي كي أجد مبرراً أخرج فيه عما ألزمتها به من قبل، والذي أثارني أني كنت بالأمس استعيد مع ما قد سطرت عن حقبة من الزمن استهلكت خلالها أعز سني عمري، باذلاً لها عن وعي وإدراك وقناعة، تلك هي فترة الحكم الوطني، بين عامي 1968 و2003م، التي أعادت العراق إلى مساره التاريخي الحضاري، قبل أن تزلزل به الأرض فيقصيه الغزاة المتوحشون عن مساره إلى حيث الانحراف والتراجع والسلبية والتخلي عن دوره الحضاري مرّة أخرى.


والتي ألزمتني العودة لما عدت إليه هي الذكرى السابعة والستون لمناسبة هي في غاية الأهمية والخطورة، بما تحمله من الدلالات والحقائق عن طبيعة واقعنا العربي قبيل منتصف القرن العشرين، تلك هي ذكرى الأمل الذي تجسد على أرض الواقع آنذاك، ففتح الباب أمام طلائع الأمة كي تمارس دورها وتأثيرها في قيادة جماهير الأمة المعذبة والمشتتة، بل والمغيبة عن أداء أي دور لها مهما كان بسيطاً وساذجاً في تقرير مسارها أو حتى تعديله، ليس بالأماني والأحلام، بل بالفعل والنضال والكفاح الدامي والتضحيات الجسام، التي تسترخص عند ذوي الهمم العظيمة والإرادات الجبارة، فمنعوا أمتهم من أن تسقط في مهاوي الردى، والتي كانت على شفا جرف هارٍ منه، بعد عصور من التخلف والانحطاط والانحراف وإرغامها على التخلي عن أداء دورها الرسالي، وبعد أن مكنت نتائج الحرب العالمية الأولى قوىً استعمارية من تسيّد الأمة بعد تمزيقها وتحويلها إلى أقطار تتناحر أنظمتها الهزيلة فيما بينها، في الوقت الذي تقدم جميعها فروض الطاعة والخنوع لأولي أمرهم من المستعمرين، الذين وإن اختلفوا على مصالحهم، فإنهم لم ولن يختلفوا على دفع الأمة العربية باتجاه المزيد من التقهقر والتخلف والانحطاط، ومنعها من محاولة استرجاع دورها الإنساني الحضاري، مهما تكلفوا في سبيل ذلك من تضحيات وخسائر.


تلك هي ذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي أغرى الجماهير العربية بالخلاص مما هي فيه، ودفع بها لتلك الغاية النبيلة، بعد أن اختط لها طريقاً واضحاً لا لبس فيه، حين دلّها على أن أسباب نصرها تكمن في استعادة وحدتها وحريتها وتحقيق العدالة الاجتماعية في ربوعها، وبعد أن فجر لها ينبوعاً نقياً صافياً ينهل من رسالتها السماوية، التي بلغها المصطفى ( ص )، بعيداً عن الدسائس التي حاكها اليهود والصليبيون والمجوس، التي آزرتها العثرات التي حفرها عشاق الجاهلية في طريق العرب فأعجزوهم عن النهوض برسالة الإسلام، حين فرقوا جمعهم وحولوهم طرائق قددا.

 

ثم قاد البعث كفاح الأمة الدامي بنجاح منذ ذلك الحين، بعد أن أوجد لها طلائع حملت همومها بإخلاص وأمانة واقتدار بعد أن طهرت وعيها وسلوكها من أسباب التخلف والتخلي عن أداء الدور بنكرات الذات ونبذ سلوكيات التجزئة ونتائجها.


ويقيناً فإن الأمة لا تواجه أعداءها والمتربصين بها اليوم، ولا تقف صامدة بوجه المؤامرات الماكرة التي تحاك من قبل الطامعين بخيراتها، إلا بفضل ما قد تملكته جماهيرها من وعي وإرادة وتصميم، هي جميعاً من ثمرات نضال البعثيين الأصلاء وكفاحهم وجهادهم في كل أرجاء الوطن العربي على مدى عمر البعث المبارك، بعد أن اختُبروا فنجحوا حين اختُبرت معهم كثير من القوى التي حملت أجمل الشعارات فلم تحقق شيئاً مما وعدت به، فحتى التي تملكت منهجاً صائباً لم تكن قادرة على خلق من ينهض به.

 

فلولا تلك الثمرات لما صمد جزء واحد في جسد هذه الأمة بوجه الأعداء، ولتحولت أجزاء الأمة إلى أشتات وشراذم، ولأبكت على حالها حتى الحجارة الصماء.


فأما الذي جعلني أخرج عن ثوابتي في الإحجام عن مناكفة من لا أجد له قيمة ولا قدرا، فذلك أني كنت قد استذكرت من بين ما استذكرت من نضال البعثيين وكفاحهم وإخلاصهم في حبهم لأمتهم، سعيهم وإصرارهم على صيانة وعاء حضارتهم وعنوان مجدهم وحروف تاريخهم : لغتهم العربية؛ لغة القرآن الكريم التي نزل بها الوحي من السماء. واستذكرت الرعاية والعناية التي كان المجمع العلمي العراقي يحضى بها من قادة العراق، واستذكرت قانون الحفاظ على سلامة اللغة العربية رقم (64) الذي صدر في 28 نيسان 1977م، الذي ألزم الوزارات ومايتبعها من الدوائر الرسمية وشبه الرسمية والمؤسسات والمصالح والشركات العامة والجمعيات والنقابات والمنظمات الشعبية " بالمحافظة على سلامة اللغة العربية، واعتمادها في وثائقها ومعاملاتها وذلك بجعل اللغة العربية وافية بأغراضها القومية والحضارية". كما ألزم المؤسسات التعليمية بكافة مراحلها الدراسية اعتمادها " لغة للتعليم وعليها أن تحرص على سلامتها لفظاً وكتابة وتنشئة الطلاب على حسن التعبير والتفكير بها، وإدراك مزاياها والاعتزاز بها". كما ألزم مؤسسات النشر والإعلام العناية بسلامتها، ألفاظاً وتركيباً، نطقاً وكتابة، وتيسيرها للجماهير وتمكينهم من فهمها.

 

ولم يقف حب البعثيين للغتهم عند هذا، بل لقد نصت المادة الخامسة من القانون على أن: " تكتب باللغة العربية العلامات والبيانات التجارية وبراءات الاختراع والنماذج التي تتخذ شكلاً مميزاً لها، كالأسماء والإمضاءات والكلمات والحروف والأرقام وعنوان المحال والأختام والنقوش البارزة. ولا يجوز تسجيل علامة تجارية تتخذ أحد هذه الأشكال إلا إذا كتب باللغة العربية على أن ذلك لا يمنع من طلب تسجيل علامة مكتوبة بلغة أجنبية إلى جانب اللغة العربية بشرط أن تكون اللغة العربية أكبر حجماً وأبرز مكاناً منها".

 

ولم يكن البعثيون في حبهم هذا للغتهم عنصريين، يستهينون بثقافات غيرهم، إذ نصت المادة العاشرة من ذلك القانون على أن: " يراعى في تطبيق هذا القانون أحكام القوانين والأنظمة الخاصة بمنطقة الحكم الذاتي في كردستان". وقد جاء في الأسباب الموجبة لتشريع هذا القانون:"... ولما كانت القيادة السياسية لثورة السابع عشر من تموز تدرك بعمق مسؤولياتها القومية والحضارية، ومهماتها في صيانة اللغة العربية باعتبارها تأكيدا لشخصية الأمة ولمقومات ذاتها، وعاملا من عوامل وحدتها. وبناء على ما اقترحه المجمع العلمي العراقي في نطاق خطة للنهوض باللغة العربية استجابة لتوجيهات مجلس قيادة الثورة، فقد تم تشريع هذا القانون".


وقد اعتصرني الألم وشعرت بالخيبة وأنا استعيد ذكريات من أيام الاحتلال كالحة السواد حين امتلأت شوارع بغداد بإعلانات مطبوعة مثبتة على مساند حديدية كتبت عليها الآية (13) من سورة الصف محرفة بالصيغة التالية : ( فتح من الله ونصر قريب ) تحريفاً لقول الله تعالى : { وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّـهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ }، ثم ما أقدمت مديرية الاستخبارات العسكرية التابعة لحرس الاحتلال على تضمين شعارها آية أخرى محرفة من كتاب الله، حين وضعوا ( واتيناك بلحق وانا لصادقون ) تحريفاً لقوله تعالى في سورة الحجر{ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ }.

 

وقد عللت في حينها - كما فعل غيري - تلك الأفعال بطبيعة النهج الشعوبي الفارسي المبني على الكيد بالإسلام وحاملي رايته العرب منذ ذهاب ملكهم بسيوف العرب المسلمين في معركة القادسية الأولى وما تبعها من معارك لتحرير العراق سنة 14هـ/636م، ومن تلك المكائد وأخطرها قولهم بتحريف القرآن الكريم، وقد بذلوا لأجل تسويق تلك الفرية، عصارة عقولهم الشيطانية على مدى قرون عديدة، لكن الله خيب مساعيهم. ولا يخفى على أحد أن الحثالة التي أتى بهم الغزاة وجعلوا منهم حكاماً للعراق تحت أمرهم وسطوتهم ليسوا سوى عملاء أيضاً لعبدة الشيطان من الفرس، فهم كالزانيات تبيع نفسها لكل صاحب نزوة وباذل للمال.


لكني وجدت بغداد اليوم دامية القدمين دامعة العينين، وهي تستذكر تلك الأيام الجميلة من تاريخها الطويل المليء بالمآتم كما هو مليء بالأعراس. وأقرب ذكرياتها تلك التي عاشتها في ظل أبنائها البعثيين، الذين لم يخدمهم أحد على مرّ تاريخهم، لكنهم كانوا خدماً لأمتهم بكل عناوينها، أينما تطلبت الخدمة والتضحية، بذلوا زهرات شبابهم من أجلها، ولقد استحوذت بغداد على خدمة من البعثيين ربما لم تنلها حتى في زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد، منحوها أعمارهم فعمروها وأعادوها قلعة للعروبة والإسلام والإنسانية، يلوذ بها كل خائف، وتعتصم فيها كل حرّة يتهددها الطغيان، وفاح من جنباتها عطر العقول ونتاج الفكر، وشمخت منائرها وتعالت تكبيراتها في الأرجاء، فأعادوا لها سابق مجدها وعزها وزهوها، لكن أحداً منهم لم يطالبها بثمن لقاء تضحياته تلك، فما استحوذ أحد منهم على بيت فيها، ولا اغتصب منها شارعاً، ولا أضحى أحد منهم تاجراً بعد كفاف. فهلا تعذر بغداد حين نحيبها !!


وقد اكتشفت لنحيبها سبب آخر، إذ استلفتتني ملصقات كبيرة وقد غزت شوارعها وجدران أبنيتها، تحمل صوراً لنكرات رضعوا لبنها ثم قضموا بعد ذلك ثديها، ثم تمادوا فاغتصبوا كل شيء فيها، إعلانات مليئة بالأكاذيب والحيل والأضاليل، ومنها إعلان لكتلة يتزعمها صالح المطلك، تتسمى بالعربية ، وهي تعتدي عليها ، فقد وضعت في صدر إعلانها هذا عبارة تقول ( إذا ذُلت العرب ذُل الإسلام )، ولم أجد أحد ممن كانوا يتبجحون بحبهم للعربية يعترض على ذلك الشعار السفيه ، ولم تعرض لنا إحدى الفضائيات، التي ربما صار عددها يقارب عدد العملاء الذين تنكروا للعروبة والإسلام، استنكاراً أو حتى تصحيحاً لتلك العبارة، كما لم نجد من يعبر عن اعتراضه على أقل التقديرات بتمزيق الجزء الذي يحمل تلك العبارة المضللة في واحدة من تلك الإعلانات القريبة من محل سكنه أو عمله.

 

فالإسلام لا يذل بذل المسلمين، لأنه عقيدة وشريعة أنزلها الله تعالى، وهو حافظ لها، كذلك العروبة فهي لا تذل بذل العرب، لأنها ليست فقط أصل في النسب الإنساني المجرد، بل هي قيم وثقافة وحضارة وتاريخ وعقيدة في الحياة، فالسومرية لم تذهب بذهاب السومريين، والأكدية كذلك لم تذهب بذهاب الأكديين.


فمن أين جاء المطلك بهذه العبارة التي تنطوي على مغالطة كبيرة؟ هي ربما تظليل كان متعمداً، يستهدف الاستخفاف بوعي العراقيين، سببه الوهم الذي استحوذ على عقول حرس الاحتلال بأن شعب العراق جاهل ومتخلف يمكن تظليله بعبارة كهذه من أجل استدرار عطفه ليمنحهم صوته الانتخابي، دون الحاجة إلى تزوير وضغوط وتهديدات ومحاربة في أسباب الرزق، أو إغراءات بمكاسب مادية ومنافع شخصية. أو هو ناتج عن جهل وسطحية في تفكير هؤلاء الذين لم يجد الغزاة بديلاً لهم، ممن يقدمون لهم خدمات العمالة في مسار مشروعهم الشيطاني الكبير الهادف لذبح العروبة والإسلام، وهما عصيان على الذبح والتغييب.

 

وفي الحالين حق لبغداد أن تنحب فتبكي كل محب لها ولتاريخها وحضارتها وأصالة انتمائها، إذ لا تترتضي لنفسها أن يحكمها أمثال هؤلاء الأراذل المدنسين.

 

 





الاربعاء ٩ جمادي الثانية ١٤٣٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٩ / نيســان / ٢٠١٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حديد العربي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة