شبكة ذي قار
عـاجـل










 

عندما نشر الكاتب الإنكليزي كولن هنري ولسن (1931-) باكورة أعماله "اللامنتمي" في عام 1956، أحدث ضجة نقدية قوية. حيث أن ولسن نظر إلى "الأنا" من زاوية مغايرة في الفلسفة الوجودية. إذ أن مؤسس الوجودية سورين كيركيجارد (1813-1855) ركز على الذات الفردية كونها حقيقة الإنسان التي يستقل فيها عن كل شيء موجود، فهي كيانه الوجودي في هذا العالم. أما مارتن هيدجر (1889-1977) فقد إنتهى بمقولته إلى "الكينونة في العالم" كمركز مستقل بالعقل والأخلاق. بينما رأى جان بول سارتر (1905-1980) إن "الإنسان غير مجد" تجاه هذا العالم السائر على وتيرة واحدة لا تتغير قط. ونص ألبير كامو (1913-1960) على أن الإنسان غريب عن هذا العالم جملة وتفصيلا. وهكذا دواليك مع بقية الفلاسفة والمفكرين الوجوديين، فجاء كولن ولسن بقراءة وجودية هي أقرب إلى الأدب من الفلسفة، حيث يُظهر فيها عزلة المبدعين عن محيطهم الأسري والإجتماعي من ناحية، وسلسلة التساؤلات التي لا تنقطع في نمط تفكيرهم من ناحية أخرى.

 

وعندما أثبت جدارة بحثه في سياق رؤيته إلى اللامنتمي، كتب في هذا الإتجاه المؤلفات التالية: "الدين والتمرد"، 1957. "عصر الهزيمة"، 1959. "قوة الحلم"، 1962. "أصول الدافع الجنسي"، 1963. "ما بعد اللامنتمي"، 1965. وبذلك يكون ولسن ليس فقط قد أكمل الأبعاد الرئيسة المتعلقة بشخص وفكر اللامنتمي، وإنما قد وضع تكميلاً لتصوراته وقرآءته الجديدة ذات السياق الوجودي.

 

على أي حال، يرى كولن ولسن أن "اللامنتمي هو الإنسان الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واهٍ، وهو الذي يشعر بأن الأضطراب والفوضوية أكثر عمقاً وتجذراً من النظام الذي يؤمن بهِ قومه، لكنه ليس مجنوناً. أنه فقط أكثر حساسية من الأشخاص المتفائلين صحيحي العقول". بمعنى أن اللامنتمي ينظر إلى العالم على أنه معقولاً فوضوياً وليس منظماً جوهرياً. وهذه النظرة تجعله أكثر عمقاً في فهم الواقع من الآخرين الذين ينشغلون دائماً بتفاصيل الحياة اليومية. أن اللامنتمي يجابه هذه الفوضى ويعترف بحقيقتها رغم كل شيء. وهذا الموقف المبدئي مهم في إمكانية عملية الإصلاح، لكن يبث فيه شعوراً كئيباً، لأنه ملتزم بقول الحقيقة دون مواربة أو دوران.       

 

ويؤكد ولسن أيضاً في مستهل الفصل الأول بأن "اللامنتمي هو مشكلة إجتماعية"1. حيث يبحث عن "الحرية"، ويريد أن يكون حراً بالمعنى الروحي العميق. فالحرية بالنسبة إلى اللامنتمي تقترن بالدين لا بالعقل. فالعاقل الذي يمارس الحرية السياسية مثلاً، ليس حراً روحياً. وبالتالي فإن الحل الذي يبغيه اللامنتمي إلى مشكلة الحرية يجده في الدين فقط. إذ أن "جوهر الدين هو الحرية". أما المشكلات الأخرى، فحسب رأي اللامنتمي، إن الدين ليس بإستطاعته أن يقدم أجوبة أو حلولاً لها. 

 

ومن هنا ينص ولسن قائلاً: أن "اللامنتمي يميل نحو التعبير عن نفسه في مصطلحات الوجودي. فهو لا يهتم كثيراً بالتمييز ما بين الجسد والروح، أو الإنسان والطبيعة. أن هذه الأفكار تنتج تفكيراً لاهوتياً وفلسفياً، هو رافضاً لكلاهما. بالنسبة إليه، أن التمييز الوحيد الذي يهمه بين الوجود والعدم".2

 

لقد تناول ولسن في كتابه العديد من الفلاسفة والأدباء أمثال: نيتشه، دستوفيسكي، سارتر، همنغواي، كافكا، وليم جيمس وغيرهم. حيث يستعرض أفكارهم أو شخوص رواياتهم في تفسيرات وتعريفات وجودية تهتم بالجوانب النفسية والأدبية أكثر منها إلى علوم العقل والمنطق. ولذلك تجد بحثه يتميز بأسلوب عالي التعبير، أدبي التركيب النصي. فعن قضية الوجود والعدم، يتناول بطل باربوس الذي يرى أن "الموت هو أهم الأفكار كلها". وإن الحرية لا تتعلق بما تفعل وتريد، بل إنها قوة الإرادة التي تظهر في أي ظرف يحدد الإنسان ويبعث الحياة في إرادته. وهذا ما كان يردده شوبنهاور أيضاً. ففي مسألة "الشيء في ذاته ومظهره" يشير الأخير عن نفسه وعن بقية الفلاسفة قائلاً:

 

"أن الشيء في ذاته يدل على وجوده الذي يستقل به عن إدراكنا، حيث يكون في الواقع. بالنسبة إلى ديموقريطس كانت هي المادة. وهذا هو المبدأ الأساسي الذي أستمر إلى وقت جون لوك، ثم جعلها عمانؤيل كانت مجهولة. وبالنسبة لي فإنها الإرادة".3

 

ولا غرو إن وجدنا ولسن يقول: "أنا أعتقد بأن الفلاسفة أمثال عمانؤيل كانت أثروا بأسوء الامكانيات على الفلسفة الغربية". لأن محور اللامنتمي نفسي يتعلق بالشعور والأحاسيس والوجدان والعاطفة، بينما محور كانت ذاتي يعتمد على العقل والمنطق والفلسفة. فالمشكلة، حسب تصور ولسن في اللامنتمي، هي مشكلة "الإدراك النفسي" للفرد. وهكذا إدراك لا يتأتى جراء الرضوخ لنظام معيشي رتيبي، لأنه إستسلام نابع من الخوف، وإن الخوف لا يؤدي إلى الحرية. بل يجب مواجهة الفوضى، إذ أن السقوط في هذه الفوضى أمر ضروري من أجل النهوض مرة أخرى. فبعد هذا النهوض يستطيع الإنسان أن يحصل على نظامه المعيشي الحقيقي المطلوب له.

 

إن "مشكلة اللامنتمي هي أساساً مشكلة العيش، فالكتابة عنها بمصطلحات الأدب هو تزييف لها. إن تحليلات الكُتاب هي ضرورية إلى حد ما. حيث أن عمل الكاتب هو تعبير ذاتي قد يساعدنا نحو تعريف علمي واضح إلى مشاكل اللامنتمي. إلا أن هؤلاء الرجال: باربوس، سارتر، همنغواي وحتى هيس لم يكونوا مهتمين وثابتين تجاه اللامنتمي. وأن القياس في عدم إكتراثهم يكمن في تجاوزهم إلى مواضيع أخرى. إن الكاتب يمتلك فطرة تجعله يختاره المادة التي بها يضع أفضل عرض على الورقة. وعندما يخفق أو يجد صعوبة في ذلك، ينتقل صوب منعطف جديد".4

 

معنى هذا إن في نصوص الشعراء والأدباء المتعلقة بعقلية ونفسية اللامنتمي قد لا تكون صادقة تماماً في التعبير عنه. ومن هنا يحبذ ولسن قوله الآتي: لقد آمنت دوماً بأن الكاتب يجب أن يبقى لا منتمياً. وإذا ما قدر لي أن أحصل على شيء شبيه بجائزة نوبل في الأدب، لوجدت نفسي في حالة نزاع صعب، رغم إني لا أميل لقبول هذه الجائزة أصلاً.

 

كما ويؤكد ولسن على أن شخصية اللامنتمي ليس بمقدورها أن تتخذ من شعوره المؤلم بخطورة الحياة مقياساَ عضوياً يرفع بها من مستوى قوته. فهكذا شعور لن يمكنه من أن يعيش حياة أكثر وفرة. وإذا كان اللامنتمي يرفض الإيمان، فإنه يرفض أيضاً أن يشعر بتلك التفاهة التي تتحكم بالكون. بيد أن طبيعته الإنسانية تملي عليه أن يجد شيئاً يتفق معه تماماً، ولذلك يبحث عقلياً في الأشياء والظواهر لتكون مقبولة لديه. إن "اللامنتمي ليس متأكداً مَنْ هو يكون. لقد وجد ’الأنا‘، لكنها ليست هي حقيقته ’الأنا‘. فأغلب عمله هو لإيجاد عودة إلى ذاته. وهذه ليست هينة. في الواقع، وعلى وجه التدقيق، نحن لم نمس المشكلة حتى الآن، نحن فقط حللنا ’ضياع‘ اللامنتمي. حتى أن ’المحاولة في تحصيل السيطرة‘ كانت فاشلة. لأنها وفرت فراسة أكثر بعمل الساعة المعقدة للامنتمي فحسب".5

 

وفي كتابه التالي "الدين والتمرد" يرد ولسن على إتهام اللامنتمي بأنه مجرد نزوة عقلية طارئة. إذ بجانب الأجوبة التي يسطرها حول هذا الشأن، فإنه يستعرض مظهر القوة عند اللامنتمي بالتمرد ضد المجتمع المادي وتوتر النقص الروحي. إنه سرد رؤيوي إلى تدهور الحضارة الغربية بشكل عام من جهة. ومن جهة أخرى، التركيز على أهمية أن يطيل الإنسان مجاله في الشعور.

 

لقد واجه ولسن إنتقاداً شديداً واسعاً من بريطانيين وغربيين، مما أثرت على وصوله إلى مكانة مرموقة في الفكر الغربي؛ كما كان الأمر مع هيدجر وسارتر وبعض الوجوديين الآخرين. إلا أن هذا لا يمنع من القول إن كتابه قد حث قسماً آخراً للنظر في الواقع الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، خصوصاً مع مجموعة "الشباب الغاضبين" الذي كان ولسن أحدهم.

 

كانت غاية ولسن أن يبين بأن الدين ليس فقط في الممارسات الخارجية بالطقوس والشعائر التي تتجلى بالصلاة والعبادة إلى الله. لكنه يكمن أيضاً في الرؤية الداخلية إلى الطبيعة. ومن هنا يحاول ولسن أن يحطم العادات القديمة ويزيحها عن أرضية الواقع الإجتماعي الغربي. ولقد رئآه البعض بأنه يقوم بعمل تدميري منتظم إلى الحضارة الغربية. لكن ولسن وظف بعض الأفكار والنظريات لمؤرخين ومفكرين غربيين أمثال: باسكال، كيركيجار، وايتهيد، برنارد شو وسواهم من الذين سعوا ضد المذهب المادي.6

 

ويأتي اللامنتمي في كتاب "عصر الهزيمة" الذي كان موسوماً "بنية الإنسان" في الطبعة الأمريكية، وهو عنوان الجزء الخامس من الكتاب، حيث يرى فيه ولسن: أن هنالك ثلاثة نماذج من الإلتزام نحو قيام فلسفة وجودية جديدة، وهي: الوجودية والبطل، الرجل اللامعقول، الله والديدان.7

وبشكل عام يتناول ولسن شخصية اللامنتمي من الجانبين الإجتماعي والأدبي، وأهمية دور البطل حياتياً وفكرياً. إذ أن فهم الوجودية يجب أن يرتكز على فهم قوى الإنسان، بالإضافة إلى مراكز ضعفه. ولذا حاول ولسن أن يطرح الحاجة إلى تهذيب جديد نحو نوع الشعور البطولي. حيث أن قيّم وتقبل تهذيب النفس عند البطل الجديد تجعل التهذيب مستخدماً في حريته وليس مغموراً بمعقدات الشعور.  إلا أن أخفاق البوصلة الباطنية للبطل تعني إنها إحتضار خارجي لكلا المجتمع والأدب معاً. لأن إتجاه الشعور الباطني قد إنحرف بالبطل نحو إتجاه الرجل الذي إنتابته المخاوف عبر شعور تافه.  

 

ورغم أن رؤية ولسن في شبابه إلى اللامنتمي لم تتغير، لكن تباعد السنين اللاحقة قد أثرت على متابعته لأفكاره. ولذلك يشير في مقدمة طبعة متاخرة قائلاً: "أنه أحساس أحادي لقراءة كتاب أنت كتبته لأكثر من أربعين سنة ولم تقرأه منذ ذلك الحين. قبل ذي بدء، لقد وجدت كتاب ’عصر الهزيمة‘ صعب القراءة، وأشك إن كان بمقدوري أن أنهي التنقيح الذي أرسله لي كولن ستانلي. في الحقيقة، ومع إستمرار الوقت أصبحت أستوعب ومفتون لِما لاحظت أن هذا هو أحد مؤلفاتي الرئيسة".8

 

أما كتاب "قوة الحلم: الأدب والخيال"، يحاول فيه ولسن أن يدافع عن الفلسفة الوجودية الجديدة من أجل خلق عِلم جديد هو عِلم–المعيشة. إنه النقد الوجودي كذلك، بإنتقاد أعمال الفن والأدب من خلال المساهمة فيما يصنعون الفنانين والأدباء في عِلم–المعيشة، والحُكم عليهم وفق مقاييس المعنى والتأثير.

 

هذا ومما يروم إليه ولسن أيضاً، هو توضيحه بإن بعض الكُتاب أمثال صموئيل بيكيت وسارتر وغيرهما من الذين يعتقدون إن الخيال لا يمكن أن يحيا مع الواقع، وإنما يفنى فيه. إذ بالنسبة إليهم إن "الخيال هو أكاذيب". فإن ولسن يسعى إلى تبيان أن الموقف المضاد لهكذا رؤية تبرز في روح العِلم الذي يتميز بالحركة والتقدم. كما وإن هذا الموقف إنما يُعَبِر عن روح الخيال العلمي أيضاً، مثلما عند مور وغيره.

 

وبما أن أعمال ولسن البحثية والروائية لا تخلو من "الجنس" أو بالإشارة إليه، حيث يعتقد إن المبدع عندما يوفر لنفسه جميع متطلباته وحاجاته الطبيعية، يكون بمقدوره الإنطلاق في عالم الإبداع والتجديد؛ لذا يقول: "عندما الفرد يكون مهتماً بالقوة وأهمية قوة الدافع الجنسي، فمن الغريب أن يكون الكُتاب ’الخياليون‘ قليلون. والسبب في ذلك ربما إن الكاتب ’الخيالي‘ يبدأ من موقف العالم–الرافض. وهنا هو يميل نحو ’اللامنتمي‘ ليس إلا".9  

وفي "أصول الدافع الجنسي" يقدم ولسن دراسة نفسية وجودية بما يتعلق في الصحة الجنسية وتشويه الحقائق تجاهها. كما ويعيد التمعن في "نظرية الإستجابة الرمزية" التي تكشف عن أستخدامنا للنوايا لخلق هويتنا الجنسية والواقعية. ومن بين الأسئلة التي يطرحها: "ما الذي يفعله الجنس في كيان الإنسان؟". ويتناول الكثير من الآراء والتصورات سواء عند فرويد، تولتسوي، لورنس، غوردييف وغيرهم. 

 

ينص ولسن في "المدخل" قائلاً: "إن موضوع الجنس وعلم النفس الوجودي يتطلبان مكاناً لمعالجتها على نحو وافٍ. وهذا يتطلب مني أن أطيل بالكتاب إلى ألف صفحة. بيد إني فضلت الإختصار بتكرار بعض الأفكار عن ’الوجودية الجديدة‘ في هذا الجزء. ومن أجل توضيح القصد، ينبغي أن أبتدأ في بيان عام. إذ قبل سنتين تقريباً، صار واضحاً بالنسبة لي، إن كل أعمالي منذ نشر كتابي الأول (اللامنتمي) وأنا أتعرض إلى هجوم حول نفس المشكلة: خلق فلسفة وجودية جديدة".10

 

إن ولسن دأب في دائرة مؤلفاته عن اللامنتمي على ترسيخ الأسس التي يجب عليها قيام "الوجودية الجديدة". وعندما يبحث في مجالات: المعرفة، التصوف، الأدب، الجنس، علم النفس، علم الجريمة وغيرها، فلأنه يعتقد بإمكانية إمتداد الفلسفة الوجودية إلى مختلف الحقول العلمية والمعرفية.

 

كانت نظرة ولسن إلى الجنس تنطلق من جوانب نفسانية سلوكية أكثر منها عقلية إدراكية. فمن جملة تحليلاته يقول: "في الدافع الجنسي توجد ثغرة ما بين غاية الإنسان والطبيعة، تبدو إنها واسعة غير عادية. وهذا هو السبب الباعث لتكون هنالك الكثير من التشويهات للجنس، حيث تحفز أي إنسان آخر على أن يحفظ تلك القوة الدافعة فيه"11.

ولذلك يلح ولسن على فكرة تحريك الجانب الشعوري إلى أبعد من حدوده التقليدية لكي نسبر حقيقة الجنس دونما تشويه له. وهنا رغم إعتماد ولسن على النهج الفرويدي، لكنه يريد أن يمنح التحليل الوجودي صفة تميزه عن بقية المدارس النفسانية. 

 

ويختتم ولسن سلسلة مؤلفاته الستة عن اللامنتمي بكتاب "ما بعد اللامنتمي". حيث ينتقد فيه الفلسفة الغربية الآخذة بالتراجع نحو اللايقين تجاه كل شيء. وإذا كان الفكر الغربي بثقافته وحضارته يتدهور نحو الإنحطاط. فحسب تصور ولسن: "إذا كانت ثقافتنا ’مريضة‘ فعلينا أن لا نرمي كل اللوم على السياسيين أو رجال الأعمال، بل أيضاً على المفكرين والفنانين لمئتي سنة خلت. فبعضهم كان مدمراً مثل شوبنهاور أو دي ساد، وأغلب البقية أثاروا المشكلات وتركوها بلا حل، أو حلاً جزئياً لها."12     

وكذلك ينتقد ولسن أقطاب الفلسفة الوجودية، داعياً إلى فلسفة أكثر صواباً. فحسب رأيه إن الوجودية في بداية القرن العشرين غالباً ما تقتقر إلى أساس فكري قوي. كما وأن جل منطلقاتها كانت نابعة أصلاً من إحساس ذاتي خاطيء. ولذلك يصف ولسن فكرته بهذا الكتاب، على أنها قمة الخبرات الفردية. لأن الفرد أحياناً عندما يشعر بأنه حيوي ومفعم بالنشاط أكثر، ومهتم بشؤون هذا العالم، فإن الجنس والخطر يلعبان دوراً محفزاً لمثل هذه الخبرات. ولقد أضاف ولسن أحداث خبراته الفردية عندما قام بتجربة تناول فيها المخدر "ميسكالين" بغية التحقيق في طرائق الشعور والإدراك.  

 

وفي هذا الصدد كتب قائلاً: "في تموز 1963 عند مراجعة الفصل المتعلق بخبرات هكسلي وسارتر عن المخدر – ميسكالين، (وصلاتهما برؤية وايتهيد في طرائق الإدراك). قررت أن أجرب وأخذ ميسكالين. من الملاحظ كثيراً إن لا شخصين يحملان بالضبط نفس الخبرة والتأثيرات من المخدر... إشارات هكسلي خلال نصف ساعة، إنه أصبح واعياً إلى ’رقصة الأنوار الذهبية الهادئة‘. بعدئذ إنتفخت الأسطح الحمراء، ثم رأى ’الواقع‘ أكثر وضوحاً."13

أما بالنسبة إلى تجربة ولسن وخبرته في هذا الإطار، فيقول: لقد كرهت الميسكالين، فقد فتح أمامي الكثير، ومنحني الشعور بتلاحم مع الكون، لكن في الوقت نفسه جعلني أشعر بالعجز التام. أنا في أحسن حالة حين أركز بقوة على مسألة أن عقلي يضيق إلى حدود الليزر. ويحدث هذا حين أمتلك تجارباً غيبية بالفعل بينما يبعثرني الميسكالين على المكان كله.

 

ويعتقد ولسن أن ذروة خبراتنا في البهجة والسرور هي حقيقية تماماً كما هي في خبراتنا التشاؤمية. إذ طالما نحن نحيا في تلك اللحظات الخبراتية العالية، طالما كانت حقيقية أكثر. إن هذه الخبرات يمكن أن تنمّى من خلال  وسائل التركيز، الإنتباه، الإسترخاء، وأنواع العمل اليقيني وغيرها. كما ويشير ولسن إلى أن الإنسان يحتاج بإستمرار إلى التجديد في الأفكار والخبرات والإحساس بالغاية من تحفيزها بعيداً عن تقصيراتها الشعورية العادية. فالشعور العادي غالباً ما يكون مملاً ومضجراً مقارنة بالمستويات الرفيعة التي نحققها في الوصول إلى قمة خبراتنا. 

 

 

تقييم

رغم أن كولن ولسن قد أنتج لحد الآن أكثر من مئة كتاب متنوع بالأدب والفلسفة والإجتماع والتصوف والسحر والجريمة وغيرها، لكن "اللامنتمي" الذي تُرجم إلى ثلاثة عشر لغة يبقى السمة الملازمة والمميزة بين جميع أعماله. فاللامنتمي قد مهد للفلسفة الوجودية أن تنتشر في ألمانيا، وكذلك كثرة المحاضرات في الولايات المتحدة الأمريكية، والصدى الملموس في البلدان العربية ودول شرقي آسيا، إلا أن شهرته داخل بلده بريطانيا أقل بكثير عن خارجها. ومن أسبابها إنه لم يسير وفق نهج "الوضعية المنطقية" التي تتميز بها الفلسفة البريطانية المعاصرة. وكذلك لم يكترث تجاه "الشكلية" في دراسات الأدب البريطاني. لكن المنحى الذي خطه في الوجودية الجديدة قاده دون قصد إلى تأسيس مذهب جديد هو مذهب الفلسفة الروائية.

 

وتشير نتاجات ولسن المتعددة على إنه متوافق مع مبدأه في وصف تأثيرات حياته اليومية على كتاباته. وأود أن أورد في هذا الإطار، إنه عندما صدر كتابي "تاريخ الفلسفة الإسلامية" 2005. وكتب عنه الفيلسوف الإنكليزي المخضرم توني فليو في مجلة "الفلسفة حالياً"، فإن ولسن قد سبقه بمخاطبتي بتاريخ 7-2-2005 في رسالة يذكر فيها حتى أين يحفظ الكتاب الآن. ومما جاء فيها: "لكنني كنت مفتوناً فعلاً بملخصكم الضليع والرائع عن هيراقليطس وأفلاطون. وما كتبته في مدخلكم عن راسل، فليو، توملين وغيرهم، بالأحرى موقف عرضي. كتاب مثل هذا ضروري جداً. إن وضوحه بشكل أخّآذ يجعلني أعتقد أنه يضع حدّاً لملء فجوة هامة. وأنني أحفظه على كُرسِيّ ذو المسندين...".   

 

عموماً يدعو ولسن سواء في دائرة أعماله عن اللامنتمي أو غيرها، بأنه على الوجودي أن لا يركز على الهزيمة والغثيان والتفاهة وبقية السلبيات، لأنها تمثل جزء من الواقع ليس إلا. وبالتالي ليس هناك من سبب محدد يدفعنا لقبولها بدرجة رئيسة. إن رؤية ولسن تنطلق من نظرة عادية قوامها إن كل يوم نواجه صفعة الشعور باللحظة، كأنها "غمامة على أعيننا". ويطالب ولسن بعدم الرضوخ لها كونها تعرض لنا الحقيقة تجاه الواقع. إن هذه الغمامة على العينين لها بعض التطور المتقدم التي توقفنا عن الإنغمار في الإندهاش، وكذلك في مجرى الأحداث المتواصلة، مما تعيقنا عن الحركة المطلوبة منا. ولكي نحيا حياة ملائمة، فأننا نحتاج أن نتوصل إلى أبعد من هذا الشعور اليومي التقليدي.

 

وحسب رأي ولسن إن "اللامنتمين هم أعراض إحتضار الثقافة" بشكل عام. وإن جدالهم المتواصل بغية التهذيب والغاية إنما يعكس لحظة اليأس التي يعيشونها. وإن الحل الأساسي الذي يقدمه ولسن يتجلى بإقامة فلسفة وجودية جديدة، يكون فيها نوع جديد إلى البطل المستمد أصلاً من التمحيص الباطني المباشر للخبرة اللاعقلية في سبيل العودة نحو الخارج. ويصاحب ذلك نموّ القوة الحياتية والقوة العقلية من أجل زيادة الإشتراك في هذا العالم. ولا يفوت ولسن أن يزج بالجوانب النفسية والإجتماعية والأدبية كدلالات لم تكن مقنعة أحياناً، وتحتاج لدراسة علمية معمقة أحياناً أخرى.

 

عموماً بعد مجموعة اللامنتمي ركز ولسن على السمات الإيجابية في علم النفس، مثل ذروة الخبرات ومحدودية الشعور. ولقد تأثر بالعالم النفساني براهام ماسلوو، وتراسل معه في هذا الخصوص. ولكن مما يؤخذ عليه غموسه في التحقيقات الواسعة بالسحر والشعوذة التي لا تخضع إلى نطاق العقل وقوانين الطبيعة. فضلاً على خلطه المجحف ما بين الصوفية والسحر، سواء من الجانب الأدبي أو الإيماني. 

 

وبعد أكثر من عشرين سنة عاد ولسن إلى دائرة اللامنتمي وأصدر ثلاثة مؤلفات هي: "الموسيقي اللامنتمي"، 1987. "اللامنسجم: دراسة اللامنتمي الجنسية"، 1988. "موجز الأنثى اللامنتمية"، 1994. وآخر مؤلفاته كان "الشعور الهائل"، 2009. حيث تمرض ولسن ثم تعرض إلى سكتة دماغية في حزيران/يونيو 2012 أفقدته قدرة النطق منذ ذلك الحين.

 

 

المصادر

 1- Colin Wilson: ‘The Outsider’, Pan Books, London, 1978, p. 21.

2- Ibid, p. 37.

3- Schopenhauer: ‘Essays and Aphorisms’, sel. and trans. with intro. R. J. Hollingdale, London and New York, Penguin Books, 1970, p. 55.
4- ‘The Outsider’, p. 81.

5- Ibid., p. 159.

6- See: Colin Wilson: ‘Religion and the Rebel’, Ashgrove Publishing, 1994.

7- See: Colin Wilson: ‘The Age of Defeat’, Gollancz, London, 1959, p. 149 ff.

8- Colin Wilson: ‘The Age of Defeat’, Pauper’s Press, London, introduction, 2001.

9- Colin Wilson: ‘The Strength to Dream: Literature and the Imagination’, Bassett, London, 1975, p. 187.

10- Colin Wilson: ‘Origins of the Sexual Impulse’, Barker, London, 1963, Introduction, p. i.

11- Ibid, p. 13.

12- Colin Wilson: ‘Beyond the outsider’, Pan Books, London, 1965, p.p. 50-51.

13- Ibid, p. 206.





الخميس ٢٥ محرم ١٤٣٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٨ / تشرين الثاني / ٢٠١٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. عماد الدين الجبوري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة