شبكة ذي قار
عـاجـل










عندما بدأ الغزو الأميركي للعراق، لم تترك آلة الحرب الأميركية والعاملة تحت أمرتها من دول أخرى، مرفقاً حيوياً، ومنشأة اقتصادية، وبنى تحتية، إلا ودمرتها، عملاً بقول جيمس بيكر، بأن أميركا ستعيد العراق إلى ما قبل العهد الصناعي، وهذا كان مفهوم، لأن الحرب على العراق كانت تستهدف البنية السياسية للنظام الوطني، كما كانت تستهدف البنية المؤسساتية للدولة، وبالقدر نفسه كانت تستهدف البنية الاقتصادية والخدماتية بكل عناوينها.


ان قوى التحالف الذي قادته أميركا، والذي وجهه العقل السياسي المسكون بالفكر الصهيوني والذي عبر عنه يومذاك بفريق المحافظين الجدد، كان يريد تدمير العراق بكليته كي تعاد صياغة أوضاعه السياسية وبناه الاقتصادية، بما يخدم توجهات التحالف الأميركي – الصهيوني والذي تقاطع مع الأهداف الإيرانية التي بدت منتعشة وهي ترى العراق يدمر، وتضرب كل مرتكزات القوة فيه. وحيث تصبح الساحة العراقية ممهدة أمام تغلغل النفوذ الإيراني، الذي تلطى وراء الموقف الأميركي. ولما انسحبت أميركا منهزمة تحت وطأة فعاليات المقاومة الوطنية العراقية، تقدم النظام الإيراني ليملأ ما اعتبره فراغاً سياسياً وأمنياً وعسكرياً خلفه الانسحاب الأميركي. هذه حقيقة ساطعة لا يمكن لأحد أن ينكرها، وان النظام الإيراني لا يخفي نواياه بل يعبر عنها بصراحة لا تأتلف مع ديماغوجية مارسها طيلة فترة الاحتلال الأميركي للعراق.


ان من راقب ظاهرية السلوك الأميركي خلال الأيام الأولى لاحتلال بغداد، ظن أن قوى العدوان وسلطته، ترميان فقط إلى تدمير البنية السياسية والمؤسساتية والاقتصادية لكيان العراق الوطني، لكن من راقب جيداً، السلوكية الأميركية، ومن التحق بالاحتلال وعمل تحت إدارة الحاكم الأميركي، استوقفه مشهدان، غير مرتبطين بتدمير البنية السياسية والمادية للعراق.


المشهد الأول، إقدام قوات الاحتلال على جرف قبر القائد المؤسس الأستاذ ميشيل عفلق، الذي كانت تحتضنه حديقته القيادة القومية في بغداد.
والمشهد الثاني، نسف نصب الخليفة العربي أبو جعفر المنصور.


إن التوقف عند رؤية هذين المشهدين، يجب أن لا يمر عليهما مروراً عابراً، وكأنهما أتيا في سياق العملية العسكرية الأميركية. ان التوقف عندهما نابع من إدراك أن أميركا أرادت أن توجه رسالة من خلال جرف ضريح القائد المؤسس، كما أن القوى المرتبطة بالاحتلال أو تلك التي تتظلل بها، أرادت أن توجه رسالة أيضاً من خلال نسف نصب الخليفة المنصور.


إن الرسالة الأميركية، ارادت أن تفهم المعنيين بوضع العراق، ان إسقاط النظام الوطني فيه، لا يقتصر على تدمير البنية السياسية للحزب الذي أدار هذا النظام طيلة ثلاثة عقود ونيف، بل ان الإسقاط يجب أن يطال ايضاً البنية الفكرية لهذا الحزب وحيث كان القائد المؤسس يشكل أحد مداميكها الأساسية. وان العراق بعد إسقاط نظام البعث فيه يجب ان لا يكون حاضنة لمشروع عربي بتجسيدات سياسية ومادية، ولا لبنيان فكري وحدوي، لا يقيم اعتبار لحدود الجغرافيا، ويرى حدود العرب بحدود الوطن العربي من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي.


أما الرسالة الثانية، فكان من أقدم عليها من خلال نسف نصب المنصور، إنما كان يريد تدمير الرمزية التاريخية لهذا النصب. لأن المنصور هو من أسس بغداد، وهو من جعل منها عاصمة للخلافة العربية – الإسلامية. وهو من وعى في وقت مبكر, خطر الشعوبية التي كان أبو مسلم الخرساني يجسد الاسم الحركي لهذه الظاهرة الشديدة الخطورة على العرب ودورهم الانساني الرسالي.


من هنا، كانت هاتان الحادثتان, نيلاً من رموز ’مؤسسة. الرمز الأول، لعب دوراً محورياً في تأسيس أول حركة عربية ثورية وحدوية، استطاعت أن تكون الحاضر الأكبر في الحياة السياسية العربية وخاصة في مشرق الوطن العربي. والرمز الثاني هو مؤسس بغداد عاصمة الخلافة العربية، والتي باتت في العصر الحديث عاصمة للنضال العربي .والتي استطاعت، أن تصنع قادسية ثانية لم يستطع لا الشرق الذي يدعي صداقة العرب ولا الغرب الذي لا يخفي أهدافه ضد العرب فضلاً عن الصهيونية العالمية ان تهضم النتائج السياسية التي تمخضت عن هزم المشروع الإيراني, وعدم تمكينه من تحقيق أهدافه. وعليه بدأت رحلة الاعداد للعدوان والحرب على العراق منذ اللحظة التي وضعت فيها الحرب الإيرانية على العراق أوزارها, وخرج منها العراق قوياً مقتدراً. وعندها اعتبر التحالف الصهيوني الأميركي وكل المتقاطعين معه، وفي طليعتهم النظام الإيراني، ان مصالحهم أصبحت ضمن مديات التهديد الفعلي من الدور الذي سيضطلع به العراق في قيادة الحركة السياسية العربية.


وبدون العودة إلى مرحلة ما بين جرف ضريح القائد المؤسس، ونسف نصب الخليفة المنصور، لأن الوقائع هي التي تجيب على ذلك ، بدءا من الاحتلال الذي كان يمن نفسه ببقاء طويل في العراق و قد خرج مهزوماً بفعل حرب التحرير الوطنية التي قادها حزب القائد المؤسس، واستتباعا باندفاع النظام الإيراني لملء الفراغ, مقدماً نفسه مظلة سياسية لأطراف ما سمى بالعملية السياسية، ومتدخلاً بكل تفاصيل الحياة العراقية، من الشأن السياسي إلى الشأن الاقتصادي والأمني والديني وقس على ذلك.


وفي سياق هذه الهجمة الإيرانية على العراق، بدأت تظهر في العديد من المدن العراقية المشاهد الفجة لفرسنة الحياة الاجتماعية. وكأن النظام الإيراني لم يكتف بتجنيس ملايين الإيرانيين وإدراجهم في السجلات المدنية العراقية بغية احداث تغيير في التركيب الديموغرافي للعراق تحسباً للمستقبل، بل عمد إلى تصدير المشهديه الإيرانية إلى المدن العراقية من خلال الطقوس الشعائرية للمناسبات الدينية، وإقامة النصب والتماثيل للرموز الدينية الإيرانية من الخميني إلى خامئني، واغراق المدن العراقية وخاصة في الجنوب والفرات الأوسط بالجداريات التي تجسد مشهديات فارسية. كما توجيه البث الإذاعي والتلفزيوني إلى عموم العراق، وفرض تدريس اللغة الفارسية، لغة أساسية في برامج التعليم. وهنا يكفي العودة إلى الاتفاق التربوي بين النظام الإيراني ومن يتولى إدارة العراق حالياً ليتبين حجم الاختراق التربوي والفكري للبنية الفكرية والنظام التربوي العراقي.


إن كل هذا يدلل على أن النظام الإيراني، يعمل إلى تغيير معالم العراق الاجتماعية في هذا الوقت الذي يعتبر انتقالياً بين مرحلتين. مرحلة إنجاز التحرير، ومرحلة إعادة البناء الوطني ببعده التوحيدي. وهذا ما تسعى إليه كل سلطة احتلال، تمارس دورها بشكل مكشوف ومباشر، أو عبر دور مستور وغير مباشر.


وإنفاذاً لهذا المخطط الذي يريد فرض الفرسنة على الحياة السياسية والاجتماعية العراقية، تعمل أدوات النظام الإيراني إلى إزالة كل المعالم العربية في الحياة المجتمعية العراقية و ضرب كل الإرث التاريخي المتراكم لنضال الشعب في العراق وكل المعالم الحضارية من فكرية وسياسية وأدبية فيه. ضمن هذا السياق، تتضح الابعاد المنطوية على تغيير معالم ساحة النسور في بغداد بكل شخوصها، وإزالة جدارية ساحة التحرير، والتي تشكل لوحة تراثية نضالية، تجسد تطور الحضارة في بلاد الرافدين منذ العهود الأولى و حتى العصر الحاضر.


وإنه لا يخفى أيضاً، أن الموقع الذي ترتسم فيه جدارية القادسية الأولى في سلمان بك, وعلى مرمى النظر من ايوان كسرة في المدائن، قد أزيلت معالمه، لأن النظام الإيراني، لا يسعى من خلال دوره إلى إزالة معالم الحضارة العربية في عصرها الحديث و حسب، بل يهدف أيضاً إلى الدخول إلى التاريخ العربي لإعادة كتابة بعض فصوله بما يخدم الخلفية الفكرية لهذا النظام والذي ما تزال تتحكم به شعوبية مجبولة بكل الحقد التاريخي على العرب.


إن إزالة معالم جدارية القادسية، ونسف نصب أبي جعفر المنصور، وإزالة معالم ساحة النسور وجدارية ساحة التحرير، واغراق المدن العراقية بالجداريات الفارسية، هي نماذج حسية للأهداف الإيرانية لإزالة المعالم العربية عن العراق، تاريخاً وحاضراً وغدا. و اذا ما استمر هذا النهج الإيراني دون ان يواجه بردع سياسي و شعبي فإن الوقت لن يطول كثيراً لنرى تمثالا لأبي مسلم الخرساني مكان نصب أبي جعفر المنصور، وأيضاً إسقاط أسماء الكندي وابن سينا وابن الهيثم عن المؤسسات المعروفة بأسمائهم.


إن العراق يتعرض لحملة فرسنة، لا تهدف إلى إسقاطه سياسيا وحسب, بل ايضاً إلى إزالة معالمه التاريخية، وهذا بتصرف كل من يعتبر أن النظام الإيراني، هو نظام صديق !!!نحن نود أن يكون النظام الإيراني صديقاً للعرب، لكن الأمنية شيء والواقع شيء آخر. فالمصالح السياسية تتحكم بسلوك الأنظمة. و النظام الإيراني يعتبر أن مصدر قوته هو اضعاف العرب، والمدخل إلى ذلك اضعاف العراق. انه منسجم مع نفسه لان عداءه للعروبة متجذر فيه . لكن يبدو انه لم يتعلم من عبر الماضي و الحاضر و هو أن أمة هزمت الفرس يوم كانوا في عز قوتهم، في ذي قار والقادسية الأولى، واستطاعت أن تهزمهم في القاديسة الثانية وهم في ذروة شحنهم التعبوي السياسي المجبول بالمذهبية، وأن أمة هزمت أعتى قوة عسكرية واقتصادية في العالم، هي قادرة على هزم المشروع الفارسي الجديد. وأنه كلما أمعن هذا النظام في سعيه لفرض الفرسنة على الحياة السياسية والمجتمعية العربية في العراق، كلما استحضر شعب العراق الروح العربية فيه واستحضر معها كل تراثه وارثه التاريخي نضالياً وسياسياً وفكرياً. وهو لن يسكت على ضيم، ولن يمرر احتلال، وكل احتلال إلى زوال. وإذا كان النظام الإيراني لم يستوعب الدروس السابقة، والدرس الأميركي، فإن قادم الأيام سيلقنه درساً جديداً، لأن العراق ما كان يوماً إلا عربياً بتاريخه وموقعه ودوره. وانه كلما أمعن في تدخلاته، كلما شكل ذلك عامل استفزاز وتحريض لمشاعر القاعدة العريضة لشعب العراق، ولذلك عليه أن يتعظ، وإلا لن يكون مصيره بأفضل من مصير الاحتلال الأميركي. ان المقاومة الوطنية العراقية التي طردت المحتل الأميركي بفعل الاحتضان الشعبي لدورها، هي في حالة جهوزية تامة لمواجهة مشروع فرسنة العراق و وأده قبل استكمال معالمه و حتى لا تستبدل اسماء القادسية و اليرموك و المنصور و الرشيد بأسماء فارسية و حتى لا يشيد تمثال لأبي مسلم الخرساني مكان نصب أبي جعفر المنصور !!

 

 





الاربعاء ٧ محرم ١٤٣٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢١ / تشرين الثاني / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المحامي حسن بيان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة