شبكة ذي قار
عـاجـل










اعزائي القراء! ان عنوان مقالنا هذا ليس بعيدا، من حيث صيغته ومن حيث معانيه، عن عنوان مقالي الأخير الذي نشرته كعادتي، على موقع كتاب عراقيون من اجل الحرية، ونشر في مواقع أخرى كذلك. فقد كنت قد نشرت مقالي الأخير تحت عنوان: بين خدمة الله واستخدامه، وسأرسل مقال اليوم للنشر تحت عنوان: بين خدمة الديمقراطية واستخدامها.

 

مقالان متماثلان: وفي الحقيقة ليس المقالين متشابهان من حيث عنوانهما حسب، ولا من حيث  معانيهما فقط، لكنهما متماثلان ايضا Analogiques. ذلك ان كل الأمور المتماثلة متشابهة، ولكن ليست كل الأمور المتشابهة متماثلة. فالتشابه Similitude ليس اكثر من تشابه بين بعض الأوجه والأبعاد، دون ان تكون هناك علاقة حقيقية تجمع الشبيهين، في حين يقوم التماثل على وجود عوامل اساسية مشتركة بين المتماثلين، مع تمتع اي من المتماثلين بخصوصياته.

 

مثال عن التماثل والتشابه: وهكذا مثلا نقول عن البشر انهم متماثلون لأنهم جميعا يحملون الطبيعة البشرية، في حين يتمتع كل انسان بخصوصياته الكثيرة. أما ان نجد فردين او اكثر يحملان سمات وجه متشابهة، فذلك لا يسمى تماثلا، ولكنه يسمى تشابها في بعض قسمات وملامح الجسد. علما بأن ما يقال عن الأمور المادية بخصوص التشابه والتماثل يمكن ان يقال ايضا عن الأمور الروحية الانسانية، ويمكن ان يقال عن الفضائل والرموز والنماذج الانسانية، كما يقال عن منظومات المعايير الثابتة بتفرعاتها، ومن ضمنها منظومة الديمقراطية، في حين ان جميع الثوابت تعود الى ثابت واحد مثلث الأبعاد هو ثابت الحق والخير والجمال، بعيدا عن عقيدة التثليث المسيحية طبعا. ويقينا ان اللاهوتيين المسيحيين وغير المسيحيين، يرون ان هذه الصفات المعيارية الثلاث، صفات الحق والخير والجمال، بكافة تفرعاتها،هي الصفات الأساسية التي تُخلع على الله سبحانه وتعالى، الأمر الذي يرينا من الآن كم هي عظيمة قيمة الثوابت المذكورة في حياتنا الانسانية ( الأنثروبولوجية )، بأسسها الأولى وبتفرعاتها، ومنها قيمة الديمقراطية التي تعني فيما تعنيه ان الانسان، كفرد وكمجتمع، سيد ذاته وسيد تاريخه، وسيد ماضيه وسيد حاضره، وسيد مستقبله، وسيد علاقاته الاجتماعية ومنها علاقته بوطنه. غير اننا، ولأسباب فكرية انثروبولوجية خاصة علينا ان نقول ان الانسان لا يملك هذه الصفات الأنثروبولوجية منذ ولادته، ولكنه ما ان يكبر حتى تنضج عنده القوى المسؤولة عن التعامل مع هذه الصفات المعيارية  ويكون " مدعوا " الى ان يحصل على هذه السيادة التي تعادل الحرية والكرامة الانسانية والديمقراطية وغيرها، ويحافظ عليها ويرقى بها الى اعلى ما يمكنه من المستويات، من خلال مجهود شخصي، ومن خلال مساعدات كثيرة تأتيه من جهات كثيرة انسانية وإلهية، فردية واجتماعية، فضلا عما يأتيه من المجتمع ومن تركيبته الانسانية الخاصة.

 

بين مفردة الله ومفردة الديمقراطية: سبق ان قلنا بأن هناك تماثل بين الخدمة او الوظيفة الأنثروبولوجية التي يقدمها الله للإنسان، والوظيفة او الخدمة التي يقدمها معيار الحق والخير والجمال بكافة تفرعاته للإنسان، ومنها معيار الحرية والديمقراطية وغيرها. غير ان هناك تماثل آخر بين الخدمة والوظيفة التي يقدمها الله للإنسان، او يجدها الانسان عند الهه، وبين الخدمة التي تقدمها الديمقراطية لإنسانها، او يراها الانسان في الفضائل والملكات المعيارية التي نعرف انها مغروزة في حياة الانسان Innée. اما هذا التماثل فيكمن في ان الانسان يستطيع ان يقبل عرض الله او عرض الفضائل الأخرى له او يرفضه او يتجاهله او يستغني عنه، مع ان بشرى الله وبشرى المعايير الانثروبولوجية الأخرى، ومنها بشرى الديمقراطية والحرية بمعناهما العميق، لا يمكن ان يستغني عنها انسان دون ان يصاب بضرر انساني كبير، من حيث يدري او لا يدري. اما التماثل الأخر فيقول ان اي تقدم نحو الأهداف الالهية المقدسة، وكذلك نحو اهداف المعايير الانسانية المزروعة في طبيعتنا، كهدف الحرية والديمقراطية، وقبل ذلك هدف الحق والخير والجمال، لا يمكن ان تتحقق بكبسة زر، لكنها تتحقق من خلال قوى تمرنت على الفضيلة وعلى الحق والخير والجمال، وتفرعاتها، ومنها الديمقراطية. وهنا يكون عامل الزمن احد العوامل المهمة التي تدخل في مسألة تحقيق اهداف الحق والعدل والديمقراطية فينا. غير اننا هنا لا نتكلم عن الزمن كاستمرارية Durée وسيرورة حسب، لكننا نتكلم عن الزمن كعامل انثروبولوجي جدلي يحقق ما يحققه من خلال مجهود كبير يستطيع ان يقضي على ضعف ونقص الماضي ليحقق حياة افضل للحاضر وللمستقبل القريب، على اقل تقدير، دون ان نستبعد الالم والموت من هذا المجهود. اما آخر الملاحظات فتقول بأن جميع القوى المعيارية، بما في ذلك قوة الله كخير اسمى وكحق وكنموذج للجمال، انما لها اختصاصات لا يمكن ان تخرج عنها، لأي سبب كان، حيث ان اختصاص هذه القوى الانسانية العظيمة هو تقويم الانسان نفسه، كفرد وكمجتمع، وليس غير ذلك، في حين يكون للشؤون المادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والمعيشية وغيرها قواها المتخصصة الخاصة، والتي تعمل بحسب قواعد قد تماثل قواعد المعايير الانسانية، لكنها تختلف عنها ايضا اختلافا كبيرا.

 

غير اننا ان نسينا فإننا لا يجب ان ننسى بأن الانسان لا يستطيع إهمال ونسيان وتجاهل القوى المعيارية حسب، لكنه يستطيع ان يتحايل على هذه القوى ويحاربها ويطمس بتعمد مطالبها ويزور معانيها ويشيطن اعمالها وأهدافها، كما يزور من تظهر في حياته مثل هذه القوى الخيرة المعطاءة التي تجعل من الانسان اكثر انسانية، بقدر ما يتمسك بهذه القوى ويطبقها في حياته.

 

ويقينا ان التزوير الأعظم يحصل في ايامنا، ايام عدوان الشعوب القوية على الشعوب والدول الضعيفة، وأيام  السطو على مقدرات وثروات الشعوب الضعيفة بحجة نقص او انعدام الديمقراطية لدى هذه الشعوب، بعد ان يخلط المزورون ويساوون بين الديمقراطية وبين التعددية السياسية، التي لا علاقة لها مع الديمقراطية إلا في حالات معدودات. كما سنرى ذلك في مقال قادم ان شاء الله. اما الآن، وفي نهاية هذه الفقرة فلم يبق ان نقول سوى اننا نكتفي بما جاء اعلاه، على الرغم من وجود امور اخرى كثيرة تخص التماثل بين الله وبين الفضائل المعيارية التي تكلمنا عنها.   

 

منارات انسانية مضيئة: بما اننا قلنا ان مهام القوى المعيارية محددة ولا تحيد عنها، وتكلمنا بما فيه  الكفاية عن تخصص القوى المعيارية الذي هو تخصص في تقويم انسانية الانسان وتوجيهها التوجيه الانساني الصحيح باستمرار، فإننا نرى الآن ان نشبه جميع القوى المعيارية التي سبق ان تكلمنا عنها، بالمنارات او الفنارات المضيئة، والتي لا تهدي الانسان نحوها حسب، ولا تحدد مساره فقط، ولكنها تجذب المسافر في البحر نحوها، حتى ان الوصول اليها يعتبر وصولا الى الهدف المنشود، بغض النظر عما اذا كان طريق الوصول الى المنارة او الفنار طويلا ام قصيرا، سهلا ام صعبا جدا. فالمهم هو الوصول الى المنارة، لأن الوصول الى المنارة يعتبر وصولا الى الهدف المنشود، عندما يكون هذا الهدف حاجة انسانية انثروبولوجية لا يمكن الاستغناء عنها. اذن فالعامل المشترك بين الله، كهدف ( اوميغا انثروبولوجية ) وبين هدف الحق والخير والجمال، وما يتفرع منها هو انها جميعها اهداف يسعى اليها الانسان لكي يأخذ منها حاجته الانسانية في الكرامة والتقدم. اما الديمقراطية والحرية وغيرها فيمكن اعتبارها محطات في طريق المنارة او الفنار الهادي، كما يمكن اعتبارها، هي الأخرى فنارات تطلب كل واحدة منها من اجل ذاتها. 

 

ليست كل ديمقراطيةٍ ديمقراطية: وعليه يمكننا الآن ان نقول بأن ليست كل ديمقراطيةٍ ديمقراطية، كمل ليس "  كل مدعبل جوز "  كما يقول المثل عندنا. ففي ايامنا السيئة خاصة، قد هبطت الديمقراطية من عليائها وأصبحت أداة ووسيلة للعدوان عوضا عن ان تكون منارا يكشف للبشر حقوقهم الانسانية،  والقيم العليا التي يسير البشر على هداها بحرية، عندما تصبح هذه القيم بعين المؤمنين بها بشرى يسعى اليها هؤلاء البشر، بعد ان تظهر هذه القيم العليا الانسانية " كحاجة " انثروبولوجية انسانية عميقة ومطلقة، تتحول الى هدف ( اوميغا ) يأخذ منها الانسان على قدر قدرته على الأخذ من اجل تحسين وتكميل ذاته، وعلى قدر رغبة هذا الانسان في الاستجابة لدعوة هذه القيم، ومنها قيمة الديمقراطية. لذلك نفهم بأن الديمقراطية ليست منهجا جاهزا يفرض هنا وهناك، لكنه مجهود يبدأ من الالف باتجاه الياء ( الأوميغا )، اي باتجاه هدف الانسان الأخير الذي يؤمن به ويرجو ان يحققه ويحبه. 

 

مجال واسع للتضليل: ويقينا ان الديمقراطية الحقيقية لا تعجب كل الناس، وهي لا تعجب كل اقوياء العالم الذين لا يريدون ان يعترفوا للضعفاء بحقهم في الحرية وفي السيادة الانسانية والوطنية، وفي الديمقراطية، بكل اشكالها. فمن يعتمد على القوة الغاشمة حتما لا يمكن ان يقبل بحق الآخرين في السيادة والديمقراطية، لان القوة الغاشمة المطلقة لا تعترف بسيادة احد ولا بحريته في ان يقود حياته، كفرد وكشعب.

 

الديمقراطية والتعددية: ومن هنا يسعى عتاة العالم الى قرن عملهم التعسفي العدواني ضد الشعوب بالكذب والدجل واللعب على المصطلحات وعلى إمكانية هذه المصطلحات على ان تحمل معنيين مختلفين، وحتى متناقضين في آن واحد، الأمر الذي يخلق الالتباس والشطط في مسألة الديمقراطية، قد يقود الى الجريمة كما حصل ويحصل في العراق على ايدي سفاحين حقيقيين ومصاصي الدماء تحت ذرائع كاذبة وواهية. اما هذا اللعب على المصطلحات فقد سمح للكثيرين ان يضللوا الشعوب وأن يستروا عورتهم بورقة توت  سموها الديمقراطية، في حين انهم كانوا يدمجون بين الديمقراطية وبين التعددية الحزبية التي هي شيء آخر تماما.

 

الشجرة تعرف من ثمارها: ولكن بما ان الشجرة تعرف من ثمارها، فان ثمار الحق والخير والجمال والعدل والسلام والمحبة والأخوة البشرية والديمقراطية والثوابت الأخرى المذكورة، لا يمكن ان تكون شجرتها سوى شجرة طيبة وصالحة، في حين لا تثمر الشجرة الرديئة غير ثمار فجة رديئة قتلت كل القيم النبيلة في العراق وفي سائر البلدان العربية الأخرى المعتدى عليها.  

 

مسك الختام: وعليه، فإذا كان الأشرار قد استخدموا الله والدين والطائفة والقومية من اجل اطماعهم وأهدافهم غير المشروعة، وإذا كانوا قد استخدموا مصطلح الحرية الكاذبة والديمقراطية المزورة للعدوان على الشعوب الضعيفة فإننا لا يسعنا سوى ان نقول للدول وللشعوب المعتدية، بأنكم اذا اردتم الحق والعدل فأعدوا للحق والعدل، وإذا اردتم الديمقراطية فأعدوا للديمقراطية، ضمن ضوابط هذه الأهداف الانسانية. غير اني اذكر اقوياء العالم بأن الديمقراطية لا تأتي من فوهة المدافع والصواريخ، وأن الذين يقتلون، او يساهمون في قتل مليوني انسان عراقي، وكذا ملايين من البشر من بلدان اخرى غالبيتها عربية وإسلامية، وأن الذين يسرقون ثروات الشعوب بعد احتلالها العسكري لا يمكن ان يكونوا  ديمقراطيين، سواء كانوا محتلين ام مشاركين في الاحتلال، وانما مجرد لصوص ومعتدين على انظمة الضعفاء وعلى سيادتهم وعلى ثرواتهم بنذالة وجبن، لا احد  يحسدهم عليهما.

 

 

 





السبت ٢٤ شعبــان ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٤ / تمــوز / ٢٠١٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب القس لوسيان جميل نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة