شبكة ذي قار
عـاجـل










لقد أفرزت المتغيرات التي مرت وتمر بها الأمم  تيارات من الادباء والفنانين المؤيدين أو المناهضين للسياسات والأفعال المتحققة على الأرض ، ولعل التاريخ الوطني لكل أمة ووطن يحمل في طياته أسماء نقشت حروفها بما قدمته من نتاجات أدبية أو فنية لصالح قضايا شعوبهم وأوطانهم ، وفي العراق كان هناك مرتع خصب لشعراء الأمة بسبب حالة الزهو والأزدهار التي زينت تاريخه وما حوته أرضه من خير وفير جعلت المتغنين به يشكلون فواصل تاريخية تدل على الكثير من تفاصيل أحداثه ومواقف شعبه ، وفي العراق أيضا تعرض الشعراء لملاحقات وتصفيات نتيجة مواقفهم من تلك القضية أو ذاك الحاكم بما جعل لأساليب الأنتقام منهم خصوصية غير لائقة بالمنقمين ، ولعل جريمة التمثيل المشين بالشاعر الشهيد فلاح عسكر الذي اعتقل من قبل الغوغاء عام 1991م والتي تسمى حاليا ب ( الأنتفاضة الشعبانية ) ، تمثل صورة من صور الأنتقام الممنهج من الذين يتقاطعون بالموقف مع فئات أو جهات تتقاطع مصالحها مع هذا النظام أو ذاك  ،فهذا الرجل الذي كان يقول الشعر في حب العراق ، قطع لسانه وهو حي ، ، ثم قطعت يداه وملأت بطنه بالبنزين ، واغلق فمه بشريط لاصق واطلق الرصاص عليه ، فانفجر جسمه كالقنبلة وتناثر في الهواء ، لذلك لم يبقى من جسده شيء للدفن ولم يعثر حتى على بقاياه !!

 

وبعد عام 2003م وأحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة وحلفاؤها والأنسياح الإيراني في بلاد الرافدين ، كان موقف أدباء وشعراء وفنانو العراق حرج للغاية ، فبالإضافة إلى قوة الصدمة وغرابتها في نفوس هذه الطبقات من مثقفي العراق ، كان هناك من يبحث عنهم ويلاحقهم بقوائم تصفية منظمة طالت الكثير منهم خطفا وتعذيبا ثم قتلا من قبل مليشيات ومفارز ترتدي بعضها لباس مغاوير الداخلية (كما كان يطلق عليها في حينه) ، مما أضطر البعض منهم ، وهم من خاصة الأدباء والشعراء أصحاب المواقف الوطنية شعرا وعطاءا ثقافيا ، أضطروا إلى مغادرة العراق واللجوء إلى دول أمنت لهم إلى حد ما حق العيش بكرامة وأمن أنسانيين .

 

يبدو لي أن جزءا رئيسا من سياسة تدمير العراق كانت ومازالت تكمن في موضوع مهم جدا يتمثل في تصفية عناصر التنوير فيه وإجبار الآخرين على ترك العراق ووضعهم في حالة من شغف العيش والكفاف الذي لا يسمح لهم بممارسة دورهم الثقافي والعلمي الوطني لنصرة قضايا شعبهم ، كما مارست الحكومات التي جاء بها الأحتلال محاولة ترسيخ واقع جديد يتمثل بإحلال أدب وشعر الداخل وتكريس وسائل الإعلام المتاحة وأمكانات الأحزاب والتشكيلات القائمة الآن ، لخدمته وإشهاره على حساب نتاجات من هم في خارج العراق ، ولعل المتابع يلاحظ بوضوح النزعة الضيقة للتشكيلات الأدبية الجديدة في العراق والمتمثلة بهيمنة منطق الأقاليم والطائفية الصريحة مقارنة بما كان يتغنى به شعراء العراق على مر الزمان وأعتمادهم العراق الواحد وخدمته هدفا لرسائلهم الشعرية . إن هذه السياسة منعت إلى حد ما ظهور خطاب وطني واضح من موضوع أحتلال العراق إلا من شعراء كانوا يمثلون رموزا وطنية تاريخية غير مسيسة وغير مأجورة أمثال شاعر العرب الكبير عبد الرزاق عبد الواحد ، وشاعر الرافدين رعد بندر وغيرهم .

 

صحيح أن الأحتلال في العراق لم يظهر شاعر بعينه كشاعر للمقاومة كما هو الحال في التجارب العالمية الكثيرة ومنها على سبيل المثال الشاعر لويس أراغون الذي يعتبر من أشهر شعراء المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني النازي لبلاده أثناء الحرب العالمية الثانية ، وكان لقصائده كبير الأثر في إثارتها للشعور الوطني لدى الفرنسيين وتشجيعهم للقيام بتحرير وطنهم، حتى أن البعض منها تحول إلى أغان تتردد على شفاه الشعب الفرنسي  ،ولكن الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد يقترب إلى حد كبير من لقب ( شاعر الوطن) في مواقفه الشعرية عقب أحتلال العراق ، ولم يتوانى أبدا في التعرض شعرا لما ألم بالعراق من خراب وتدمير ودم ، فكانت قصائده محل أهتمام العراقيين والعرب وكان هو محط فخر وأعتزاز أينما حل تقديرا لثباته في مواقفه التاريخية لصالح العراق وطنا وعبد الرزاق شاعرا ، وهاهو يقول معبرا عن حالة القهر التي يعانيها العراق والعراقيون في ظل الأحتلال الأمريكي والإيراني :

 

يا سيدي.. يا عراقَ الأرض.. يا وطني

وكلما قلتها تغرورقُ المقل!

حتى أغصّ بصوتي ثم تطلقه

هذي الأبوة في عينيك والنُبُلُ

صبرَ العراق صبورٌ أنت يا جملُ

وصبرَ كل العراقيين يا جملُ

صبرَ العراق وفي جَنبيهِ مِخرزهُ

يغوصُ حتى شغاف القلب ينسملُ

 

لقد أعطى عبد الرزاق عبد الواحد للعراق الوطن ما يستحق، ولعله طرّز بقصائده إطار تاريخه الشخصي عبر أجيال ستأتي وتقرأ له ما يجعلها تقول دائما ، لقد مثلّ عبد الرزاق عبد الواحد العراق وكأننا نراه عند أحتلاله من قبل أعداءه :

عُدْ بـي لِبغـداد أبكيهـا وتَبكينـي              دَمـعٌ لِبَغـداد.. دَمـعٌ بالمَلاييـن ِ

عُدْ بي إلى الكَرخ أهلي كلُّهُم ذبحُوا       فيها سَأزحَفُ مَقطوع َالشَّراييـن

حتى أمُرَّ على الجسرَين..أركضُ في     صَوبِ الرَّصافَةِ ما بَيـنَ الدَّرابيـن ِ

أصيحُ : أهلي...وأهلي كلُّهُم جُثَـثٌ            مُبَعثَـرٌ لَحمُهـا بيـنَ السَّكاكيـن

خُذني إليهِم ... إلى أدمى مَقابرِهِـم         لِلأعظَميَّـةِ.. يا مَـوتَ الرَّياحيـن

 

حتى يقول :

كَم مَسجِدٍ فيكِ .. كَـم دارٍ مُهَدَّمَـةٍ        وَكَم ذ َبيح ٍ عليها غَيـرِ مَدفُـونِ؟

تَناهَشَتْ لحمَهُ الغربانُ ، واحتَرَبَـتْ   غَرثى الكِـلابِ عليـهِ والجَراذيـن ِ

يا أ ُمَّ هارون مـا مَـرَّتْ مصيبَتُنـا        بِـأ ُمَّـةٍ قَبلَنـا يـا أ ُمَّ هـارون ِ!


أما الشاعر الكبير رعد بندر فقد ظل مرهون بحب العراق ، وقد عرفته عن قرب وأعلم أنه ومنذ احتلال العراق ، لافرحة مرت به ، ولا ضحكة ملأت فاهه ، ولا نام قرير العين يوما دون هاجس العراق وما يجري في العراق من تدمير وتدنيس وخراب :

ســـلام ٌأيـهــاالـوطـن ُســـلام ٌكـلـه ُشَـــجَــن ُ
ســــلام ٌأيـهــا الـدامي ومــا لـدمـــائــهِ ثــمـن ُ

ســـــلام ٌأيــهـــا الـمـقــتــول ُلا قــبــرٌ ولا كـــفــن ُ

ســـــــلام ٌيــا عــزيــزاً ذل َّ، ذل َّ لـذلـِّـــهِ الـزمـــن ُ

ســلام ٌمن غـريـبِ الـدار ِعـاف َعـيـونَـه ُالـوَسَـن ُ

يُـقيـل ُعـثـارَ غـربـتـهِ بمـا جـادتْ بـهِ المِـحَـن ُ

ويُـبـصِـرُ ، كله ُعَـيـن ٌ ويَـسـمـعُ ، كــلـه ُأ ُذن ُ

بأنَّ خـيـولَـك َالـعــربـاءَ هـــدَّل َسـرجَـهَـا الـوَهَــن ُ

 وقدْ صـارتْ كــلاب ُالـلـيــل ِخـيـلاً فـوقـهـا رَسَــن ُ

ويشير بندر صراحة للدور الإيراني في العراق فيقول في قصيدة أخرى :

للناس أحزانهم قالوا .. فقلت : نعم

لكن حزن العراقيين مختلف !!

ومدّع ، ختمت بالذل جبهته

يَكفيهِ لا عِرْضُهُ عِرْضٌ ولا الشَرَفُ

يقولُ قولَ مُكِبٍّ فوقَ ذلّتِهِ

إنَّ الحُثالى بعَارِ الذلِّ قد عُرفوا:

صارَ العِرَاقُ (جَديدَاً) قول ملتحِفٍ

بعَارهِ، بعضُ ما في عارهِ الصَلَفُ

نعَمْ (جديدٌ)! وهذا الموتُ متحفكُمْ

والميّتونَ على جدرانِهِ التُحَفُ

هُما احتلالانِ: هذا ظاهرٌ أشِرٌ

وذاكَ خافٍ خطاهُ اللّيلُ وَالسُدُفُ

كِلاهُما القوسُ موتورٌ بأسهمِهِ

والواتِرُونَ لَهُمْ أجسَادُنَا هَدَف

 

إن أحتلال العراق (الرسمي) قد ذهب لكن مواقف الشعراء والكتاب بقى إلى الأبد ، وكما بقى وسيبقى صوت السياب وهو الذي عاش ومات بهاجس العراق حين قال :

صوتٌ تفجّرَ في قرارةِ نفسيَ الثَّكلى: عراقْ

كالمَدِّ يصعَدُ، كالسَّحابةِ ، كالدُّموعِ إلى العيونْ

الرِّيحُ تصرخُ بي: عِراقْ

والموجُ يعولُ بي: عِراقٌ، عِراقٌ، ليسَ سِوى عِراقْ!

 

ومعه وبعده شاعر الأمة الكبير محمد مهدي الجواهري وهو يستشرف برؤياه الثاقبة مستقبل العراق في ظل الأحتلال البريطاني وظل من جاء بهم الأحتلال لسدة الحكم حين قال :

يا دجلة الخير: ما يُغليكِ من حنقٍ                             يغلي فؤادي، وما يُشجيك يشجيني

ما إن تزال سياطُ البغي ناقعةً                                  في مائك الطهْر بين الحين والحينِ

ووالغاتٌ خيولُ البغي مصبحةً                                        على القرى آمناتٍ والدهاقينِ

يا دجلة الخير: أدري بالذي طفحت                                 به مجاريك مِن فوقٍ إلى دونِ

أدري على أيِّ قيثارٍ قد انفجرت                                   أنغامُك السُمر عن أنَّاتِ محزونِ

 

سيبقى الشعر واجهة الأمم وسجلهم الذي لا يبلى ولا يشوه بإقلام المرابين والمتلونين ، و قصائد شعراء العراق متواصلة بما في بعضها من رؤية بعيدة ومعاني عميقة وصرخات تشق ليل العروبة وتنبه الى الخطر المحدق بها ولعل قصيدة الشاعر الليبي عبد المولى البغدادي  تمثل رؤية مستقاة من واقع الصور التي رسمها شعراء العراق في وجدان المواطن العربي ، ولعل ما حصل في بعض الدول العربية لا يحتاج إلى تعليق ، لاحظوا الشاعر الليبي حيث يقول:

 

أَزِفَ السَّبْقُ يا خيولَ السِّباقِ مَنْ عَليهِ الرِّهانُ بعدَ العراقِ ؟؟

مَنْ عليهِ الرِّهانُ يا لجمَ الماسِ ومستودعَ الكنوزِ العِتاقِ

أَزِفَ السَّبْقُ والمنافِذُ سُدَّتْ واستعدَّتْ رقابُنا للسِّباقِ

وَدَنَتْ ساعةُ اللَّحاقِ ببغدادَ فماذا يكونُ بعدَ اللَّحاقِ؟؟

 

 





الاثنين٢١ رجــب ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ١١ / حزيران / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. فارس الخطاب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة