شبكة ذي قار
عـاجـل










ولدت القيادات السياسـية العراقيـة الحاليـة المتحاصصة بالسلطـة من أرحـام ثلاث. كان أولها وأهمها الرحـم الامريكي الذي جمـع المعارضين العراقيين من أصقـاع شـتى، وأغـدق عليهـم المـال والتسليح والتدريب ووفر الماكنة الاعلامية والجهد الاستخباري، ليس لخدمـة طموحاتهم الشخصية بـل لخدمـة أجندته التي كان هؤلاء مجرد وسائل وأدوات فيها. هُـم كانوا موجودون في الغرب منذ عقـود طويلـة من الزمن، لم تعرف وسائل الاعلام أسماءهم ولا اشكالهم من قبل، حتى حان الوقت لتطبيق المصلحة الغربية، فظهروا فرسـانا على صفحات الجرائد والفضائيات ينهشون جسـد العراق وطنـا وشـعبا. أما المصنع الثاني الذي أنتج المعارضة العراقية فكان الرحم الايراني، الذي أندفع منذ اليوم الاول لوصول الخميني للسلطة الى تصدير ثورته الى العراق بعقول وأياد ايرانية خالصة، وعندما فشل في ذلك راح يجمع الطائفيين لتشكيل النواة الاولى للمعارضـة العراقيـة، بتسليح وتدريب وتمويل وجهد أسـتخباري ايراني، ثم تعزز هذا الوجود وهذا الكيان وأتسع أثناء الحرب العراقية الايرانية، من خلال أستثمـار الاسرى العراقيين بالضغط والاكراه وعمليات غسيل الدماغ للانتماء الى هذه الواجهة الايرانيـة الهدف والعراقية التسمية.


ولقد كانت هذه الزعامات التي ولدت من هذين الرحمين، ذات فعل وتاثير واضح في تشكّل المشهد السـياسي في العراق مابعد الاحتلال، ليست بقواهـا الذاتيـة المحضة، بل تبعا لنفوذ القوى الضامنـة لها وهمـا الولايات المتحدة الامريكيـة وأيران، اللتان شكلتا أئتلافـا أحتلاليا نـادرا في التاريخ الاستعماري، حيث لأول مرة تتحد قوى متضادة في الاجندات السياسية وفي حالة عداء معلن في أحتلال بلد، وتسير خطواتهما بشكل متواز على السـاحة المحتلـة. ولأن هـذه الزعامـات تقلّدت المناصب المهمة في الدولة، وتم ضمان مصالح الطرفين المحتلين الامريكي والايراني بوجود هؤلاء في هـذه المفاصل، ولأن الـوطن تم توزيـع جغرافيتـه على هـذه الاطـراف، حيث الشمال كردي بشكل مطلق، والوسط والجنوب مسيطر عليه من قبل حلفاء أيران، فقد بات من الضروري لتجميل الصورة ولإبراز شـفافيـة وجـاذبيـة النمـوذج الديمقراطي الامريكي، إنشاء زعامات سياسية من الواقع المحلي وفق شروط المنهج الطائفي والاثني الـذي بات واقعـا سياسيا عراقيا بأمتيـاز. فكان أن ولدت من هـذا الرحـم الداخلي المشـوّه بسبب الغزو والاحتلال زعامـات جديدة، كان بعضها بعيدا عن مؤتمرات لندن وجنيف وصلاح الدين، لكنها أرتضت اللحاق بالقافلـة الجديـدة، التي كـان حاديها هو نفسـه المشرف على تلك المؤتمرات، والغازي والمحتل للبلد في المرحلة اللاحقة. كان الحيز المخطط لهذه الزعامات هو أن تكون ظواهر صوتية، لها صحافة وفضائيات وممثلون في البرلمان والحكومة، كلها تشير الى هدف واحـد هو أن في العراق ديمقراطيـة، من خلال بذخ الكلام والتصريحات النارية والخطب الرنانة التهديدية، والتي دائما ماتنتهي بعد فترة وجيزة من الزمن، وتعود المياه الى مجاريها بين الجميع.


ولقـد برز في هـذا المجـال طارق الهاشمي وصالح المطلق، كابرز قطبين سياسيين مُعبرين عن هـذه الظاهرة السياسية الخادعة. فالأول مارس التقية السياسية على أكمل وجه منذ تصدره المنصب الاول في قيادة الحزب الاسلامي العراقي بعد أنقلابه على الزعيم السابق، كي يصبح أقرب الى قادة الاحتلال والى الزعماء الآخـرين المتحاصصين في السـلطة. كان ينادي بالخيمـة الوطنيـة ويقاتل صوتيا النظام الطائفي ويتقلد منصبا مخصصا للطائفة. هو يعارض الاتفاقية الامنية العراقية الامريكية ويشيد بالوزيرة التي تمثل حزبـه لأنها لم تصوت عليـها في مجلس الوزراء، ثم يدخـل البرلمـان كـي يصوت بالتأيـيد على أقـرار الاتفاقيـة. يُوهـم جماهير حزبـه والمناطق التي يدعـي تمثيلها بأن الدسـتور سـيتم تعديله خـلال أربعـة أشهر، ولا يحدث ذلك على مدى كل السنوات التالية ولحد الآن . يزور السـجون والمعتقلات ببهرجـة ثم يقول أنـه لايستطيع الافـراج حتى عن البريء لأن المالـكي لايـوافق. ثم تأتي أزمتـه الاخيرة لتكشف عن أنـه كان صامتا طوال كل تلك السنين عن أكبر الكبائر التي كانت تمارسـها الحكومـة ضد الشعب والوطن. فكل من يراجـع مؤتمراته الصحفية منذ لجوئـه الى شمال العراق ولحد الآن، يجد بشكل واضح أن هنالك حديثا لم نسمعه منه من قبل عن جرائم بحق الشعب والوطن، وأن هنالك تهاونا ومحاباة للقتلة والمفسدين ولصوص المال العام، ثم يعلن بأن الامريكان قد تركوا العراق حطامـا، لا عدالـة فيه ولا ديمقراطية ولا قانون، وهو الذي كانت يـده بأيديهم طوال كـل هذه السنوات قطبا بارزا من أقطاب عمليتهم السياسية. والغريب أنه يدعي بأن الدفاع عنه بات فرض عين على كل عراقي، بينما سـبق لـه أن عطل الجـهاد الذي هو فرض عين على كـل عراقـي ضد الاحتلال، وسـعى لاستدراج فصائل المقاومة للدخول في العملية السياسية، وتباهى بذلك علنا.


أما صالح المطلق الذي أعتبره البعض صوتا عروبيا مقاوما لنظام الحكم السياسي الطائفي، ومتناغما مع الكثير من التوجهات الوطنية لعموم الشعب، فيبدو أنه قد روّض نفسه للتأقلم مع العهد الجديد بيده وبمساعدة من أطراف سياسيـة طائفيـة وجدت لديه الرغبـة في ذلك، فكانوا حريصين على أستدراجـه لتقديم فـروض الطاعـة والـولاء للنظام الطائفي ولرموزه، كي يسـقط نهائيا من حسـابات المعارضين للعملية السياسية ويتخلون من التعويل عليه. ويبدو أنه قد فهم جيدا ماهو المطلوب منه، فراح يعلن التوبة والاعتذار أمام البرلمانيين عن سياسات سلطوية سابقة لادور له فيها، وعن أنتماء حزبي كان قد ترك العمل في صفوفه منذ زمن بعيد، وهي أدلة على أنه قد حسم أمره كي يكون رمزا سياسيا في السلطة الفاشلة، وأن يتخلى عن دور القائد بين الجماهير الذي حاول في بداية الامر أن يمارسه. بل أن الغريب في الرجل هو أنه قد صمت تماما عن التصريحات التي عرفه الجمهور بها، منذ أن جلس في مجلس الوزراء نائبا للمالكي والتي كان يبدو في الاجتماعات بأن لاحول له ولاقوة.


وبذلك سقط تماما في شراك رئيس الوزراء الذي مارس كل أنواع الاغراءات عليه من خلال المقربين، الذين كان يرسلهم اليـه كـي ياتي طائعا.

وعندمـا أكتشف أن مـا وُعِد به كـان مجرد عمليـة خـداع كي يشتروا به صمته، عاد مجددا الى الظاهرة الصوتية التي عُرف بها متخيلا أن المالكي لم يعد بمقدوره أن يتخلى عنه بعد أن جلس في منصب النائب، وبات قطبا من أقطاب الحكومـة، لكن المطلك فاته أن الزعامات الطارئة قد تكون مكملات للديكور الحكومي أسوة بالوزير بدون حقيبة، لذلك كان الرد عليه بمنعه من دخول أجتماعات مجلس الـوزراء، لأنـه أن حضر لا يُعد وأن غـاب لايفتقد ولن تتأثر سـلطة رئيس الوزراء الذي ملك كل السلطات بيديه بموجب دستور أعرج لم يحدد سلطاته.


أن معضلة الزعامات الطارئة هي أنهم يسرقون التمثيل الشعبي كي يتنافسوا مع الاخرين للوصول الى سُلّم السلطـة، وعندمـا يمسكون زمـام الامـور بأيديهم يتخلون عن التزاماتهم الوطنيـة تجـاه المواطن لأنهم ليسوا أهلا لها، لكن أيـة أنتكاسة أو هزيمـة يتعرضون لها فأنهم لايتوانون مطلقا عن التلاعب مجددا بالغرائز الطائفية والاثنية التي كانت وسيلتهم للصعود للسلطة. أنهم قادة اللحظة الآنية وليست اللحظـة التاريخية، وبما أن العراق اليوم يمر بمرحلـة تاريخيـة من أصعب المراحل التي سوف تحدد وجوده وهويتـه ومستقبله لزمن قادم، فأن التخلي عن كل رموز العمليـة السياسيـة بات فرض عين على كل عراقي شريف، يؤمن بأن الوطن بحاجة للنهوض بقادة تاريخيين وليسوا أقزاما يرقصون في الملعب الطائفي.

 

صحيفة القدس العربي اللندنية

 

 





الاربعاء٠٤ جمادي الاخر ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٥ / نيسان / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة