شبكة ذي قار
عـاجـل










غُفرانك ربي الف مرة. رددتُها مع مقتدى الصدر الذي توسّل بها مرة واحدة، وهو يفتي بجواز العمل في السفارة الامريكية في العراق، في رده على سائل من أتباعه، كان قد طلب موقف الشرع من هذه المسألة. ونحن هنا لسنا في معرض أستنكار العمل في هذه السفارة أو غيرها، لكننا في صدد الربط بين جواز العمل في السفارة الامريكية الذي أباحه مقتدى الصدر، وبين دعوة سابقة لمقاومة الوجود الدبلوماسي الامريكي الكثيف، التي أطلقها الرجل نفسه قبل فترة وجيزة. فهو يقول في نص فتواه الجديدة ( غفرانك ربي ، نعم أدخلوا عسى الله أن يأتي بفرج منه على أيديكم، لكن أياكم أن تدخلوا مع خوف الزلل والشطط ). و لاندري هل أن السائل سوف يتم تعيينه بصفة سفير، كي يأتي الفرج على يديه، بعد أن يُقدّم للادارة الامريكية تقاريرا ينصحهم فيها برفع اليد عن العراق، وترك شأنه لأهله، وتعويض العراقيين عن الخسائر التي لحقت بهم من جراء الغزو والاحتلال، وأيقاف دعمهم للسلطات السياسية الحاكمة الفاسدة التي أوصلوها لسدة الحكم، وجعلوها تتحكم بالبلاد والعباد على الرغم من جهلها بكل قوانين السياسة والحكم. علما بأن هنالك فتوى أخرى للرجل تُحرّم تماما العمل مع القوات الامريكية بأي صــــفة كانت، وهو يعلم تماما بأن غالبية الكادر الموجود في السفارة الامريكية كانت من ضمن تلك القوات، وأن كل الذي جرى أنهم أستبدلوا زيهم العســـكري بالزي المدني، وباتوا ضباطاً يعملون في الشركات الامنية المختصة بحماية السفارة. قد يقول قائل أن الرجل قد أدرك تماما بأن العراق قد حصل على أستقلاله الناجز وأن تحريمه للعمل مع القوات الامريكية جاء على خلفية أنها كانت قوى أحتلال غاشم، بينما اليوم هي بعثة دبلوماسية لتنظيم العلاقات بين دولتين مستقلتين، وشعبين صديقين يحــــتاج بعضهما الآخر وهذا غير صحيح تماما. بل الواضح هو ان الرجل يجمع بين السياسة والدين وبالتالي فأنه يتعامل بالسياسة كونها فن الممكــــن وأسقط ذلك على الدين، وهو منطق مفهوم تماما في العراق الجــــديد بل وحتى في المنطقة التي تشهد تغيرات سياسية يتصــــدّر فيها الاســـلام السياسي المشهد، حتى أصبح الدين تابعا للسياسة ودهاليزها وتغيراتها التي تنبع من المصالح، وليس المبادئ المثبتة في الشرائع الدينية. لذلك بات التناقض واضحا في أقوال وأفعال كل من أقحم الدين بالسياسة، وجعل المسجد منبرا سياسيا في خدمة الهدف السياسي.


وأذا كانت الاسماء التي زاولت هذا المنطق كثيرة في العراق منذ الغزو وحتى اليوم، وتسببت في إثارة الكثير من الغبار الذي حجب رؤية حقيقة الاحتلال، وحجّمت الكثير من الطاقات التي كانت تواقة للمقاومة ومواجهة المحتل، وعطلت شرائع السماء في حق الجهاد، فأن مقتدى الصدر كان أحد تلك الاسماء البارزةً. فالمتتبع لكل تصريحاته السياسية التي دائما ما يطلقها مغلفّة بمنطق شرعي وليس سياسيا، يجدها تحمل الكثير من التناقضات. فقد دفع أنصاره لمقاتلة القوات الامريكية في بداية سنوات الاحتلال، ثم أفتى لهم بالهدنة وبيع السلاح المقاوم الى القوات الامريكية التي أشترته منهم ببضعة من الدولارات، وفي خضم دعوته الى الوحدة الوطنية في وجه المحتل، نجد بأن تياره كان أحد الاطراف البارزة في الحرب الطائفية التي مرت على العراق. وعندما أستبد المالكي بسلطاته اللاشرعية، وعاث في البلاد ظلما وتقتيلا وبات قاب قوسين أو أدنى من عدم التجديد له بنهاية ولايته الاولى، بعد أن حصلت قائمته على المركز الثاني في الانتخابات، وأصطف الجميع ضده بما فيهم مقتدى الصدر، الذي تحرك نحو القيادتين في تركيا وسوريا لرسم خارطة تحالفات سياسية جديدة كما ظن البعض أنذاك، من أجل تحقيق التغيير والتخلي عن المالكي، بعد أن أتهمه بقتل الصدريين أكثر مما قتل منهم النظام السابق على حد قوله، نجد أن كل تلك التصريحات والتحركات قد ذهبت أدراج الرياح في لحظة واحدة، وأعطى كل الاصوات التي حصل عليها تياره الى المالكي مرة أخرى، ونصبّه مع الاخرين رئيسا للوزراء لولاية ثانية.


وعندما صُدم أتباعه بذلك الانقلاب الغير متوقع من قبل زعيمهم، وأشتراكه في الوزارة التي شكلها المالكي، أصــــدر فتــــواه الشهيرة التي أكد فيها أن اشتراكه في وزارة المالكي، جاء لكي يكون قريبا منه ويهديه الى طريق الحق والصواب، معترفا في نفس الفتوى بالظلم الكبير الذي لحق بالعراقيين من جراء السياسات الطائشة التي مارسها رئيس الوزراء، وتفرده في عملية صنع القرار.


إن الزعامة السياسية في محيطنا الجغرافي عموما، تتطلب من متوليها أن يكون على قدر كبير من النضج السياسي، وأن تكون أولويات أهدافه وأهتماماته مدروسة بشكل جيد، كي لا تتحول جموع الانصار والمؤيدين الى مجرد أرقام يناكف بها الآخرين، ووسائل ضغط ومساومات ووجاهة سياسية ، لأن بلداننا تفتقر الى المؤسسات السياسية الحقيقـــية التي تنظم حركة الجماهير فيما أذا أنحرف القائد عن جادة الصواب، كما أن الظروف في البلدان المحتلة تفرض على القائد والزعيم السياسي مزيدا من المسؤولية التاريخية أقدسها دفع أتباعه لمقاومة المحتل أولا، ثم تغيير كل الظروف التي أوجدها الاحتلال على الارض خاصة مايتعلق بما أصاب النسيج الاجتماعي من أمراض وعلل، والتركيز على الوحدة الوطنية. قد تصنع الجماهير لنفسها زعيما سياسيا في ظروف التشتت والضياع لأسباب عاطفية غرائزية أو كارزمية أو لإرث ديني أو قبلي يتمتع به، لغاية البحث عن غطاء جامع بعد أن تهلهلت الخيمة الوطنية، لكن بريــــــق الزعامة لن يدوم طويلا له بعد أن تعود الظروف الموضوعية والذاتيـــة الى طبيعــــتها، وهذا ينطبق تماما على الكثير من الساسة العراقيين بما فيـــهم مقتدى الصدر، الذي اثبت طوال سنوات الاحتلال أنه فشــــل في أن يكون زعيما حقيقيا في عالم السياسة التي لاتعترف سوى بالوقائع على الارض لا الاقوال والخطابات الرنانة. ففي الوقت الذي لم يُقدّم فيه أي فعل حقيقي على الارض يزيد من تلاحم الوحدة الوطنية في العراق، راح يؤجج النفس الطائفي في البحرين الذي سيحترق فيه حتى من يدعي مناصرتهم، لأن الحروب الطائفية لاغالب فيها على المدى البعيد، بعد أن تصبح ثأرا قد ينتصر فيها الخاسر السابق في حالة تغيير الظروف، وبالتالي تتحول الى نقاط أضطراب مستدام نتيجتها خراب الوطن الذي يعني في نهاية الأمر هزيمة الجميع. كما إنه بهذا الفعل يؤجج النفس الطائفي البغيض في العراق مرة أخرى أيضا، لأن الشعب في البحرين هو شعب شقيق لابد أن تُشكّل الحالة التي يُعانيها ردود أفعال لدى العامة في بلدنا، عندما يجدون أن طرفا عراقياً طائفياً يساند طائفة ضد أخرى هنالك، مما يرفع من حالة الاشمئزاز الطائفي الغرائزي لدى الطرف الآخر، وبذلك ستكون لها ردود أفعال أنعكاسية على الساحة العراقية.


أن الزعامة الدينية قد تُضفي شيئا من القداسة والاحترام والتبجيل على الابناء، لكن المرجعية الدينية لم تذهب كأرث الى الابناء بعد الآباء في العراق، وكذلك الزعامة السياسية أيضا. أي أننا لم نجد في التاريخ العراقي أنتقال الزعامة الدينية أو السياسية الى الأبناء بالوراثة. لكن الحالة بعد الاحتلال الامريكي سجلت بروز هكذا زعامات، لا دالة لديها سوى الاستناد الى أرث مرجعي ديني أو سياسي، مما أوقعها في حالة من الحيرة والمراهقة السياسية، فكانت طروحاتها على متطلبات الواقع مجرد ردود أفعال أرتجالية لا أكثر، وهي الدوامة الحقيقية التي يعيشها العراق اليوم .


 

صحيفة القدس العربي اللندنية

 

 





الثلاثاء١٩ ربيع الثاني ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٣ / أذار / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة