شبكة ذي قار
عـاجـل










تعددت الآراء والمواقف إزاء ما حدث ويحدث في أقطار الوطن العربي بعد احتلال العراق، وبخاصة ما حدث في مصر وتونس واليمن وليبيا وسوريا، وما ينتظر البقية الباقية من أقطار الأمة. لكن الغالبية اتفقت على وصفها بالربيع العربي باعتبارها تعبير عن إرادة وقدرة أبناء الأمة على التغيير، الذي أنتج خلاصاً من بعض الأنظمة الفاسدة والمتخاذلة، وبعضها متآمر على مصالح الأمة وقضاياها، تسببت بالعديد من المآسي التي ألمت بالشعب العربي وأفقدته القدرة على أداء دوره الفاعل في الحياة. وهو كذلك حقاً.


لكن الذي لم يستوعبه بعد الكثير من مثقفي العرب وممتهني السياسة ومحترفيها وهواتها هو وعي الغايات والأهداف التي تسعى القوى الامبريالية الغربية والصهيونية العالمية وأدواتهما وحليفتهما بتلاقي المصالح الشعوبية الفارسية لتحقيقها من خلال ما يتيسر لها قطفه من أزهار هذا الربيع الذي يراد له أن يثمر مزيداً من الأشواك الدامية في واقع الأمة ليدمي قلوب وأقدام الطامحين والساعين لجعل مستقبلها إيجابياً.


رغم أن أحداً لا يمكنه تجاهل الأدوار التي لعبتها وتلعبها القوى الامبريالية والصهيونية في خضم الأحداث الجارية في أقطار الأمة، فلولا التهديدات الظاهرة والمبطنة التي أعلنتها الإدارات الغربية لمن تخلى من الحكام العرب عن موقعه، وتسخيرها لمختلف وسائل الإعلام والدعاية لمتابعة الأحداث ونقلها بعد صياغتها بالصورة التي تريد للشعوب وأصحاب الرأي والقرار أن يروها، والترويج لكل الجهات القادرة على أداء دور يفضي في ظاهره إلى ربيع مزهر وديمقراطية ناضجة، مشفوعاً بدعم مادي ومعنوي، وفي بعض الأحيان عسكري مباشر أو غير مباشر، لما فعلوا، ولما تخلى أحد منهم عن كرسي حكمه بتلك البساطة والسهولة وذلك الانصياع غير المعهود فيهم من قبل.


لا شك أن الذين ثاروا بوجه حكامهم، والذين ينتظرون دورهم للثورة، هم نواتج حقيقية وموضوعية لعهود من الانحطاط والضياع والسلبية والانكسار النفسي التي ساهمت الأنظمة بدور رئيسي في صياغتها وترسيخها في الحياة العربية لأسباب وعوامل مختلفة، وهم لا يجدون في ثوراتهم ضد أنظمتهم تناقضاً أو انتقاصاً من وطنيتهم وانتمائهم، بل هم يجدون فيها واجباً وتكليفاً شرعياً، وهو كذلك. لكن الذي لا يستطيعون استيعابه أنهم يمارسون عملاً لا يملكون القدرة على توجيه مساراته النهائية وفقاً لغاياتهم ونواياهم النبيلة، لأن من يتوغل في صفوفهم ويعمل على حرف المسارات بالاتجاه المفضي لتحقيق مصالحه وغاياته الحقيقية يفوقهم في القدرة والفاعلية والتأثير، ويملك الإمكانات التي تؤهله لأن يمحق إرادتهم ويسلبها القدرة على التمييز بين المسار الآمن والمنزلق في خضم أحداث تفتعل لا يستطيع التحكم فيها أو التعاطي معها بإيجابية، ذلك لأنه هو الذي وقف خلف انتصاراتهم، وهو قادر أيضاً على تحويلها بين ليلة وضحاها إلى نكسات ونكبات، فهو الذي قرر شرعيتها، لكن ليس من زاوية الشرعية التي يؤمنون بها، إنما هي شرعية زائفة اختلقها وأوجد أسبابها وذرائعها، فهو قادر على إبطالها في أية لحظة يشاء بذات الوسائل والأساليب التي أرغمت الأنظمة على الخضوع والركوع.


في عام 1916م شهد التاريخ نموذجاً لما يحصل اليوم في واقعنا العربي، فالثورة العربية الكبرى التي انطلقت من الحجاز كانت أهدافها العربية واضحة، تمتلك كل المقومات الشرعية، فسياسة التتريك كانت نتيجة نهائية لجملة من الممارسات التعسفية التي انتهجتها السلطة العثمانية بحق المشرق العربي أودت بأهله إلى أدنى حالات التردي والتخلف والعجز عن أداء دورهم الحضاري طوال أكثر من أربعة قرون. لكن البريطانيين والفرنسيين الذين حرضوا الثوار العرب وساندوهم وأمدوهم بكل وسائل وسبل النجاح باسم الشعارات التي رفعها الثوار العرب بحق التحرر من الهيمنة التركية وحق تقرير المصير، كانوا يعملون في ذات الوقت على تحقيق غاياتهم وأهدافهم التي تتناقض كلياً مع أهداف الثورة وثوارها، من خلال حرف المسارات بالاتجاه الذي يريدون، وكانت النتيجة أن حقق الداعمون كامل غاياتهم فيما لم يتمكن الثوار من تحقيق شيء من أهدافهم، فقد تحول كيانهم العربي الواحد إلى شراذم وحصص تقاسمها الغزاة الجدد بعد أن كانوا داعمين مساندين للتحرر وحق الشعوب بتقرير مصيرها. وقد أثمر ذلك من بين ما أثمر اغتصاب أرض فلسطين ومقدساتها ومنحها للصهاينة اليهود لينشئوا غليها كيانهم المسخ، ليس حباً باليهود ولا اعترافاً منهم بحقوق لهم، ولكن ليتخلصوا من شغبهم وخبث دسائسهم أولاً، ولكي يكون كيانهم هذا الجرثومة التي لا يرجى الشفاء من مرضها، تنخر في الجسد العربي لتشقى روحه الإسلامية فلا تقوى على أداء دورها الحضاري.


ولما لم يكن تمزيق القوى الامبريالية والصهيونية للجسد العربي وفقاً لمعاهدة سايكس بيكو عام 1917 مجدياً كثيراً، وبخاصة بعد اكتشاف النفط، وتحوله إلى بديل مرحلي لحالة فقدان التكامل الاقتصادي العربي بالقطريات، فقد صار لزاماً التفكير بمرحلة أخرى تحقق تمزيق الممزق، وتحويل المزق إلى بؤر للصراع والاقتتال والتناحر، فكانت الشرق أوسطية والفوضى الخلاقة. تزامناً واستثماراً لثقافات التطرف والتناحر والصراعات الطائفية.


أما لماذا الانطلاق ما كان ليكون إلا من خلال العراق فذلك يعود إلى أن العراق معروف تاريخياً على أنه مهد للحضارة، لكن الذي يغيب عن وعي الكثير أن ما من حضارة نشأت على أرضه إلا واكتسحت محيطها وأرغمته على المضي في مسيرتها الحضارية، فعلى أرض العراق كانت حضارات سومر وبابل وأكد وأشور، وتحت أجنحتها الحضارية انضوت أغلب الأقوام والأمم وأذعنت لقيادتها؛ من شواطئ البحر المتوسط حتى تخوم الصين، وكذلك فعل العرب بعد ذلك بآلاف السنين انطلاقاً من العراق في العهد الإسلامي، حيث أشعت أنوار الحضارة الإسلامية من بغداد لتغطي أغلب أراضي الأمم في العالم القديم، حتى لقد خضعت لسلطة بغداد أكثر من عشرين ألف مدينة. فالخشية من نهضة العراق ومشروعه الحضاري خلال النصف الثاني من القرن العشرين كانت تستند إلى وعي حقيقي من قبل أعداء الحضارة مرتكزاً إلى أسس تاريخية واضحة ومؤكدة بالتكرار المضطرد، بأنها لو أمهلت فستكون كسابقاتها واسعة الإشعاع والتأثير، على خلاف كل الحضارات التي نشأت في مناطق مختلفة، بما فيها الحضارة الفرعونية التي لم يتح لها أن تتمدد إلى أبعد من حدود وادي نهر النيل رغم عظمتها وأصالتها وقوتها، كذلك كانت حملة الاسكندر المقدوني التي عجزت، رغم اتساع رقعتها وأساليب التفتيت التي انتهجها الاسكندر بما سمي بدويلات الطوائف، عن فرض قيمها الحضارية. ولذلك كان لابد أن تكون البداية انطلاقاً من العراق وليس غيره.


وعلى ذلك فإن الأزهار التي ستتفتح في ربيعنا العربي بغياب العراق ستكون كثيرة، لكن أحداً من العرب لن يتاح له القطف منها، إنما سيتاح لهم جميعاً حصد الأشواك الدامية منها فحسب.

 

وإن غداً لناظره قريب.

 

 





الجمعة١٩ صفر ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٣ / كانون الثاني / ٢٠١٢م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حديد العربي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة