شبكة ذي قار
عـاجـل










أنها بصمة أبهام الدولة، وشفرت قزحيتها وملامح وجهها، ورقمها السري الذي به تفتح أبواب العالم وتتخذ المكانة التي تليق بها بين الامم. تلك هي التي ندعوها بالسمة الوطنية، التي تتميز بها الدول بعضها عن بعض، والتي في ضوئها يشار لها بالبنان حينما تحضر في المحافل الدولية، وبسببها يسأل عنها حينما تغيب، ويهرع المجتمع الدولي لنجدتها في حال تعرضها الى أي سوء.


قد تكون أيديولوجية، أو نمط سياسي معين، أو توجه حضاري مميز، أو سلوك نادر في التعامل بين الحاكم والمحكومين، وقد تكون كل هذه مجتمعة في وعاء دولة واحدة. صناعتها هي عمل جماعي ليس حكرا على زعيم أو حزب أو منهج، بل هو أنصهار تام لكل الجهود الوطنية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاعلامية وغيرها في سبيل هذا الهدف السامي، وهي توقيع تشترك فيه جميع الايدي، وتحمله جميع الصدور وتعززه كل العقول.


بها أرتفعت رايات دول لم يكن لها حضور من قبل، فأصبح لونها مميزا في السياسة الدولية، حتى باتت سمتها الوطنية هي قوتها الناعمة التي تغري الاخرين بها، وتجذب كل من بات بلا سمة وطنية. وأذا كان شبح الاحتلال قد أضاع الكثير من أمكانات العراق وثرواته المادية والبشرية، وحطم كل بناه التحتية حتى المعنوية منها، فأن أخطر شيء قام بتدميره هو سمة العراق الوطنية، وأقتلاع كل الاسس التي يمكن البناء عليها من جديد، وأهمها ثقة الانسان العراقي بنفسه، وقابليته على الخلق والابداع الحضاري المتمم للمسيرة الانسانية العالمية. ولقد أجهد الاحتلال نفسه في هذا العمل الشائن قبل الغزو بعقد من السنين حينما أشاع مصطلح الدولة المارقة في وصفه للعراق، فأنسحب هذا المفهوم الظالم على كل مواطن عراقي كان يعمل أو يقيم في خارج الوطن. أما من كان يقيم في الداخل فقد كانت عمليات التدمير المنظم من قبل لجان التفتيش لمنتجات وأبتكارات العقل العراقي في التصنيع المدني والعسكري، ومداهمات بيوت العلماء والخبراء العراقيين وأبتزازهم وأهانتهم، كلها دلائل واضحة على السعي الحميم لتدمير السمة الوطنية العراقية، وزرع الشعور بالمهانة والدونية أمام المجتمعات الاخرى. كما ترافق هذا الهجوم الوحشي مع عمل أستخباراتي منظم لايجاد هويات وبناء سمات أخرى للعراق هي نقيضة تماما للسمة الوطنية الجامعة، من خلال تجميع فئات سياسية ودينية وعشائرية عراقية أو تدعي أنها عراقية، وصناعة رموز منها تدعوا الى أعادة التشكيل المجتمعي على أسس أخرى طائفية ومذهبية وقومية.


لقد عمل المحتل وبشكل جاد مع كل تلك الجهات التي صنعها على جعل مرحلة مابعد الغزو، مرحلة تعرض واسع على كل ما من شأنه أعادة السمة الوطنية الخاصة بالعراق، فشجع الاحزاب الطائفية على تشكيل حكومات قائمة على الاغلبية الطائفية وليست السياسية، وحل الجيش العراقي بما له من رمزية فاعلة في خلق مجتمع متجانس، ودمر مؤسسات الدولة التي كانت تمثل ركائز هيبة وطنية، ولغم الدستور ببنود عديدة تسهل التشرذم الجغرافي والانقسامات العرقية، ثم أطلق العنان لجوقة السياسيين كي يعزفوا على وتر قدسية كل ما جاء به الاحتلال بعد التاسع من نيسان العام 2003، والدعوة الى الاحتكام الى كل هذه الاخطاء والكوارث الدستورية والـــقانونية والعرفية الجديدة في حل كل المعضلات التي يعانيها المجتمع العراقي اليوم، والتي هي نتاج طبيعي وحقيقي لهذه القوانين والتشريعات الشاذة.


لذلك بات العراقي اليوم يعاني من حالة أستلاب حقيقي لهويته وخصوصيته الثقافية والاخلاقية، في ظل أكثر من ثلاثين قناة فضائية عراقية وعشرات الصحف، غالبيتها تشجع الخصوصية الطائفية والمذهبية والقومية، وتدعو الى أقامة الاقاليم الخاصة بها والحكومات المحلية التي لايشاركها فيها أحد، والثروات التي لايمكن أن تخرج خارج أطار حدودها الوهمية. كما أنتشرت الاعلام والرايات على الساحة العراقية بما يزيد عن عدد الاعلام التي ترتفع في باحة هيئة الامم المتحدة، وكل علم يمثل حزب وتيار سياسي وقومية وقبيلة وعشيرة، حتى تراجع العلم العراقي الى الصفوف الخلفية، وأصبح غير معروف الشكل والالوان بالنسبة الى الكثير من أطفالنا. كذلك باتت النزاعات بين المحافظات على الحدود الادارية بينها تتخذ طابع نزاعات سياسية، ترافقها تهديدات بقطع المياه أو منع التزويد بالطاقة الكهربائية من محطات الطاقة الموجودة على أراضي المحافظة الاخرى.


وتتعالى الاصوات المطالبة أن يكون لكل محافظة تمثيل في الحكومة المركزية بمقاعد وزارية وعلى مستوى المدراء العاميين، وتمثيل في الاجهزة الامنية والسفارات العراقية في الخارج. بل وصلت المطالبات الى ساحة القضاء أيضا من خلال الدعوات التي تطالب بضرورة مثول المتهمين أمام محاكم المحافظات التي يسكنون فيها لاغيرها مهما كانت الاسباب. ولقد ساعدت هذه الدعوات على ظهور نزعات أوغلت في التشظي، حتى بات المواطن العراقي يسمع على لسان المسؤولين المحليين في المحافظات تعابير ضيقة مثل (المجتمع الكربلائي، والبصري، والسماوي، والانباري والكركوكلي)، وبالتالي أنحصرت النشاطات الحياتية اليومية في داخل الحدود الادراية الضيقة للمحافظات العراقية، التي أنشأت أصلا لاغراض أدارية وليس تفتيتيه.


لقد كانت المؤسسة العسكرية السابقة والممثلة بالجيش العراقي خير عامل مساعد على أنصهار المجتمع العراقي في بوتقة الهوية الوطنية الواحدة، بعد أن كانت السياسة المتبعة فيه قائمة على أساس الخدمة في خارج مسقط الرأس، فكان من يسكن في جنوب العراق يخدم في شماله، ومن يسكن غربه يخدم في شرقه، كما أن هنالك وزارات كانت تفرض على موظفيها الخدمة في المحافظات الاخرى مثل وزارة التربية والتعليم، والعدل، والمالية، والصناعة وغيرها، مما يزيد من المعرفة الاجتماعية والجغرافية بجميع أنحاء الوطن، ويعطي شعورا للجميع بان العراق هم بيت الكل بغض النظر عن مذاهبهم ودياناتهم وقومياتهم .


أضافة الى أن الاحزاب التي كانت فاعلة على الساحة السياسية العراقية العلنية منها والسرية، كانت ذات أفكار وطنية خالصة ولديها أيمان مطلق بالوحدة الوطنية كسبيل لابد منه في مشاريعها السياسية والفكرية، ولم تكن تقتصر على فئة أجتماعية دون أخرى، مما جعلها أحد العوامل الفاعلة في بنية المشروع والهوية الوطنية العراقية.


أن النظرة المتفحصة لما جرى بعد الغزو والاحتلال من تهديد بالقتل والفصل السياسي والاعتقال لنخب أجتماعية وعلمية وسياسية وعسكرية، كان الهدف منه هو الدفع بهؤلاء الى الهجرة ومواجهة مستحقاتها، التي تفرض عليهم وعلى عوائلهم وأطفالهم الذوبان في هويات أخرى، خاصة من وجد ظالته في الدول الاوروبية، وها هي حكومة الدمى تلاحق اليوم كل من عاد الى أرض الوطن من سورية واليمن ومصر وليبيا بحجة الانتماء السياسي المحظور، بينما حقيقة الامر تشير الى أن المحتل وأعوانه لازالوا يحاربون أية محاولة جدية لصناعة السمة الوطنية العراقية من جديد، وبذلك لازالت أوراقنا الثبوتية العراقية تثير الاسمئزاز لدى القائمين في كل المنافذ الحدودية في دول العالم، وتضعنا في دائرة الشك، لاننا ببساطة أصبحنا بلا هوية حقيقية .



صحيفة القدس العربي اللندنية

 

 





السبت٠٧ محــرم ١٤٣٣ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٣ / كانون الاول / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. مثنى عبد الله نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة