شبكة ذي قار
عـاجـل










بعد انتصاراتها في أفغانستان والعراق، تبدو واشنطن كالجنرال الإغريقي بيروس الذي أعلن في حرب طروادة: "نصر آخر كهذا وننتهي خاسرين". خسارة ثلاثة تريليونات دولار على قتل وجرح وتشريد ملايين الأفغان والعراقيين، انحدرت بالولايات المتحدة إلى شفا حرب طبقية. وعلى الجانب الأوروبي من المحيط الأطلسي تدور حرب أهلية لتوحيد بلدان اليورو. المنطق السريالي في قصة "ألِس في بلاد العجائب" قد يدلنا على المغزى المشترك بين هاتين الحربين. "ابدأ من البداية واستمر حتى تبلغ النهاية، وآنذاك توقفْ".


والبداية في واشنطن فالجمهوريون يتهمون أوباما بإثارة حرب طبقية لأنه يحاول رفع الضرائب على الأثرياء لمعالجة عجز الميزانية. والاتهام بالطبقية في أميركا فظيع كالاتهام بالشيوعية، يعني قيام أوباما بتأليب الطبقة العاملة ضد الشركات، واستيلاء الحكومة على الأموال بدلاً من إعطائها للشركات لخلق فرص عمل جديدة. وفي هذا يبدو السياسيون الأميركيون أقرب إلى وصف الفيلسوف برناردشو: "السياسي هو الشخص الذي لا يعرف شيئاً، ويعتقد أنه يعرف كل شيء". لذلك احتاج بول كروجمان، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2008، إلى التذكير بأولويات الوضع في الولايات المتحدة. "مورد الأسر المتوسطة الدخل ارتفع خلال الثلاثة عقود الماضية بنسبة 21 في المئة بينما ارتفع خلال الفترة نفسها دخل الأسر الثرية جداً بنسبة 480 في المئة". ويشدد كروجمان على أن الرقم ليس خطأً طباعياً "فمعدل دخل الأسر الثرية جداً ارتفع من نحو 4 ملايين دولار إلى نحو 24 مليوناً". ويسأل: "هل يبدو لكم أن هؤلاء الأثرياء ضحايا حرب طبقية؟".


وإذا كانت هناك حرب طبقية فهي التي ربحها الأثرياء منذ أكثر من عشرين سنة. أعلن ذلك "وارن بوفت" الذي يعد من أغنى الأغنياء في الولايات المتحدة والعالم: "نحن الذين حصلنا على خفض معدلات الضرائب بشكل درامي. إذا نظرت في أعلى 400 من دافعي الضرائب في الولايات المتحدة عام 1992 تجد معدل الدخل كان 40 مليون دولار سنوياً للفرد، وارتفع الآن إلى 227 مليوناً، فيما انخفضت نسبة الضرائب التي يدفعها عن دخله من 29 إلى 21 في المئة". مقال بوفت الذي أعلن فيه ذلك منشور بصحيفة "نيويورك تايمز" بعنوان "توقفوا عن تدليل الأثرياء جداً". وبوفت يمثل أرستقراطية رفيعة تتمتع بما يكفي من الثراء المادي والثقافي ما يؤهلها لقول أشياء أعلى من مستوى إدراك الأغلبية الأميركية. وقد انتبه عالم الفيزياء إنشتاين، القادم من ألمانيا، إلى مشكلة نمط التفكير الأميركي الذي "يقوم دائماً على ما يجري، وليس قط على الموجود". وهكذا يعتقد الفرد الأميركي بأن كل شخص قادر على أن يصبح مليونيراً، وأنه شخصياً في الطريق إلى ذلك. بسبب هذا نجد ثلث الأشخاص الموجودين في قاع السلم الاجتماعي، الذين يبلغ معدل دخلهم السنوي 30 ألف دولار أو أقل، لا يعتبرون أنفسهم فقراء. ويكشف استقصاء صحيفة "نيويورك تايمز" أن هؤلاء الأشخاص لا يعتقدون بأن على الحكومة رفع الضرائب على الأغنياء لخفض عجز الميزانية.


ومشكلة الأغلبية السعيدة ببلاهتها أنها تفتقر إلى المعرفة والخيال، ومن دونهما لا يمكن تصور حجم تريليوني دولار الموجودة نقداً في حسابات "البيزنس" الأميركي، حسب تقرير صدر حديثاً عن "الاحتياطي الفيديرالي". ورغم قلة الضرائب على "البيزنس" فهذه الأموال لم تستثمر لخلق فرص عمل جديدة، أو شراء منتجات، وكان بالإمكان لو فرضت واشنطن ضرائب على هذا "البيزنس" الحصول على مليارات الدولارات لاستثمارها في خلق فرص عمل جديدة، وتحريك الاقتصاد، "أو ربما الأفضل استخدامها لتشغيل العاطلين عن العمل بدلاً من تركها ذخيرة في خزائن الشركات". يذكر ذلك ريتشارد وولف، أستاذ الاقتصاد بجامعة "ماساشوستس". وفي محاضرة عنوانها "حقيقة الحرب الطبقية في أميركا"، يحذر وولف: "إذا ما بُعث الوعي الطبقي فعلاً في الولايات المتحدة فستعرف آنذاك واشنطن ما تعنيه حقاً الحرب الطبقية".


هل تنذر بذلك حركة "احتلوا الوول ستريت" التي استوحت تكتيك "ميدان التحرير" في القاهرة؟ الثورات مهرجانات المضطَهَدين، والهتافات والأناشيد والصخب والمرح... تجمع بين ثورات ميادين التحرير في كل مكان. وفي البداية اعتُبرت الحركة نكتة عندما تظاهر بضع عشرات من الشباب منتصف الشهر الماضي في حي المال بمدينة نيويورك، لكنها نالت دفعاً قوياً عندما استخدمت شرطة نيويورك العنف في اعتقال مئات من نشطائها. وانتشرت الحركة في الأسبوع الماضي إلى مدن أخرى، حيث أقام شباب معظمهم في العشرينيات خياماً قرب المجلس البلدي في لوس أنجلوس، وقرب"الاحتياطي الفيديرالي" في شيكاغو، وحي المال في بوسطن. ويتنادون عبر أدوات التواصل الاجتماعي لإقامة خيام مماثلة في ممفيس، وتنسي، وهاواي، وفي متنزه قرب البيت الأبيض بواشنطن. وتطورت اللافتات من مطالب ساذجة كحذف صورة الرئيس الأسبق جاكسن من ورقة العشرين دولاراً لأنه استخدم العنف ضد الهنود الحمر، إلى "نريد طعاماً لا قنابل" و"نريد طعاماً لا بنوكاً" أو "فليسقط البنك الدولي".


وشباب الثورات على الجانب الأوروبي من الأطلسي أكثر مراساً، حيث يشاهد العالم منذ شهور مظاهراتهم في مدن اليونان وإسبانيا وإيطاليا وبريطانيا. ذلك لأن أوروبا، كما يقول الأديب الأميركي جيمس بالدوين تملك ما لا يملكه الأميركيون وهو "الحس بالغامض، وبالحدود العنيدة للحياة، أو بكلمة واحدة الحس بالتراجيديا". مقابل هذا لا تملك أوروبا، حسب بالدوين "الشعور بفرص الحياة التي يملكها الأميركيون". هل يفسر ذلك قيام أكبر حرب أهلية شهدتها أوروبا في التاريخ لتوحيدها، ليس بالسلاح والدماء بل بالاقتصاد والمال؟ بلدان كاليونان وإيطاليا وفرنسا وألمانيا والبرتغال وفنلندا والنمسا وإسبانيا... مختلفة اقتصادياً وثقافياً، لكنها توحدت بعملة اليورو التي فازت بأحدث معاركها المصيرية، حين وافق البرلمان الألماني الأسبوع الماضي على رفع حجم صندوق "مؤسسة الاستقرار المالي الأوروبي" إلى 440 مليار يورو، وقد ضمن هذا الكفالة المالية لإنقاذ اليونان من الإفلاس. كيف حدث ذلك؟ ولماذا تتعالى الأصوات على جانبي الأطلسي لدعم عملة اليورو الموحدة بفيدرالية مالية وبالتنسيق الكامل للسياسات الاقتصادية؟ وكيف تخلّى زعماء المحافظين والعمال في بريطانيا عن التمسك "العقائدي" بالجنيه الاسترليني لصالح الوحدة الأوروبية المالية الكاملة؟ هل كل هذا لمجابهة صعود كتلة بلدان الاقتصادات الجديدة: البرازيل، وروسيا، والهند والصين؟ أسئلة سريالية كهذه لا أجد تفسيراً لها أمتع من قول أشهر الرسامين السرياليين سلفادور دالي: "الفارق الوحيد بيني وبين المجنون، أني لست مجنوناً"!

 

 





الخميس٠٨ ذو القعدة ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٦ / تشرين الاول / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب محمد عارف نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة