شبكة ذي قار
عـاجـل










يا لثارات شهداء العلم في العراق !...في ستينيات القرن الماضي فاجأ الفنان العراقي ضياء العزاوي الوسط الفني في بغداد بمعرضه الشخصي الأول تحتله رسوم مأساة كربلاء التي استشهد فيها الحسين، حفيد الرسول صلى الله عليه وسلّم. حصان الحسين المطعون بالسهام، يحيطه آل بيته بعباءات منقبة بالزهور، وباقات أسماء صحبه الشهداء، ووجوه قتلته المقنعين بخوذ حديدية. كانت تلك صرخة احتجاج على سفك دماء العراقيين في ثورات وانقلابات عسكرية. وبعد نحو نصف قرن احتلّ نصب حصان الحسين مطعوناً بالسهام ومحمولاً على دبابة أميركية صالة بكاملها في أول معرض يقيمه "متحف الفن العربي الحديث" بالدوحة. ارتفاع النصب البرونزي ثلاثة أمتار، وتحوطه خمسمائة زهرة في جفنات بيضاء تومض بأسماء خمسمائة شهيد من علماء العراق وأطبائه ومهندسيه ورؤساء وأساتذة جامعاته ومعاهده الأكاديمية. وانشق للفاجعة التي لا مثيل لها في تاريخ العلم نصب حصان الحسين نصبين؛ وغاصت في النصب الثاني قائمتا الحصان الخلفيتان في برميل نفط، فيما قائمتاه الأماميتان مبسوطتان بشكوى حائرة، وشدقاه مفتوحان بصهيل تسمعه الأعين التي ترى. يا لثارات شهداء العلم في العراق!


والعزاوي لمن لا يعرف العراقيين، فرصة "فنية" للتعرف عليهم. إنه "أحد أهم القوى الفاعلة في مجالي الفنون والثقافة العربيتين، فقد كان منذ السبعينيات في طليعة فناني العالم العربي في توجيه الرسامين والقائمين على الفنون، وأنا منهم". كتب ذلك الناقد الإنجليزي "تشارلز البوكوك" في مقدمة كتابٍ جامع لأعمال العزاوي صدر أخيراً بالعربية والإنجليزية. يقع الكتاب في 500 صفحة، وتحتل الصفحة الأولى منها ثلاث كلمات فقط "في ذكرى بغداد". والفنانون أكذب من الشعراء الذين يقولون ما لا يصدقون، فكيف تصبح بغداد ذكرى للعزاوي الذي قال عنه الناقد الفرنسي "آلان جوفروا" إنه "قدم أعماله بسخاء إلى العالم، متجذرة ومتسامية على حد سواء، تحمل في طياتها معاني وجودية وسياسية متعددة، مأساوية ومرحة في آن واحد، تجعل الحياة تنتصر على الموت وعلى هاجس الموت، وتساهم في خلق حضارة عربية جديدة سوف تظهر يوماً، رغم الخلافات الداخلية الحالية والمحن، والجنون الانتحاري".


ولمعرفة موهبة العراق التي لن تتوقف عن إبداع عبقريات علمية وفنية، ينبغي التعرف على موهبة فنانيه التي تكتم أنفاسهم ولا يفقهون كنهها أحياناً، بل غالباً. إنها موهبة جواهر تتجوهر بالنار التي أضاءت مخيلة الناقد "البوكوك" عندما تعرّف على العزاوي لأول مرة في مرسمه بلندن بعد احتلال بغداد عام 2003. "كان الطقس في ذلك اليوم بارداً ورطباً ورمادياً، وقد حوّله إلى يوم مشرق تماماً تواضع العزاوي ومرحه، وفوق كل شيء أعماله الرائعة بشكل لا يصدّق". ويعجز الناقد الإنجليزي عن تصديق ألوان وأشكال موهبة فنان يتجوهر في السبعين من العمر بحريقين؛ فقدان زوجته السويدية الذهبية الألوان، واحتلال بلده الملون بجميع ألوان قوس قزح زائداً اللون الأسود.


وكان ينبغي أن يكون الناقد امرأة عراقية لإدراك أن "اللون الأسود الموجود في العديد من لوحاته أحد الألوان الأساسية في الثقافة العراقية التي يلعب التقليد المأساوي دوراً كبيراً فيها، كما يعبّرُ التوتر الناجم عن استخدامه لألوان متضادة كالأسود والأحمر في ديناميكية لوحاته عن كثافة وعنف انفعالاته". كتبت ذلك ندى شبوط، أستاذة تاريخ الفن في جامعة شمال تكساس بالولايات المتحدة. واكتشفت الباحثة في كتاب بالإنجليزية عنوانه "تشكل علم الجماليات العربية" أن "لوحات العزاوي ليست مجرد رسوم؛ بل هي مواضيع في بنية ملموسة، تتحرك أشكالها بحرية على السطح، تتقاطع وتتمازج وتتلاقى، تمتد لتتعدى أحياناً حدود اللوحة. وتعزز استمرارية الأشكال في فضاء اللوحة هيئة بعض الرسوم أو النتوءات غير المنتظمة، كامتداد الألوان إلى حواف القماش أو الإطار ".


وكنصب حصان الحسين يرزح العزاوي تحت تاريخ أمة مبدعة. التكوينات السومرية والآشورية والإسلامية والفولكلورية في أعماله "أشكال إيقونية قوية تتمازج مع بعضها البعض دون تمييز في فسيفساء من الذاكرات البصرية". ومخطوطاته لمعلقات الشعر العربي كالتمائم، لا تدرك العين كلماتها لكن يراها القلب. تتشابك الحروف العربية في لوحات كالسجاجيد الشرقية، أو تتقاتل والصور على قلب اللوحة، في مجموعة رسوم "شاهد من هذا العصر" عن مجزرة أيلول الأسود بالأردن عام 1970، ومجموعة رسوم "نحن لا نرى إلاّ جثثاً" عن مجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان عام 1983، ومجموعات شعرية في دفاتر تشتبك فيها الحروف والصور، فنفهم بها ما لا نفهمه من نصوص الشاعر الصوفي النفري، وابن عربي، والجواهري، وأدونيس، والشابي، ويوسف الصائغ، ومظفر النواب.


ونفهم لماذا يناهض الوطنيون العراقيون تحالف الاحتلال والطائفية عندما نقرأ في بيانات العزاوي الفنية وقت رسوم واقعة كربلاء في الستينيات: "لمْ يتشبع أيّ جيل بروح الوطنية والإنسانية بهذا الإصرار كجيلنا. نحن دائماً أمام تحدٍ ومواجهة لكل المخاطر التي تهدد الوطن، نعيش في وسط دوامة زحف عسكري نازي، ونحن دائماً مهددون بوجودنا، نعمل توخياً للتركيز والدعوة لفن طليعي يتضمن رؤية جديدة مع أهداف إنسانية". وكمعظم إبداعات العراقيين في الفنون والعلوم والهندسة والطب والسياسة، فإن أكثر من نصف إبداعات العزاوي مجهولة، وبينها إنشاء "متحف الأزياء والأتنوغرافيا" ببغداد، ومتحفي الفن العراقي بالموصل والناصرية، وصالات فنية في باريس ولندن كانت معارضها أحداث تغطي ملصقاتها جدران قطارات الأنفاق في الثمانينيات. وأحدث مساهمات العزاوي المجهولة على صعيد عربي ودولي إنشاء أول "متحف للفن العربي الحديث" بالدوحة عام 2010.


"هكذا تنتقل أشكالك، تتوالد، تستنزف دم قلبك، تتلون لتكون إشارة لرمز عراقي ينتصب في معبد الضوء، ها أنت بيننا، صديقٌ، معلمٌ بارع، وفنان ينتمي إلى تلك السلالة التي لم يتوقف هديرها. كيف أرسمها رغبات فتى يطمح إلى التغيير، عاشقٌ صامتٌ للنهار، هناك حيث ولدت في أحضان طين عراقي معجون بالكتابة الأولى، تجيش بعذاب المبدع. رأيت البشر وهم يعودون جميعاً إلى طين". هذه الكلمات التي قالها العزاوي عند رحيل أستاذه جواد سليم ستتردد في يوم قريب من أيام ثورة التغيير في باحة جامعة بغداد، حيث درس العزاوي آثار العراق والفنون الجميلة. وسيحدث ذلك تحت منصة نصب حصان الحسين الذي وافق متحف الدوحة على ملكية العزاوي لنسختين أصليتين منه لقاء دفع المتحف نصف مليون دولار فقط عن النسخة الأصلية الأولى. نسخة واحدة قد يقتنيها متحف "التيت غاليري" في لندن الذي يتفاوض حالياً مع العزاوي. والنسخة الأصلية الثانية ستدشن احتفالات التغيير في العراق.
 

 

 





الجمعة٢٥ جمادي الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٩ / نيسان / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب محمد عارف نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة