شبكة ذي قار
عـاجـل










سنواتها السبعون مشت معها.. تخطت جموع الشباب في ساحة الاحرار بمدينة الموصل، تقدمت نحو جمع لشيوخ العشائر المجتمعين رفضاً للاحتلال الامريكي بالساحة، صَمتَ الرجال حينما أقتربت منهم السيدة المسنة بثيابها السود، تقدم نحوها شاب قائلاً: أمُريني يمة!


وبحياء مدت يدها الراجفة كبراً وقالت: ما يُأمر على الخيرين عدو. وفكت منديلا قديما وأخرجت منه بضعة دنانير قائلة: هذا مالٌ حلال، نقود لحجتي.. أهبها للثوار!


وبصوتها المتحامل على سنوات شيخوختها راحت تهزج: أمُنا وأبونا العراق.. وكلنا ألة فدوة.


كان دمع الرجال العزيز، يمتزج بالقبلات المنهمرة على كفها ورأسها، حاولوا أقناعها بأن الشباب كفؤ وأنهم قادرون على تدبير أمورهم لكنها أصرت وهي تُؤكد حلال مالها الذي وفرته لحجتها الموعودة، متمتة بحياء: حجتي سيُقرها الله عند تحرير الوطن ونادت: يمة يا ويلادي.. حل فرض الخامس كومولة.


والفرض الخامس جهاد ضد المحتل.. وأن هي اعتذرت من كهولة لا تؤهلها للمسير بين صفوف الثائرين للتخلص من ربقة الاحتلال.


فالشابة المنقبة التي يقال لها السميراء، أعتلت المنبر صادحة بينهم بشعرٍ مرتجل تثير فيهم النخوة والحماسة، ملقية بينهم قصيدة شعبية مطلعها الاثير: طالعلك يا عدوي طالع.. من كل بيت وحارة وشارع.. ولو هلهلتِ يا حبابة، الحر يلاقي دبابة.


وعلى مبعدة بضعة كيلومترات وحسب.. هاجمت قوات أمن مشتركة إحدى القرى هناك، وأقتادت شباب الجوار ولم تُبقِ منهم أحداً، وقفت أم محمد متحزمة بالغيرة، لتواجه وحدها قوات الأمن المشتركة، وضعت على رأسها عكال رأس ابنها الاكبر الذي أقتيد بين الغزاة مخفوراً مع أخوته الأربعة ليبقى الدار خلواً من الوَلدِ، لكنها لم تندب، ولم تبكِ، لم تولول حظ أبنائها وهي تراهم مقيدين بأصفاد الجلادين، نحو مصير مجهول، بشممٍ، وقفت أمامهم واضعة "العكال" على رأسها: وإن عَزَ بالدار الرجال.. أحنة أهل الحومة.. أحنة الها.


من بين الثلة المهاجمة، نقيب نادته طيبة عرقه، وحفزه خجلٌ، من صمود امرأة بوجه آلة حرب طاغية، وجنود احتلال، فتوجه من فوره إلى ساحة الأحرار، نزع رتبته العسكرية بينهم، وانضم إلى ثوار الساحة الذين تناخوا فيها معاهدين الله على نصرة وطنهم ورفض واقع وطن يُعاث فيه فساداً، من احتلال وحكومات منصبة فيه.. ليلتحق به عسكريون آخرون، نزعوا عنهم رتبهم، فاستحقوا رتبة ثائر، ومحرر للأرض والعرض.


وكي تلجم الحكومة أصوات الثائرين بعد أن عجزت جميع حيلها المستخدمة للنيل منهم، ولمنع وصولهم إلى ساحة الأحرار في الموصل، أعلنت حظراً للتجوال، وتوعدت بالرصاص قصاصاً لمن يغادر داره، وتحت إصرار المتظاهرين وتحت زخات المطر توجهوا صبية، ورجالاً ونساءً، يرافقهم محافظ الموصل أثيل النجيفي، تحف بالجمع زغاريد العراقيات ودعوات الأمهات. لم يفلح الرصاص بتفريقهم، ولا تحطيم الرايات، فالحناجر لم يعد يُخرسها خوف، ومع ارتفاع حمى الغضب، التحمت الجموع من الأزقة والحارات و"العوجايات" كلها، وكبَرت المساجد بصوت واحدٍ: الله أكبر.. حي على الفلاح.. حي على خير العمل..


وخير العمل الجهاد ضد الغزاة.


وفي ساحة التحرير البغدادية، كانت مسيرات من حشود رافضة، تقف تحت نصب الحرية في حديقة الأمة، يُصفقُ لحضورهم حمام النُصبْ، ويزفهم الطفل والأم والسنبلة، سُدت بوجههم السُبل للوصول فاخترقوها، ضُربوا بقنابل صوتية، فصَموا آذانهم عنها وما فزعوا، تلقتهم الغازات المسيلة للدموع، لكن عيونهم كانت تغص بدموع الثورة والغضب.


وتصدت لحشود "مؤتمرة بالحكومة"، أمرأة عجوز يطوقها عشرة أيتام تحصيهم كل حين تفرقٍ، وأمام كاميرة محمولة واجهتهم: هؤلاء أيتام أولادي الثلاثة، قتلتهم حكومتكم في يوم واحد! ثم يطلع علينا نواب من البرلمان بقولٍ زور بنصرة معارضة البحرين: تعالوا وشوفوا حال أيتام العراق.. وين الغيرة.. وين الانصاف؟. ثم بكت قهراً.. بدمعٍ مَسهُ الضُر.


في ساحة الكوت والوقت ظهراً، تقدمت عراقية حرة، تحمل نضيداً من خبز قمح ، وزعته على الرجال، تناشدهم، بحق الخبز، بحق الملح، والماء، بحق الطير والسُنبل، ألاّ يصمتوا عن حق العراق!


مشهد ملتقط بكاميرة أمريكية:


في بابل إذ ينتصب فيها شامخاً "الأسد" الرمز القديم للحضارة البابلية تجمهر صبية يلمون عنه الأزبال، وعلب البيرة الأمريكية الفارغة، ويمسحون عن كتف "الأسد" آثار جنود الغزاة، وكانوا يعتلونه متضاحكين لالتقاط صور لهم، فوقف صبي صغير أمامهم صارخا بهم: هذا لنا.. هذا أسدُنا!


فتبارك وجه العراق وطناً.

 

 





الاربعاء٢٣ جمادي الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٧ / نيسان / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ذكرى محمد نادر نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة