شبكة ذي قار
عـاجـل










بعد سنوات ستذكر كتب التاريخ في إمارة قطر أنّ السفن الحربيّة القطريّة طاردت أعداءها حتّى سواحل البحر الأبيض المتوسّط، وأنّ طائراتها المقاتلة نفّذت غارات جوّيّة على أهداف عسكريّة داخل الأراضي الليبيّة.. وأنّ القوّة العسكريّة القطريّة كان يُقرأ لها ألف حساب..
يا لسخريّة القدر..


دولة قطر التي لا تتجاوز مساحتها 11437 كم2، وعدد مواطنيها لا يزيد عن ستّمائة ألف نسمة تحوّلت منذ سنوات قليلة إلى عاصمة قرار.. أو هكذا يبدو على الأقلّ.


القوّات العسكريّة القطريّة تقوم اليوم بمهمّة عسكريّة خارج حدودها الإقليميّة.. فسلاحها الجوّيّ ينفّذ صحبة دول كبرى غارات عسكريّة داخل ليبيا منذ أكثر من شهر. ومع أنّنا لا نعرف أنّ قطر تمتلك قوّة عسكريّة تسمح لها بحماية أمنها، مثلما لا نذكر أنّ دولة قطر شاركت في أيّة حرب.. فإنّنا نقف ذاهلين أمام "تنامي" القوّة العسكريّة القطريّة بشكل جعل الأمير القطريّ الديمقراطيّ جدّا والمتحضّر جدّا يحوّل بلاده الصغيرة إلى شرطيّ دوليّ جديد يستعرض قدراته في بلد عربيّ بتحريض من قوى كبرى أهّلته منذ أكثر من عقد ليقوم بمهمّة محدّدة في منطقة الخليج العربيّ وفي الوطن العربيّ عموما.


لقطر الآن قوّات تقاتل في البحرين (أو تحفظ الأمن ضمن قوّات درع الجزيرة).. وقوّات أخرى تقاتل أو تقصف في ليبيا.. لا ننسى أنّ القوى العظمى وحدها هي التي تستطيع أن تخوض حربين أو أكثر في وقت واحد شأن الأميركيّين في العراق وأفغانستان.


وحتّى تكون المقارنة أوضح نقول إنّ مساحة قطر أصغر من الولايات المتحدة بما يزيد عن 857 مرّة، وأصغر من مساحة فرنسا بحوالي 48 مرّة، وأصغر من مساحة بريطانيا بما يزيد قليلا عن 21 مرّة. كما أنّ عدد سكّان إمارة آل خليفة يقلّ عن مثيله في الولايات المتّحدة الأمريكيّة بما يقرب من500 مرّة، وعن نظيريه في فرنسا وبريطانيا بحوالي 117 مرّة.


ومع ذلك فمن الجائز أن نقول اليوم إنّ قطر أصبحت دولة عظمى..
أعلام دولة قطر هذه الأيّام تجاوزت حدود الجزيرة الصغيرة لتحلّق عاليا في سماء المدن الليبيّة "المحرّرة من قبضة العقيد القذّافي".


لإمارة قطر اليوم أكثر من طائرات تقصف. نعم، لديها أيضا طائرات لإجلاء الجرحى ومن تقطّعت بهم السبل.. ولديها مستشفياتها في الدوحة تستقبل الجرحى الليبيّين الذين تنقذهم سفن قطريّة من مدينة مصراتة والبريقة ورأس لانوف وغيرها.


إنّ قطر اليوم لا تهدي أطفال ليبيا صواريخ الموت فقط.. إنّها تمنحهم فرصة للعلاج.. وللحياة.
في السنوات الأخيرة، استغلّت إمارة قطر تراجع الدور المصريّ وغياب العراق عن ساحة الفعل العربيّ وانشغال الجزائر بهمومها الداخليّة، واستطاعت بفضل حزمة الإغراءات الماليّة أن تمارس أدوار الوساطة بين أريتريا واليمن، ثمّ بين حركتي حماس وفتح الفلسطينيّتين، وبين الحوثيّين وحكومة صنعاء، وبين الفصائل المتمرّدة في إقليم دارفور وحكومة الخرطوم.


وبقطع النظر عن النجاحات التي حقّقتها الإمارة في هذا المسعى أو ذاك، فإنّ الواضح أنّ الدوحة تحوّلت إلى إحدى أهمّ عواصم الفعل داخل المحيط العربيّ، وأصبحت محجّة كثير من السياسيّين العرب، بل أوهمت كثيرين -ولو إلى حين- أنّها كذلك إحدى عواصم الممانعة والمقاومة في مواجهة المخطّطات الأمريكيّة والتمدّد الصهيونيّ.


ورغم انكشاف الصلات بين إمارة قطر و"إسرائيل"، فقد ظلّ كثيرون يتعلّلون بأنّ التطبيع قدر الجميع، وبأنّ المرحلة لا تحتمل الأطروحات "المتطرّفة" التي تدعو إلى المواجهة واستحالة التعايش مع الصهاينة. بل راهن بعضهم على أنّ إمارة آل خليفة هي الاستثناء الممكن وسط إمارات الخليج وممالكه.
إمارة قطر هذه قوّة عظمى ناشئة.. إنجازاتها ونجاحاتها حديث القاصي والداني. وكلّ هذا بفضل قناة الجزيرة.
"بالروح بالدم نفديك يا جزيرة."


ليس هذا مجرّد هتاف دأب على ترديده أولئك الذين وقفت قناة الجزيرة إلى جانبهم منذ اليوم الأوّل لـ"ثورتهم" على نظام القذّافي في ليبيا. وإنّما أحرى بحكّام قطر اليوم أن يردّدوا هذا الهتاف ملء حناجرهم، فلولا الجزيرة ما كان لهم كلّ هذا الصيت.. ولولا إشعاعها وما اكتسبته من مصداقيّة لدى المواطن العربيّ ما كان لنا أن نعيش لنشهد قطر العظمى.


هي الجزيرة إذن.. أنشأها حكّام قطر ففاضت عليهم، وأصبح لها من الجبروت والنفوذ ما يُجيز لنا أن نقول إنّها أكبر من الدولة.. وأشهر..


تمكّنت قناة الجزيرة طيلة سنوات بثّها من احتلال موقع متقدّم جدّا في المشهد الإعلاميّ العربيّ، وهو ما أتاح لها أن تجذب بسرعة قياسيّة ملايين المشاهدين العرب المتعطّشين إلى معلومة صحيحة وخبر دقيق وتحليل موضوعيّ. وساعدها في ذلك تخلّف الإعلام الرسميّ العربيّ وغياب الإعلام المعارض أو مهادنته للحكومات العربيّة أو محاصرته وضربه.


اليوم وبعد أكثر من خمسة عشر عاما على ميلاد الجزيرة تحوّلت هذه القناة من منبر إعلاميّ إلى منبر دعائيّ بامتياز. لكنّ ذلك لم يُفقدها سطوتها، بل ظلّت مصدر الخبر الرئيس للشعب العربيّ، وراجت مصطلحاتها ومفرداتها على نطاق واسع. وبسبب انعدام ثقة العرب في حكّامهم أصبحت أخبار الجزيرة وتحليلات ضيوفها وتقديرات خبرائها محلّ إجماع شبه كامل.


لا أحد اليوم تقريبا يهتمّ بما يحدث في البحرين أو المملكة العربيّة السعوديّة أو الأردن، ليس لأنّ وتيرة الاحتجاجات تراجعت.. بل لأنّ تغطية الجزيرة لها فترت، ولأنّها ظلّت تصوّر ما يحدث باعتباره "أعمال شغب" معزولة ومحدودة. في حين أنّها ومنذ اليوم الأوّل للاحتجاجات في ليبيا أطلقت على المحتجّين لقب "الثوّار" وعلى الاحتجاج نفسه بأنّه "ثورة شعبيّة" تستهدف الإطاحة بنظام العقيد الليبيّ.


في اليومين الأوّلين لحركة الاحتجاج في ليبيا سرّبت الجزيرة عشرات الأنباء المضلّلة، وكانت هي أوّل من يدرك وقعها في نفوس المشاهدين، واستقرارها في عقلهم الباطن. أذاعت خبرا نقلته عن وزير خارجيّة بريطانيا يقول فيه إن القذّافي وأبناءه في طريقهم إلى فنزويلا. ثم أعقبه خبر عاجل آخر عن مقتل سيف الإسلام وأخيه خميس.


تتالت الاصطلاحات الغريبة: الثوّار (عوضا عن المحتجّين أو المسلّحين)، وكتائب القذأفي (عوضا عن القوّات الليبيّة أو الجيش الليبيّ)، المدن المحرّرة (عوضا عن المدن التي سقطت في أيدي المسلّحين).. الخ. مثلما تتالت الأخبار التي كان أغلبها منقولا عن شهود عيان كالحديث عن سقوط عشرة آلاف قتيل منذ الأيّام الأولى للحرب، واستخدام "كتائب القذّافي" لأسلحة محرّمة دوليّا.. الخ.


حتى وقت قريب كان كلّ إعلاميّي قناة الجزيرة القطريّة يخاطبون القذّافي بالعبارة الأثيرة لديه: "الأخ القائد". وها هم اليوم يشيحون بوجوههم عنه فيصفونه بالمجرم والسفّاح والقاتل، ويطلقون العنان لضيوفهم ممّن تحرص القناة على تسميتهم بـ"المعارضة الليبيّة" و"المحلّلين السياسيّين" و"الخبراء الاستراتيجيّين" حتّى يكيلوا السباب والشتائم للعقيد الليبيّ بما يجعل القصف الإعلاميّ الممنهج خطابا وصورة لا يختلف كثيرا عن ذاك الذي تنفّذه طائرات حربيّة أوربيّة وأمريكيّة و... قطريّة.. هذا يستهدف المنشآت والآليّات العسكريّة والبنية التحتيّة الليبيّة، وذاك الذي تنفّذه قناة الجزيرة باقتدار كبير يستهدف العقل العربيّ ويسعى إلى تشكيل رأي عامّ عربيّ ودوليّ يناهض سياسة العقيد ويدعو إلى الإطاحة به.


أزعم الآن أنّ قناة الجزيرة التي دأبت على التشهير باعتقال السلطات الليبيّة لطاقم الجزيرة غرب البلاد (دون أن تحدّد مكانهم على وجه الدقّّة، وإن كانوا حصلوا على ترخيص من السلطات الليبيّة) كانت تتمنّى أن تطول فترة اعتقال فريقها الصحفيّ لمزيد المتاجرة بهذا الموضوع عبر تقديم نفسها في صورة الضحيّة والمدافع عن الحقيقة، وكذلك بغرض إرباك النظام الليبيّ وتأكيد عدائه لحريّة الإعلام وتأليب الرأي العامّ العربيّ والدوليّ ضدّه.


مثلما أزعم أنّ أسوأ معطى تعلّق بعمليّة الإفراج عن الصحفيّ التونسيّ لطفي المسعودي ليس الإفراج عنه فحسب، بل التصريح الذي أدلى به حال عبوره الحدود التونسيّة، وبثّته قناة الجزيرة مباشرة حيث أثنى على حسن معاملة السلطات الليبيّة له أثناء فترة اعتقاله. وربّما لهذا السبب لم تُعد قناة الجزيرة بثّ هذا التصريح مطلقا.. ولست أدري إن كان الصحفيّ المسعودي عاد إلى قطر لاستئناف عمله هناك أم....


نسي المشاهد العربيّ كلّ ما أرادت الجزيرة أن ينساه، ونجحت في تحويل اهتماماته وتشكيل بنية تفكيره بشكل جعلها بحق امبراطوريّة أثنت عليها وزيرة خارجيّة الولايات المتّحدة حين قالت إنّها تفوّقت على امبراطوريّة الإعلام الأمريكيّ كلّها.


قلّة منّا اليوم من علم بالمظاهرات التي حدثت في قطر، وتحديدا في (الرميلة) ضدّ أمير الدولة حمد، كما أنّ عددا محدودا جدّا منّا يعلم أنّ القوّات الأمريكيّة التي تحتلّ ثلث الإمارة منعت الناس من التجمّع في خور العديد للمطالبة بالحرية..


وكيف نعلم والقناة التي تحوّلت إلى امبراطوريّة باتت متفرّغة لإيذاء اليمن والعراق وسوريا وليبيا بشكل أساسيّ؟ وهل بتنا نعلم شيئا عن أخبار المقاومة العراقيّة الباسلة؟ تذكّروا جيّدا أنّ قناة الجزيرة كانت كلّما نشرت صورا لعمليّة نفّذها فصيل عراقيّ تختم التعليق بقولها: "هذا ولم يتسنّ للجزيرة التأكّد من صحّة الخبر من مصدر محايد" في مسعى هدفه التشكيك في صدق الشريط وبالتالي في استمرار المقاومة العراقيّة في تنفيذ ضرباتها للمحتلّ.


مؤخّرا كشف شريط فيديو مسرّب من استوديوهات قناة الجزيرة فضيحة من العيار الثقيل، موثّقة بالصورة والصوت. هذا الشريط الذي تمّ منعه مرّتين، وسُحب من موقع (يوتيوب) بناء على طلب من إدارة قناة الجزيرة يُظهر المفكّر السياسيّ والعضو السابق في البرلمان" الإسرائيليّ"، عزمي بشارة، وهو يذعن لإملاءات منشّط الجزيرة الصحافيّ السعوديّ علي الظفيري، الذي يقوم بالاتّفاق مع ضيفه المحلّل على تضليل المشاهد، من خلال الحرص على تناول دول عربيّة واستثناء أخرى، رغم أنّها كلّها تشهد حراكا اجتماعا واحتجاجات شتّى، في إطار ما يسمّى بالثورات العربيّة.


وتكشف لقطات الفيديو المسرّب، الذي تمّ تصويره خلال فترة "الفاصل الإعلانيّ''، دون أن ينتبه للأمر الصحافيّ السعوديّ وضيفه عزمي بشارة، كيف أنّ هذا الأخير طلب عدم التعرّض لمملكة الأردن ضمن موضوع الثورات العربيّة، فيما راح الصحافي السعودي علي الظفيري، يدافع عن قيامه بعدم التعمّق في مسألة احتجاجات البحرين والاكتفاء بتناول الموضوع بشكل خفيف، والتركيز على السعوديّة.


كما تظهر اللّقطات المسرّبة، كيف أنّ من تستضيفهم القناة القطريّة على أساس أنهم محلّلون وخبراء، يقدّمون خدماتهم ''تحت الطلب''، حيث يخاطب المحلّل عزمي بشارة الصحافيّ السعوديّ: ''عندك عقد انت، طلعتلي كل عقدك.. وكل قصصك مع السعودية طلعتها''، فيما يرد صحافيّ الجزيرة على ضيفه بقوله: ''اسمع الكلام هذا من أخوك الصغير.. بيّضت صفحة المؤسسة.. والله لو أقعد 100 سنة ما يقولو الكلام هذا.. بيّضت صفحة المؤسسة.. هذا أهمّ شيء''.


وبدا من خلال الحديث المسرّب بين صحافيّ الجزيرة والمفكّر عزمي بشارة، تعمّد تركيز القناة على تناول موضوع "الثورة" في سوريا وليبيا، مع تفادي ذكر دول أخرى، مثل البحرين والكويت. وفي هذا الإطار قال الصحافيّ علي الظفيري معلّقا على الانتقادات التي تتلقّاها القناة القطريّة: ''هما نصف تعليقاتهم مَرَضية، قبل ما يصير شي وين الجزيرة.. وأيضا بسوريا اليوم''، في إشارة إلى تنامي الاتهامات ضد الجزيرة، بكونها تتعمّد تهويل الأحداث في عدد من الدول مثل سوريا وتهوينها في دول أخرى مثل الكويت التي قال بشأنها: ''يعني الكويتيين اللي ما طالبوا الثورة شغالين علينا اليوم وين التغطية اللي كانوا طول عمرهم يهاجمونا''.


وقد شكّلت العبارة الأخيرة من تعليق صحافيّ الجزيرة اعترافا صريحا من جانبه، يكشف تعمّد القناة القطريّة عدم التطرّق للأحداث في الكويت، لتجنّب الانتقادات.


بين الفينة والأخرى تتسرّب معطيات أو معلومات تدعو إلى مراجعة الموقف من قناة الجزيرة، وفهم طبيعة الدور الذي تقوم به. غير أنّنا قد نحتاج إلى وقت طويل حتّى نشهد سقوط هذه الامبراطوريّة التي تحوّل صانعها الصغير بفضلها إلى دولة عظمى.
 

 





الاثنين٢١ جمادي الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٥ / نيسان / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب عبد الكريم بن حميدة نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة