شبكة ذي قار
عـاجـل










 لقد كان إعلان الولايات المتحدة الأمريكية قيادتها حرب الخليج الأولى لإخراج العراق من الكويت قد بدأ فعلياً حيث استهدفت مع أول طلقة تدمير أوسع لقدرات هذا البلد العسكرية و المدنية من أجل استبدال دولة العراق بكيان ضعيف ليبقى بحاجة دائمة إلى مساعدة الولايات المتحدة ، وفي الوقت نفسه تحطيم اقتصاد وتحطيم إرادة الشعب العراقي ونهب ثرواته فيما بعد وفي ظل نظام العقوبات أصبح العراق من حيث أمواله و اقتصاده تابعاً لمجلس الأمن ، حيث تدار ميزانية بواسطة قوى أجنبية إلى رجل غير منظور.


وحين نعرف أن في تفكير سياسة أمريكا طريقة أخرى توصلهم إلى نفس النتائج أن لم تكن أكثر تلك هي العقوبات الاقتصادية بوصفها علاجاً قاتلاً صامتاً حسب تفسيرهم و إجراء شديداً مواصلة الحرب بوسائل غير عنيفة ظاهرياً ... أنها حرب التجويع إنها حرب بيولوجية بل أخطر ، حسبما يقول يقول الرئيس الأمريكي الاسبق وودرو ويلسون (( كلا ليس الحرب ، بل شيء أكثر هولاً من الحرب ، طبقوا هذا العلاج الاقتصادي السلمي الصامت القاتل ولن نعود هناك حاجة إلى القوة ، المقاطعة هي البديل عن الحرب )) ([1]) واستمرار لنفس هذا النهج يقول جون فوستر دالاس ([2]) (( الميزة العظيمة للعقوبات الاقتصادية هي أنها قد تكون شديدة الفعالية من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإنها لا تنطوي على اللجوء إلى القوة وهو كريه في سعينا لتحقيق هدف السلام )) ([3]). أي سلام يتحقق على حساب إجاعة الشعوب وتعريضها لإبادة جماعية تدينها الأخلاق والقانون الدولي حيث تعرف اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية و المعاقب عليها دولياً في ( المادة الثانية – جـ ) منها بأنه تعني الإبادة الجماعية أياً من الأثقال التالية ( جـ) إخضاع الجماعة عمداً لظروف معيشة يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً ، لا بل أن هذه الاتفاقية عاقبت على الأفعال التي تساعد على الإبادة الجماعية مثل التآمر مع الآخرين على ارتكابها و كذلك التحريض المباشر و العلني على ارتكابها أو حتى محاولة ارتكابها و الأهم من ذلك كله الاشتراك في هذه الإبادة الجماعية ، سواء كان مرتكبو هذه الإبادة حكاماً دستوريين أو موظفين عموميين أو أفراداً ، ولقطع الطريق على إيواء وحماية مرتكبي هذه الجرائم و قعت الأمم المتحدة ممثلة بالجمعية العامة بقرارها 3074 في 3 ك1 / 1973 مبادئ التعاون الدولي في تعقب واعتقال و تسليم ومعاقبة الأشخاص المذنبين بارتكاب جرائم حرب و الجرائم الإنسانية ... واعتمدت كذلك الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها 2391 في 26/ت2/1968 اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب و الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية .....


لكن من جهة أخرى فإن من السخرية أن نعرف أن هذه الإبادة ارتكبت ضد شعب العراق باسم الشرعية الدولية المزعومة وبقرارات صادرة عن هيئة دولية هي مجلس الأمن ، حيث يؤشر جيف سيمونز في كتابه التنكيل بالعراق ، العقوبات و القانون و العدالة ، أن الدول الغربية تتبنى سياسة إستراتيجية مرتبطة بالهيمنة على نفط الخليج لأصله لها بدعم حقوق الإنسان أو أدلة العدوان العسكري ، فقد سكت الزعماء الأوربيون طويلاً على انتهاكات حقوق الإنسان و الغزوات العسكرية عندما كانت تعتقد أنها تخدم المصالح الاقتصادية و الإستراتيجية الغربية ، وهذا يعني ، و الكلام لا زال لسيمونز ، أن الولايات المتحدة قد استغلت باستمرار الأمم المتحدة لخدمة أهداف سياستها الخارجية وعندما لم يكن هذا الخيار ممكناً عملت منفردة متحدية رأي الأغلبية في الأمم المتحدة ... كما اعترفت مادلين أولبرايت ، مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة (( سنعمل مع الآخرين على نحو مشترك عندما نستطيع وعلى نحو فردي عندما ينبغي ))([4]).


وحتى يكون واضحاً للبعض أن العقوبات الدولية المفروضة على العراق قد تجاوزت موضوع إخراج العراق من الكويت بل أنها كانت مقدمة وتمهيداً لاحتلال العراق أيضاً فقد أعلن أريك رولو ، السفير الفرنسي السابق في تركيا و تونس عن تقييمه لوضع العراق في ظل العقوبات ... ([5])(( أن العراق يفقد الأمل ... لقد دمر العراق على نحو مؤكد .... وتفهم العراقيون شرعية الحل العسكري لإخراج الجيش من الكويت ، بيد أنهم يجدون أن من الصعب فهم منطق الحلفاء في استعمال القوة في الجو لكي يدمروا أو يعطلوا على نحو منسق البنى الأساسية و الصناعة العراقية ، فقد دمروا 92% من محطات توليد الطاقة الكهربائية ، 80% من الطاقة الإنتاجية لمصافي النفط و المجمعات البتروكيماوية و135 مراكز للاتصالات البعيدة و أكثر من مائة جسر و الطرق البرية و الطرق السريعة وخطوط السكك الحديدية و مئات القاطرات و العربات المحملة بالبضائع ومحطات الإذاعة و التلفزيون ومصانع الاسمنت و مصانع إنتاج الألمنيوم و المنسوجات و الكابلات الكهربائية و التجهيزات الطبية وقدر صندوق النقد العربي خسائر العراق بزهاء (190) مليار دولار و الأهم من تحطيم البنى التحتية التي تخدم الإنسان هو استهداف هذا الإنسان نفسه بل الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع بهذه العقوبات أن العراق بلد كان متقدماً تتسبب الأمم المتحدة في تأخره .... و السلام الذي تحميه هو تجويع عامة الشعب العراقي([6]).


وحين سأل مذيع برنامج (60) دقيقة التلفزيوني الامريكي لساي ستال عام 1996 مادلين أولبرايت سفيرة الولايات المتحدة سابقاً في الأمم المتحدة ووزيرة خارجيتها بتاريخ المقابلة في 12 أيار /1996 (( سمعنا أن نصف مليون طفل عراقي قد ماتوا نتيجة العقوبات ضد العراق وقال لها ... أقصد أكثر من الأطفال الذين ماتوا في هيروشيما ... هل الثمن يستحق ذلك ؟ فأجابت أولبرايت .. أننا نعتقد أن الثمن يستحق ذلك !!)) ([7]).


ليس هناك ثمة أدنى شك في أن أحد الأهداف الرئيسية للمخططين العسكريين الأمريكيين تدمير البنى الأساسية المدنية في العراق و تحويل البلد إلى حالة ما قبل الصناعة تطبيقاً للتهديد الذي أطلقه وزير خارجيتهم جيمس بيكر خلال اجتماعه بنائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز ( فك الله أسره ) في 9/ك2/1991 أن العراق سيحول إلى دولة متأخرة وضعيفة وسنعيدكم إلى عصر ما قبل الثورة الصناعية ([8]). حيث تم تحديد (700) هدف صنف ( 57) منها على أنه استراتيجي ستكون هدفاً للقصف الأمريكي خلال العام 1991 وهنا تقر المصادر الأمريكية أن الأهداف المحددة تجاوزت متطلبات الضرورةالعسكرية وكان الأهداف الرئيسية تدمر الشعب العراقي ([9]).


و استهدفت حملة القصف التي قادتها الولايات المتحدة بطموحات تتجاوز تنفيذ قرارات الأمم المتحدة وتهدف لتدمير معنويات العراق وتماسكه الاجتماعي ... وانتهكت بذلك القانون الدولي و الأخلاق و أصبح العراق من حيث أمواله واقتصاده تابعاً لمجلس الأمن حيث تدار ميزانيته بواسطة قوى أجنبية إلى أجل غير منظور و إلى ساعة كتابة هذه السطور ...


كذلك حين تأكدت أمريكا أن نظام العقوبات الذي طبق باسم الأمم المتحدة و برنامج التفتيش على السلاح في العراق و أن لا تواجهها أسلحة دمار شامل و أصبح ممكناً شن حرب أعدت لها طويلاً و تأكدت من ركوع العراق اقتصادياً و اجتماعياً.


وبدأ غزوه الأرضي حين أثبتت السياسة المطبقة أن ذلك ممكناً بعد حملة القصف التدميري و الحصار الاقتصادي الذي سمي عقوبات اقتصادية .


إن كل ما سبق وما تلاه في العام 1991 و العام 2003 لا يفسر لنا إلا أن ما حدث كان أكثر و أكبر من مجرد إخراج العراق من الكويت أو تطبيق قرارات مجلس الأمن التي معروف أن أمريكا كانت ورائها ، و أن العراق يشهد عملية معقدة من التنكيل و الإبادة الجماعية ، تتسع كذلك لتجريم صمت المجتمع الدولي ورؤساء الدول المسؤولين تجاه أفعال الولايات المتحدة التي تمثل على الأقل كما هو محدد في عناصر الجريمة في المحكمة الجنائية الدولية جرائم ضد الإنسانية منذ العام 1991 ومروراً بالعام 2003 ولغاية كتابة هذه السطور من قتل و إبادة و اعتقال وتعذيب و اغتصاب وعنف جنسي و ملاحقات و اختفاء قسري و جرائم حرب من قتل عمدي وتعذيب ومعاملة الاإنسانية و التسبب عن عمد في معاناة شديدة و تدمير الملكية و الاستيلاء عليها و الحرمان من المحاكمة العادلة و الاحتجاز بدون سند من القانون و الهجوم مع المدنيين و المواقع المدنية و الإفراط في حوادث القتل أو الإصابة و الضرر و الهجوم على أماكن غير محمية عسكرياً و قتل و إصابة الناس غير المحاربين و الهجوم على أماكن ممنوع مهاجمتها عسكرياً ، وتدمير ملكية العدو و الاستيلاء عليها و حرمان مواطني القوة المعادية من الحقوق و الأفعال و السلب و استخدام الغازات و السوائل و المواد و الأدوات الممنوعة كاليورانيوم المنضب و انتهاك الكرامة الشخصية و العنف الجنسي و التجويع كواحد من أساليب الحرب و القتل و المعاملة القاسية و التعذيب و أخذ الرهائن و الحكم بالسجن أو الإعدام دون أخذ الإجراءات اللازمة لذلك وتهجير المدنيين و القتل أو الإصابة غدراً و التي تشكل كلها خطاً يمكن أن يرتقي إلى جريمة الإبادة الجماعية و أخيراً وليس أخراً تنصيب حكومة غير شرعية لا تمثل أبناء شعب العراق ليس هدفها خدمة أو تمثيل أو خلق الاستقرار السياسي و الاجتماعي له بل تنفيذ أهداف الاحتلال ونهب ثروات العراق لمصلح دول إقليمية شريكة لأمريكا أو متواطئة معها في كل ما نفذته في العراق كل ذلك للتنكيل بالعراق حيث التنكيل لغة هو كما ورد المنجد بمعنى نكل به أي إصابة بنازله أو صنع به صنيعاً يحذر غيره و يجعله عبرة له ونكل لغة يعني مثل أي يجعله مثلاً (( To make an example to punish server ply  )) وهي بمعنى يقسو لأن العقاب استحقاق عن فعل أو جرم ارتكب ، يستحق فاعله عليه العقاب ، لكن التنكيل هو مجموع الأفعال ذات الأذى الكبير الفاحش الذي يخرج عن حدود المألوف بدوافع من الانتقام الشخصي المرضي أو الديني أو المذهبي ، أو بهدف جعل المنكل به عبرة لإخافة آخرين ... وهو هنا يلتقي بتعريف التعذيب لأمة أو شعب لثارات تاريخية أو دينية وهو المرجح في حالة العراق حيث يمكن استنتاج القصد المحدد من تراكم نمط الأفعال الهادفة إلى تحقيق نتيجة واحدة هي التنكيل بالشعب العراقي مع استمرار الاحتلال مع أن الاحتلال غير مشروع ومؤقت حيث يقر ذلك المادة 353 من الدليل الميداني للجيش الأمريكي رقم 27/10لسنة 1956 وهو قانون داخلي نافذ (( المحتل المحارب في حرب خارجية ، حيث يستند على السيطرة على أرض عدوه ، يسلم ضمنياً بأن سيادة الأرض المحتلة لا تنتقل إلى سلطة الاحتلال ، فالاحتلال بجوهره مؤقت )) ... إلا أن أمريكا لا زالت تحتل العراق منذ سبعة أعوام ونيف ولا زالت ....

 

 * * * * * * * * * * * * * * * * *

([1]) أورده جيف سيمونز بكتابه التنكيل بالعراق أصدر مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1998 ص63
([2]) أورده جيف سيمونز بكتابه التنكيل بالعراق أصدر مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1998 ص63
([3]) من مشهورات مركز دراسات الوحدة العربية ط2 – 1998- بيروت – لبنان
([4]) أورده جيف سيموند بكتابة التنكيل بالعراق – مصدر سابق ص19
([5]) أورده جيف سيموند بكتابة التنكيل بالعراق –ص21
([6]) أورده جيف سيموند بكتابة التنكيل بالعراق –ص21
([7]) أورده جيف سيمونز المصدر السابق نفسه ص39
([8]) أورده جيف سيمونز المصدر السابق نفسه ص39
([9]) أورده جيف سيمونز المصدر السابق نفسه ص38

 

 





السبت٢١ ربيع الثاني ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٦ / أذار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. علي الفهداوي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة