إلى أين تتجه الأوضاع في مصر العروبة بعد اكثر من اسبوعين على انطلاق ثورة الشـعب المباركه ؟ هذا هو السؤال الكبير المطروح الآن ، والذي تتفاوت حوله الآراء والتقديرات ، في ظل تمسّك مبارك بموقعه ورفضه الرحيل ، واستمرار نظامه في التراجع ببطء وفي المراوغة والمناورة كسباً للوقت على أمل حدوث – أو إحداث - تغيير في موازين القوى المختلة لمصلحة جماهير الشعب والثورة .
لا بدّ من التأكيد أولاً على أن الإرادة الشعبية المصرية قد أسقطت النظام بالفعل ، فهو ساقط موضوعياً ، لكنه ما يزال يكابر ويناور لإعادة إنتاج نفسه بصيغ جديدة ، مدعوماً بالموقف الأمريكي – الحقيقي – الذي يعترف ضمناً بسقوط النظام ، لكنه يعمل بجدّ من أجل بلورة نظام بديل مختلف في الشكل مشابه في الجوهر ، وهمّه الأساس المحافظة على المصالح والهيمنة الأمريكية في المنطقه وعلى أمن واستقرار الكيان الصهيوني ، وعلى عدم المساس بالمكتسبات التي وفـّرتها اتفاقيـة " كمب ديفيد " ، وعلى منع انطلاق المارد المصري من قمقمه ثانيه ليقود الوطن العربي .
ولقد أدركت البوصلة الشعبية ما يحاك للثورة ، حين واصلت الصمود بإرادة حديدية ، ووسعت من دائرة تحركها ومطالبها ، حتى شملت المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات جميع مرافق الدولة ومنشآتها وإداراتها ، واصبحت المظاهرات المليونية أداء يومياً في جميع أرجاء مصر ، ورفضت هذه الجماهير التزحزح من ميدان التحرير بل وسّعت من رقعة سيطرتها لتصل الاعتصامات الى مقر مجلس الشعب ورئاسة الوزراء وبعض الوزارات . كما أنها تنبهت بوعي عال ٍ إلى خطورة انخراط الأحزاب الكبيرة كالاخوان المسلمين والتجمع والوفد في مــــــــــــؤامرة ( الحوار ) الذي دعا النظام اليه ، فرفضت أي شكل من الحوار قبل اسقاط رأسه ، وأعلنت عدم تمثيل الأحزاب لها ، وعدم امتلاكها لشرعية التفاوض أو الحوار باسم الشعب . وإذا ما استمرت هذه الأحزاب والقوى في التحاور مع النظام ممثلاً بعمر سليمان الذي تفضح التصريحات الأمريكية والصهيونية طبيعة ارتباطاته وعلاقاته بالدوائر المعادية ، فإن بوصلة الشعب سترفضهم وستعتبرهم شركاء في إطالة عمر النظام ورئيسه ( الذي فضحت الدوائر الأجنبية حجم ثرواته وثروات عائلته التي اقتربت من 70 مليار دولار) ، ولن تجدي كل التبريرات التي يسوقونها أو التي سوف يتعللون بها . لذا بات مطلوبا من هذه القوى والأحزاب الانسحاب الفوري مما أسمي بالحوار ، والتساوق مع التوجهات الجماهيرية قبل فوات الأوان .
أما الجيش المصري بقطاعاته المختلفه والذي هو جيش من المجندين الذين ينتمون في غالبيتهم العظمى الى الطبقات الدنيا والفقيرة من المجتمع المصري ، فإن تاريخه يشهد بوطنيته وباستعداده العالي للدفاع عن مصر والقضية العربية . ولكن يجب عدم التوهم بأن النظام في مرحلة سقوطه لن يستخدم كل أدواته من أجل الانقضاض على الثورة وإجهاضها ، بما في ذلك بعض قادة الجيش المستفيدين من النظام والذين تربوا في الدوائر العسكرية الأمريكية – وربما الصهيونية – والذين يمكن اعتبارهم جزءً من الاحتياطي الاستراتيجي للنظام في مواجهة الشعب إلى جانب القوى الأمنية التي تربت في كنفه . وبما أن الجيش يأتمر بقياداته العليا وفق التسلسل ، فإن احتمال زجّ قطاعات منه في مواجهة مع قوى الثورة الشعبية في حالة زيادة الضغط على النظام ووصول السكين إلى رقبته هو احتمال وارد جداً ، خاصة وأنه قد ثبت بأن النظام كان وراء كل اعمال الحرق والتخريب التي تمت في الأسبوعين الماضيين بما في ذلك حرق مقرات حزب النظام نفسه ، وربما عاد لاستخدام هذه الوسيلة مجددا لتبرير تدخل الجيش بالقوة تحت شعارات مضللة كفرض النظام والأمن والمحافظة على ممتلكات الدولة ، مما ينبغي التنبه له والعمل على استباق هذا الاحتمال بالمزيد من التوعية والتلاحم مع الجيش ، وقطع الطريق أمام أية محاولة لتوظيف قطاعات منه ضد الثورة ، خاصة وأن عمر سليمان قد أشار في آخر تصريحاته إلى أن " الانقلاب " يمكن أن يكون خياراً إذا ما توقف " الحوار" ، دون أن يوضح طبيعة الانقلاب الذي يقصده .
إن ثقتنا بقدرة الشعب المصري ووعيه ، وبالقوى الشبابية التي تمسكت بقوة بالثوابت والشعارات التي رفعتها ، والتي تمتعت بقدرات تنظيمية هائلة ، تجعلنا نطمئن إلى مستقبل الثورة رغم ما يحيط بها من عراقيل ومصاعب وتحديات . قال أحد المتظاهرين المصريين في مقابلة تليفزيونية : ( لقد توحد الشعب تحت شعار واحد هو اسقاط النظام وليس الرئيس فقط ، ويكفي الثورة فخرا انها اخمدت الفتنة الدينية والمذهبية التي أشعلها النظام ، حيث أثبتت دوائر المخابرات الأجنبية ان اعوانه هم الذين فجروا كنيسة الاسكندريه .. كما يكفيها فخرا أنها استطاعت ان تنظم شؤون المحتشدين في ميدان التحرير وفي ارجاء مصر كلها ، وللدلالة على ذلك فان آلافاً من البشر يستخدمون دورة مياه واحدة دون حدوث اية مشكلة ؟! ) ..