شبكة ذي قار
عـاجـل










رغم العواصف السياسية التي تضرب العديد من المواقع والتي بلغ بعضها مستوى الإعصار كما حصل مع العراق وكما يجري في السودان وقس على ذلك فلسطين ولبنان واليمن وانتهاء بالإعصار التونسي، فإن الذي جرى ويجري في مصر وكان أبرزه، التفجير الذي طال كنيسة قبطية في الإسكندرية هو مؤشر خطير، لسببين: الأول لأنه حصل في مصر، والثاني لأنه اتخذ بعداً دينياً.

 

لذلك، فإنه وأن قد حصلت أحداث لاحقة شدت الأنظار عن حدث الداخل المصري، إلا أن ذلك يجب أن لا يدفع هذا الذي حصل إلى تجاهله واعتباره حدثاً عابراً لا تكفي ردود فعل شاجبة للنظر إليه مجرد حادثة منفصلة عن سياق عام. ولذلك فإن الخطورة الكامنة وراء هذا الحدث، توجب ان تسلط الأضواء على الخلفية والأسباب الحقيقية لهذا الحدث  وهذه هي - مسؤولية عامة لأنه لا يمكن لأحد ان يكون بمنأى عن تداعيات هذا المخطط الذي لا يبدوأنه صاعقة في سماء صافية، خاصة وأن هذه التداعيات لا تقتصر تأثيراتها على الداخل المصري وحسب، بل تطال المكون القومي العربي من محيطه إلى خليجه..

 

إن مصر هي القطر الأكبر والأفعل في الوطن العربي، وهي بحكم موقعها مؤهلة لأن تلعب دوراً متعدد الأبعاد، عربياً ومتوسطياً وافريقياً واسيوياً. وقد أختبرت فاعلية هذا الدور يوم كانت تشكل واحدة من ركائز اصطفاف دولي عرف "بعدم الانحياز". ولعل الحقبتين اللتين كانتا الأبرز في معطياتهما في تاريخ مصر الحديث، هما حقبة محمد علي منتصف القرن التاسع عشر، والحقبة الناصرية التي جعلت مصر دولة قطبية في المديات القومية والاقليمية والدولية، مستفيدة من ميزات خاصة أبرزها موقعها الاستراتيجي أولاً، ونظامها المؤسساتي وتراكم خبراتها ثانياً. ولهذا كانت القوى التي تخطط للسيطرة على منطقة جنوب المتوسط التي يشكل المكون العربي، المكون الأكثري في تحديد هويته القومية، تضع نصب اعينها السيطرة على الموقع المصري كحد أقصى  أو احتوائه كحد أدنى  كمنطلق للسيطرة على المنطقة العربية برمتها.

 

إن التركيز على الموقع المصري، كان باعثه أن هذا الموقع بما يملكه من قدرات ذاتية تمكنه من الخروج خارج حدوده وخاصة إلى عمقه القومي،وهذا الخروج لم يكن بسبب هوس في لحظة "نشوة سياسية"، بل كان استجابة لمعطى طبيعي أملته قدرات هذا الموقع وضرورات حماية نفسه من مخاطر خارجية.

 

لذلك، لم تكن مصادفة، ان توجه فرنسا – نابوليون في أوج مرحلة توسعها الاستعماري أنظارها إلى هذا الموقع بالنظر لأهمية في الجغرافية- السياسية لمنطقة يعيش فيها مكون قومي واحد على امتداد شواطئ المتوسط الشرقية والجنوبية في مقابل تعدد قوميات على الشواطئ الشمالية والغربية. وان التفكير بإقامة وطني قومي لليهود في قلب المنطقة – العربية، لم يكن اختياراً بريطانياً بداية، بل كان اختياراً فرنسياً باعتبار فرنسا كانت في الحقبة النابوليونية الموقع الأكثر تأثيراً في السياسية الدولية.

 

إن تزامن بداية الخطوات التنفيذية لتحقيق الوعد بإقامة وطني قومي لليهود عبر إعلان بروتوكالات حكماء صهيون مع إنطلاقة محمد علي خارج حدود مصر، يؤكد بأن الإدراك المبكر لأهمية الموقع المصري ودوره في إعادة استنهاض شعبي في منطقة تترامى على مساحة واسعة تمتد من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، هو الذي جعل المشروع الصهيوني يُحتضن دائماً من المركز الدولي الأكثر تأثيراً في السياسة الدولية، والذي بدأ مع فرنسا وانتقل إلى بريطانيا وها هو اليوم يستقر في الحضن الأميركي.

 

يقول أحد المنظرين اللبنانيين وهو الدكتور فؤاد افرام البستاني، طالما "أن الجغرافيا لا تتغير، فالتاريخ يعيد نفسه"، وبطبيعة الحال، فإن التاريخ الذي يعيد نفسه لا يكون بنفس الأدوات، بل بأدوات جديدة واستناداً إلى ثوابت الجغرافيا.

 

من هذه المقدمة، نصل إلى استنتاج، بأن الظروف والمعطيات التي فرضت نمطاً وسلوكاً معينين للتعامل مع مصر إبان حقبة محمد علي في لحظة اندفاعه خارج الحدود، تعيد نفسها اليوم ولكن بأدوات جديدة.

 

في ذلك التاريخ، لقرن ونصف مضى وما يزيد،عمدت قوى دولية متصارعة ومتضررة من  المشروع السياسي لمصر محمد علي، الى تجميد صراعاتها، لمواجهة ذلك المتغير الجديد الذي لو قدر له أن يستمر وبتواصل ويحقق أهدافه لكان   أحدث انقلاباً في العلاقات الدولية وفرض توازنات جديدة على الأقل في الحوض المتوسطي.

 

لقد حوربت مصر خارج حدودها، ودفعت للانكفاء داخل حدودها. ولما تم تقليم أظافرها في مدياتها الحيوية، أعيد وضعها تحت الوصاية الاستعمارية لفترة استمرت ما يقارب قرناً من الأمن، و لم تتلخص من أعباء تلك الوصاية إلا مع بدء الحقبة الناصرية التي أعادت مصر للعب  دور محوري في الوطن العربي والاقليمي.

 

ولما كان المشروع الصهيوني قد خطا خطوات متقدمة في تجسيده السياسي عبر كيان على الجسر البري الذي يربط آسيا بافريقيا في قلب المنطقة – العربية وعلى تماس جغرافي مع الموقع المصري، تم الانطلاق من هذا الموقع إلى العمق العربي لإيجاد ظروف ومناخات تجعل التهديدات لهذا الكيان تتضاءل نزولاً إلى درجة الصفر، وعلى هذا الأساس أعيد التركيز على الموقع المصري لاضعافه واحتوائه باعتباره الموقع الأقوى والأفعل والذي شكل إبان الحقبة الناصرية جاذباً سياسياً قومياً، ورافعة للعمل العربي التحرري ضد المخططات الاستعمارية وكل أشكال الوصاية.

 

من هنا، أعطت قوى (التحالف الصهيوني – الأميركي) باعتبار أميركا أصبحت مركز الثقل الأساسي في إدارة السياسة الدولية أولوية للتعامل مع الموقع المصري بعد انتهاء الحقبة الناصرية التي امتدت لعشرين عاماً، وكانت اتفاقيات كمب دافيد، المولود السياسي الذي رأى النور على يد القابلة الأميركية. وكانت فيما تهدف إليه، استحضاراً لنتائج التعامل الدولي مع مصر إبان محاصرة محمد علي، ووضع مصر تحت وصاية استعمارية .

 

من يراقب فترة المئة عام التي كان فيها الدور المصري معطلاً ومنشغلاً في مشاكله الداخلية والتي خلالها أنجز التحالف الصهيوني – الاستعماري واحداً من أهم أهدافه إلا وهو زرع جسم غريب في قلب الوطن العربي تنفيذاً لتوصيات مؤتمر باترمان، يجد نفسه اليوم أمام بداية مشهدية سياسية، تتمثل بانكفاء الدور المصري والذي بدا ضمور تأثيره في العديد من الأزمات الكبيرة إلا ما كان مطلوب منه القيام به وفق الاملاءات الأميركية في لحظة تحديد الخيارات الحاسمة، كما حصل في التعامل مع العراق، حرباً أولى وثانية وحصاراً سياسياً واقتصادياً وكما يحصل ايضاً مع الموضوع الفلسطيني، حيث تحولت مصر من موقع حاضن للقضية الفلسطينية والمشروع النضالي الفلسطيني إلى وسيط بين الطرفين وتقارب الرؤية الأميركية في التعامل مع هذه القضية سواء كان التعامل ميدانياً أم سياسياً.

 

وإذا  كان القرار الدولي، إبان حقبة محمد علي، فرض على هذا الأخير أن يستقل بحكم مصر، فإن هذا الاستقلال لم يستطع أن يحمي نفسه، إذ سرعان ما وضعت مصر تحت وصاية استعمارية،واليوم فإن القرار الدولي الحديث، وبعد التوقيع على اتفاقيات كمب دافيد، فرض على مصر أن تستقل بحكم ذاتها فقط، وسرعان ما تبين أن الاستقلال لم يكن سوى مظهرية شكلية، اذ ان القيود التي فرضت على الحراك السياسي المصري جعلت هذا الاستقلال مفرغاًً من مضمونه الوطني، وهو في حقيقته كان استقالة عن دور مصري خارج الحدود وخاصة في المدى القومي ولهذا ومنذ اتفاقيات كمب دافيد، فقد الموقع المصري دوره في التعاطي مع الأزمات الوطنية العربية، ولم يعد موقع مصر يشكل مركزاً جاذباً وهذا ما أدى إلى حصول فراغ في المنطقة، دفع قوى اقليمية أخرى تتقدم لملء هذا الفراغ لأن الطبيعة تأبى الفراغ.

 

إن من ينظر للابعاد الاستراتيجية لهذه الانكفائية، يرى انها تأتي كنتيجة للمعطى الذي أفرزه الصراع العربي – الصهيوني، وإخراج مصر من آليات هذا الصراع استناداً إلى اتفاقيات كمب دافيد وبذلك، فإن هذه الاتفاقيات التي وقعها النظام المصري، لم تكن اتفاقيات تهدف إلى فض اشتباك عسكري وبما يمكن مصر من استعادة سيادتها  على اقليمها الوطني، وحسب، بل هدفت إلى تكبيل الدور المصري تمهيداً لإعادة تموضعه، وها هو قد اعيد تموضعه.

 

وبما أن قوى التحالف الصهيوني – الأميركي كما غيرها  تعرف أن أي اتفاقية، إنما تكون انعكاساً لميزان قوى سائد في مرحلة معينة، وبما أن موازين القوى ليست حالة ثابتة، وبالتالي هي عرضة للتغيير والتبدل، بتبدل المعطيات والظروف، فإن أطراف هذا الحلف، خططت وتعمل لتثبيت نهائية مفاعيل اتفاقيات كمب دافيد، وخلق ظروف ومناخات محيطه بوضع  الموقع المصري داخلياً وخارجياً، تجعل من الصعوبة بمكان، تمكينه من الخروج من شرنقة هذه الاتفاقيات والعودة إلى وضعه الطبيعي الذي تمليه معطيات الجغرافيا والديناميكية التي يختلج بها الشعب المصري وهو يختزن في ذاته إرثاً تاريخياً ودوراً تؤهله إمكاناته وتحفزه مصالحه لإعادة احيائه مجدداً.

 

انطلاقاً من أهمية هذا الموقع، لم تكتف قوى التحالف الاستعماري (الأميركي) – الصهيوني على الاكتفاء بالإطار النصي لاتفاقيات كمب دافيد، الذي وفر اعترافاً مصرياً بالكيان الصهيوني وأمناً على الحدود الجنوبية لهذا الكيان، بل سعت وتسعى إلى إعادة تعريف الأمن الصهيوني، هذا الأمن، الذي لا يرى فيه الكيان الصهيوني أنه أمن بالمفهوم الفني للكلمة والمصطلح، أي علاقات طبيعية وحسب، بل اعتبار أن هذا الأمن مرهونة شروط تحققه، بانعدام القدرة لدى من يعتبر في الموقع النقيض على تهديد الأمن الصهيوني، وقد عرفت الاستراتيجية الصهيونية الأمن المطلوب توفره للكيان الصهيوني بأنه أمن اقتصادي اجتماعي – سياسي – ثقافي، وأنه من شروط الأمن الاقتصادي، أن يكون للاقتصاد الصهيوني حق العبور إلى الاقتصاد العربي، ضمن منظومة ما يسمى بالسوق الشرق الأوسطية – ومن شروط الأمن السياسي، أن يكون الاعتراف السياسي – بشرعية الكيان الصهيوني، اعترافاً سلساً وغير مشوب بأي عيب – ومن شروط الأمن الثقافي، أن يسقط العرب من ذاكرتهم كل المخزون الثقافي التاريخي بالأحقية التاريخية للعرب في فلسطين، ومن شروط الأمن الاجتماعي، أن تكون الشرائح المجتمعية العربية، في خدمة الرأسمال الصهيوني، بحيث يتحول العرب إلى يد عاملة رخيصة في خدمة الكارتلات الاقتصادية والاستثمارية، وبالتالي ربط رغيف الخبز العربي بالآلة الاقتصادية الصهيونية، وهذا بالطبع لا يمكن أن يحصل إلا بإسقاط المواقع العربية الأساسية وإعادة صياغة أوضاعها السياسية والمجتمعية على أسس ومفاهيم جديدة تتعارض ومفهوم الدولة الحديثة وبعبارة أخرى، إسقاط منظومة الدولة المؤسساتية ورسم خوارط تقسيمية جديدة في الداخل العربي. وبطبيعة الحال فإنه عندما تسقط الدولة بمفهومها المؤسساتي، يتحلل العقد الاجتماعي الناظم للعلاقات الاجتماعية، وتستحضر غرائزية مرحلة ما قبل قيام الدولة الحديثة، كالحالة الطائفية والمذهبية والقبلية والعشائرية.

 

إن هذا التصور لإبعاد الاستراتيجية الصهيونية – ليس ضرباً من ضروب الخيال بل هي الحقيقة التي تعمل مراكز الدراسات الاستراتيجية لدى الكيان الصهيوني لإخراجها من حيز التصور إلى حيز التمظهر العلني والعملاني، وفي دراسة حول استراتيجية "إسرائيل" في الثمانينات، نشرت في بداية ذلك العقد من الزمن، يقول (اوديدنيون) وهو خبير ومحلل استراتيجي صهيوني وشغل مواقع في مراكز القرار السياسي، أن أمن "إسرائيل" لا يتحقق بما تملكه من قدرات عسكرية رادعة وحسب، لأن الطرف آخر يمكنه الحصول عليها، بل أمن "إسرائيل" هو أمن اقتصادي اجتماعي سياسي بالدرجة الاولى، وهذا لا يتحقق إلا بخلق واقع في الدول العربية تجعل القدرة على المواجهة تنعدم وتصل إلى مستوى الصفر، وهذا يتطلب العمل لإعادة صياغة الخوراط السياسية في الدول العربية، عبر العمل لتغذية الصراعات الدينية والمذهبية والطائفية والقبلية، وجعل الحدود السياسية ترتسم بحدود الطوائف والمذاهب، وفي استعراض التفاصيل، يقول يجب تقسيم سوريا إلى ثلاث كيانات ولبنان قد قطع شوطاًُ في تقسيمه الواقعي، والعراق يجب تقسيمه أيضاً إلى ثلاث كيانات والجزيرة العربية، وأما مصر فيجب إثارة نزاع ديني بين المسلمين والإقباط.

 

هذه التقسيمات التي تولد نزاعات بين المكونات المجتمعية في الدول العربية تجعلها تتصارع فيما بينها، وتصبح "إسرائيل" هي الموقع المقرر في محيط محكوم بالتنازع الداخلي والذي يحول الاهتمام إلى صراع الداخل بدل التوجه إلى الصراع مع الخارج.

 

إن هذا دل على شيء فإنما يدل بأن الصراعات في الداخل العربي، بين مكونات متعددة الانتماء الديني أو المذهبي أو الأقلوي القومي هي هدف تسعى الحركة الصهيونية لتغذيته وبالتالي أنها تتصرف وفق ما تعتبره مصلحة استراتيجية لها. وأنه بطبيعة الحال فإن هذا المشروع لا يمكن أن يتحقق إلا إذا أسقطت المواقع الأكثر قوة والأكثر قدرة على حشد القوى والامكانات في مواجهة المرتكزات السياسية للمشروع الصهيوني. ضمن هذا السياق حصلت عملية احتواء الموقع المصري عبر اتفاقيات كمب دافيد، وضمن هذا السياق جاءت عملية إسقاط العراق، باعتبار أن مصر والعراق هما الموقعان الأهم في الوطن العربي،ان من حيث القدرة والامكانات وأن من حيث المؤهلات للعب دور يكون بمثابة الرافعة والحاضنة لأي عمل عربي ذي أبعاد وحدوية.

 

إن إسقاط العراق، أسقط مشروع الدولة الحاصنة والضامنة للأمن الوطني والأمن الاجتماعي، وعندما نزع هذا الغطاء، سقط نظام الأمن الاجتماعي، وأنه في نفس الوقت الذي كانت فيه القوى الوطنية والرافضة للاحتلال تقاوم الاحتلال، كانت القوى المرتبطة موضوعياً بالمشروع الصهيوني تنفيذ الاستراتيجية الصهيونية بإثارة نزاع ذي طبيعة مذهبية ودينية.

 

لقد أدى تطييف الحياة السياسية في العراق والنفخ في البوق الديني والمذهبي إلى إدخال العراق نقف مظلم وما تعرض له المسيحيون في العراق لم يكن بسبب نزق ديني، أو تعصب مذهبي عارض، بل يأتي في سياق تنفيذ واحدة من رزنامة الأهداف الصهيونية التي كانت ترى في الموقع العراقي، الموقع العربي الثاني الذي يلي الموقع  المصري في أهمية.

 

ولهذا أسقط هذا الموقع بوسائل غير تقليدية – لأنهم لم يستطيعوا أن يسقطوه بالوسائل التقليدية وبالأدوات الداخلية والإقليمية المتحالفة موضوعياً مع المشروع الصهيوني وأن هذا الذي جرى ويجري في العراق ويعمل لأجل تثبيته، فليس إلا لأجل أن تجعل استعادة العراق لموقعه ودوره أكثر صعوبة وأكثر تعقيداً وأكثر تكلفه.

وكما الحال في التعامل مع الموقع العراقي، فإن التعامل مع الموقع  المصري يحتل أولوية رغم الهدوء السياسي في العلاقات بين الإدارة السياسية في مصر والمركز الدولي المقرر في السياسية الدولية والحاضن للمشروع الصهيوني.

 

إن التحالف الأميركي – الصهيوني يعي جدياً، أن مصر مكبلة باتفاقيات كمب دافيد، وهي لا تستطيع الخروج منها في ظل المعطى الحالي سواء بالنظر لمعطى الوضع الداخلي أو لمعطى الوضعين الاقليمي والدولي السائد حالياً. ولذلك يجب العمل لدرء أخطار مستقبلية، ولدرء هذه الأخطار يعمل هذا التحالف الانكفائية السياسية المصرية حالة ثابتة في الإدارة السياسية للنظام وأيضاً وضع اتفاقيات كمب دافيد موضع الاختبار العملي الدائم والمتواصل والأهم من ذلك تثقيل هذا الموقع بجملة معوقات موضوعية.

 

أولى هذه المعوقات، إيجاد أرضية لنزاع ديني بين مكونات الشعب المصري عبر قطباه المسلم والمسيحي، وثاني هذه المعوقات إيجاد أرضية لنزاع مع بوابة العبور الافريقي عبر إضعاف التأثير المصري على دول المحيط الافريقي- العربي منها وغير العربي. والعامل الأساس في ذلك التأثير على الموقع المصري من خلال تعددية القوى المقررة في الثروة المائية التي تتغذى منها مصر والمقصود بها مياه النيل.

 

إن تقسيم السودان وسلخ الجنوب عنه، ليس فيه إضعافاً للسودان وحسب كموقع عربي ذي أهمية خاصة في سلة الغذاء العربي، بل يستهدف الموقع المصري لأن هذا الأخير لا يمكنه أن يستمر طويلاً في حالة الترهل السياسي التي يعيشها الآن. لا بل لا بد أن يعود وينتفض وحتى لا يصل إلى مستوى الانتقاض، يجب إغراقه بأزمات داخلية بنيوية كالصراع بين المسلمين والاقباط وفتح جرح في خاصرته الجنوبية الافريقية، تشكل عامل الهاء واستنزاف وضغط مستمر لإبقائه ضمن دائرة الخيارات المفروضة عليه، وبمعنى آخر إعادة وضعه تحت وضع وصاية سياسية شبيهة بتلك الحالة التي حصلت لمصر بعد ضرب مشروع محمد علي يوم سعى الخروج خارج حدوده.

 

من هنا، يجب فهم الإبعاد الكامنة وراء مشروع إثارة الصراع الداخلي في مصر بإبعاد دينية، والذي كان حادث كنيستي الإسكندرية، عشية أعياد الميلاد حلقة من مسلسل سوف يتكرر في أماكن أخرى.

 

 قد لا تؤدي مثل الأحداث إلى حصول تقسيم في مصر، لكن ستبقى تشكل عامل إرباك، وعامل تعطيل وعامل إنهاك سياسي لموقع مقدر له أن يكون في موقع معين فإذا به يكون في الموقع النقيض.

 

على هذا الأساس يجب النظر إلى خطورة ما جرى في مصر مؤخراً وما يجري حولها. وأن هذا ما كان ليحصل لو لم تستقل مصر من دورها ويرضى نظامها بممارسة الانكفاء السياسي، وينخرط بوعي أو بدون وعي في منظومة سياسية جديدة يطلق عليها منظومة الشرق الأوسط الجديد.

 

إن انكفاء مصر، لا يحمي استقلالها الوطني، وانكفاء مصر، يسقط دورها الطبيعي في أمتها العربية، وانكفاء مصر يلغي دور المركز القومي الجاذب، ويمكن الأخرين من ملء الفراغ.

 

 فهل من الطبيعي أن تبقى مصر في موقع العاجز عن الحركة، والعراق يطيف والسودان يقسم وفلسطين تجهض مسيرتها النضالية ولبنان يثقل بأزمة سياسية واليمن تستنزفه الأزمة الداخلية التي أخذت بعدها خطيراً.

 

إن هذا ما كان ليحصل لولا انكفاء مصر عن دورها الطبيعي، وعندما لا تستطيع أن مصر أن تمارس دوراً في حل الأزمات الوطنية العربية، فإن الارتداد على وضعها الداخلي سيكون أسرع من اللازم وستغرق نفسها في فوض يخشى أن تكون شكلاً من أشكال الفوضى الخلاقة التي روجت إليها إدارة المحافظين الجدد في أميركا.

 

صحيح أن مصر، دفعت ثمناً أثناء حملها لواء التوحد القومي وبناء الكيان العربي الواحد، لكن هذه الأثمان ستكون باهظة أكثر إذا، استمرت في حالة انكفائها والتنازل عن دورها كدولة محورية وقطبية في الوطن العربي.

 

إننا لا نريد أن تدخل في نقاش حول مسؤولية النظام السياسي في مصر حول تعامله مع الاقباط لجهة المواطنية الكاملة، لأنه لا يجوز أن يكون هناك تفاوت في المواطنية لجهة الحقوق المدنية والسياسية.وفي أنه لا يجب أن ينظر لأي فئة تنمتي إيمانياً لدين غير دين آخر على أنهم أقلية، لأن الكل يجب أن يكونوا على درجة واحدة من المواطنة، وأن النظر إلى المسيحيين في مصر أو في أي قطر عربي آخر على أنهم أقلية وفي مرتبة دونية من الحقوق المدنية والسياسية،  بشكل أرضاً خصبة لتدخل قوى ذات أهداف في إثارة نعرات دينية ومذهبية وطائفية، وتوظيف الصراعات الحاصلة في سياق تحقيق الأهداف الاستراتيجية المرسومة فالمسيحيون في مصر كما في العراق وأقطار عربية أخرى هم في تعدادهم أقل من المسلمين ولكنهم ليسوا أقلية في انتماء المواطنة والانتماء القومي.

 

وهذا ما يجب أن يعيه الجميع ويجب عدم التقليل من خطورة ما حصل في الإسكندرية وما حصل قبل ذلك وبعد ذلك في أماكن أخرى من مصر. إن المخطط الصهيوني وضع دائماً في صلب استراتيجية تحييد مصر واخراجها من دائرة الصراع معه،هذا ما يجب ان ترفضه مصرأولاً والعرب ثانياً لان مصر كانت ويجب ان تبقى قاعدة الهرم العربي.فالازمات السياسية وان طالت ستجد حلولاً لها،اما الازمات البنيوية فهي الاخطر لانها تضرب مقومات الكيان وتدفع الى صراعات بين المكونات المجتمعية على أساس دينية ومذهبية واثنية،بحيث يصبح الجميع أسرى صراعهم الداخلي،أليس هذا ما يريده العدو الصهيوني؟؟؟؟؟؟؟

 

 





الخميس١٦ صفر ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٠ / كانون الثاني / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المحامي حسن بيان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة